[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

تقاسيم على قيثارة مالك بن الرَّيب

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - تقاسيم على قيثارة مالك بن الرَّيب

يوشكُ الآنَ

أنْ ينتهي زمنُ الوَصْلِ والفَصْلِ،

أنْ ينتهي زمنُ الخيلِ واللَّيلِ،

أنْ ينتهي بينَنا.

- مهرتي وأنا، كلُّ شيءْ.

توشكُ النارُ في الجسدِ المتألِّمِ

أنْ تنطفي

أنْ تعودَ إلى نهرِها..

مهرتي تركضُ الآنَ عاريةً،

هيَ تمضي جنوباً

وأمضي شمالاً،

تطاردُ ظِلَّ الغزالةِ

أمّا أنا فيطاردُني اللَّيلُ

يلحقُ بي،

أسمعُ الآنَ رَجْعَ حوافرِها

فوقَ صخرِ الزَّمانِ

أرى صورتي في الصَّدَى،

وأراني فتىً تتألَّقُ أحلامُهُ

يتسلَّقُ خارطةَ الثورةِ البِكْرِ،

ينتزعُ الشمسَ منْ أفْقِها

ويقدِّمُها للحبيبةِ مَهْراً،

أراني أنازلُ بالكلماتِ

وبالسيفِ غولَ الخرافةِ،

أسخرُ مِنْ كلِّ ما كتبوا

أتقيَّأُ كلَّ الذي قلتُهُ، ويقولونَ

أسخرُ منْ لغتي

وتضاريسِ وجهي،

منَ اسْمي وعائلتي.

مهرتي تركضُ الآنَ عاريةً

يتلاشى الصَّدَى فوقَ صَخْرِ الزَّمانِ

فأسمعُ صوتَ أنيني:

بكى الشِّعْرُ مرثيّاً، وأجهشَ راثيا
وأمطرَ منْ نارِ الدموعِ القوافيا

تقرَّحَ في ليلِ المآسي جبينُهُ
وأجدبَ أبعاداً، وجفَّ مبانيا

تأبَّطَهُ منْ لا يطيقُ احتراقَهُ،
وعانَقَهُ منْ لا يجيدُ التَّلاقيا

ولي في سماءِ الفَنِّ منهُ عرائسٌ
تقيمُ على خدِّ النجومِ المراقيا

ب (وادي الغضا) غنَّيتُ للحبِّ غنوةً
تناقلَها الشَّرْقُ المغَنِّيُّ لاهيا

وحينَ دعاني الموتُ لبَّيتُ صوتَهُ
بقافيةٍ، كادتْ تشقُّ المآقيا

لماذا يموتُ الشِّعْرُ في عنفوانِهِ،
ويسقطُ حرفُ اللهِ ظمْآنَ باكيا؟

تطاردُهُ (زرقُ العيونِ) وَعُوْرُها
تساومُ فيهِ الموقفَ المتساميا

يطوفُ حَواليهِ وحيداً فلا يرى
سوى اللَّيلِ طَوّافاً عليهِ، وساقيا

أيركعُ؟ لا.. مهما يكنْ عُنْفُ ليلِهِ
فما زالَ موتُ النفسِ، للنفسِ شافيا

استغاثاتُ (يافا) تحاصرُني
توقظُ الجسدَ المتألِّمَ منْ موتِهِ،
كلَّما أطبقَ الموتُ أجفانَهُ،
أيقظتْهُ رياحُ النَّشيجِ،

يصيرُ النشيجُ دماً

يفتحُ الدَّمُ نافذةَ الذِّكرياتِ..

أراها..

ينامُ على صدرِها (الغَجَرُ) القادمونَ

معَ اللَّيلِ،

أبناؤُها لا يطيقونَ رؤيتَها

يرفضونَ الوصالَ،

ومن دَمِها يكتبونَ القصائدَ عشرينَ عاماً،

ويحتفلونَ بأحزانِها كلَّ يومٍ

على حائطِ الكلماتِ الشَّريدةِ..

أصرخُ:

ها هوَ ذا يا (ابنَ عَفّانَ) بابُ الجهادِ،

وهذي ثغورُ الشَّآمِ على اللَّيلِ مفتوحةٌ..

تتمزَّقُ حنجرتي،

وعلى القُرْبِ وجهُ (خُراسانَ) يضحكُ

من وجعي،

والنجومُ المسَدَّسَةُ الحدِّ

تجرحُ وجهَ مآذنِ (يافا)،

وفي اللَّيلِ تخبو سيوفُ (ابنِ عَفّانَ)،

يبتلعُ الرملُ صوتي

وأسقطُ في جرحِ ذاكرتي:

أرى وجهَ (صنعا) في النجومِ معاتباً
وأقرأُهُ في الحُلْمِ غَضْبانَ شاكيا

بقلبٍ أناجيها فيورقُ جَفْنُها
دموعاً، وتنسى في الضلوعِ المناجيا

حملتُ هواها في ضميري، وفي دمي
زرعتُ لها شمساً ونهراً وواديا

فصنعاءُ أمُّ الشعرِ والشوقِ والهوى
وكانتْ - وما زالتْ - هوانا المثاليا

إذا نَسِيَتْ حُبّي، ونهرَ قصائدي
فإنَّ هواها في دمي ليسَ ناسيا

وهبتُ لها وجهَ الشبابِ، وهذه
بقيّةُ ماءِ العمرِ، أسفحُ راضيا

ينافسُني في حبِّها الفَجْرُ والضُّحَى
ويبقى إليها القلبُ غَرْثانَ صاديا

أظلُّ بنارِ الشوقِ أشْوي عواطفي
حنيناً، وأشْوي في الحنينِ فؤاديا

كتبتُ بدمعِ القلبِ أسْفارَ شوقِنا
إليها، وناجيتُ الحسامَ اليمانيا

فلم تستثرْ صمتَ الجبالِ، ولم تُثِرْ
بأحزانِها، عَبْرَ البحارِ، الموانيا

منْ بعيدٍ يُدَوّي الرَّصاصُ المغامرُ

كلُّ الشبابيكِ مقفلةٌ،

وعيونُ المساءِ رماديَّةُ اللَّونِ
مثقلةٌ بالجراحِ النجومُ،

تعودُ العصافيرُ مغسولةً بِدَمِ النَّخْلِ

والموتُ يفتحُ بوّابةَ الشرقِ

تلمعُ أنيابُهُ..

حُبُّنا العربيُّ ذَوَى،

ماتَ والبَحْرُ،

طالَ انتظارُ البراعمِ.

كانَ الزَّمانُ يمدُّ يداً
ويشدُّ يداً،

والرَّصاصُ يصافحُ (عَمّانَ)
و (القُدْسُ) تدفنُ أحزانَها في عيونِ الترابِ

الجريحِ،

تنادي ولا صوتَ

كانَ (البُراقُ) يعودُ فلا يجدُ الصَّخْرَةَ / الأرضَ،
أينَ يحطُّ الجناحَ،

بكى كجوادي غداةَ الفراقِ
وألقى متاعَ النبوَّةِ عنْ ظَهْرِهِ،

ومضى يذرعُ الأفْقَ

بحثاً عنِ الصَّخْرَةِ الضّائعةْ.

هوَ ذا يركضُ الآنَ حولَ (دمشقَ) الجديدةِ

(عَمّانُ) تغتالُهُ،

وشوارعُ (بيروتَ) ترفضُهُ..

أينَ يخفي الدموعَ

وقد أثقلتْهُ المواجعُ؟

أينَ ينامُ (البُراقُ) الجريحْ؟!

يحاصرُني ليلُ الزَّمانِ، كأنني
نهارٌ تحدَّى، بالشموسِ، اللَّياليا

ويفجأُني، في كلِّ يومٍ، بغارةٍ
وأقرأُ فيهِ، كلَّ يومٍ، مُعاديا

يبعثرُني في ساحةِ الحزنِ كَفُّهُ
كما بعثرَ الصيفُ الرِّمالَ السَّوافيا

وتضحكُ مِنّي، كلُّ دارٍ شريدةٍ
"كأنْ لم تَرَ قَبْلي شريداً يمانيا"

أصيحُ بلا صوتٍ، وأشكو بلا فمٍ
وأبكي بلا عينٍ، وأحسو بُكائيا

أمامي جحيمٌ لا أطيقُ اقتحامَهُ،
وويلي إذا ما عدتُ يوماً ورائيا

وقد خانني الشِّعْرُ الحنونُ، وكانَ لي
رفيقاً، وإنْ حاربْتُ كانَ حُساميا

(خُراسانُ) تلهو بي، و (عَمّانُ) محنتي
و (بغدادُ) نجمٌ صارَ في الأفْقِ خابيا

و (صنعاءُ) ، ما (صنعاءُ) ألمحُ في الدُّجَى
مآذنَها مُسْتَسْلِماتٍ، بواكيا

تقرَّحَ وجهي في الشُّعُوبِ، ولم أجدْ
لفاتنةِ القلبِ الطبيبَ المداويا

جسدي يذبلُ الآنَ

تبتلُّ في دمعِهِ الكلماتُ،

و (وادي الغضا) ليسَ يدنو..

لمنْ أهبُ السيفَ..

هذا الذي أرضعتْهُ الحروفُ على صَهَواتِ اغترابي،

وكانَ رفيقي إذا عربدَ اللَّيلُ في رحلتي

واستنامتْ عيونُ الرِّفاقِ؟

مهرتي لم تعدْ غيرَ ذِكْرَى،

يحاصرُني النومُ

ها أنا ذا نِمْتُ

مِتُّ

انتهى جسدي،

أصبحَ الوقتُ للموتِ

لا وقتَ للشِّعْرِ

لا وقتَ للحربِ..

فَلْتَرْكُضي مُهْرَةَ الفَجْرِ،

مُدّي الخطى.

أيّها السيفُ نَمْ
أيّها الشعرُ نَمْ،

واسترحْ يا جوادْ.

1974م

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى