[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

ضريح من الكلمات ل(مريم)

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - ضريح من الكلمات ل(مريم)

- 1 -
في فلواتِ العمرِ الذّاوي
أسترجعُ شمسَ غدائرِها،
ويعودُ بيَ الشوقُ المشحونُ
بجمرِ الذِّكرى،
نحوَ زمانٍ
أشهى منْ وعدِ الحبِّ
وأنقى منْ ورقِ الوردِ،
وأصفى منْ ضوءِ نجومِ القريةِ..
يا ذاكرتي رِفْقاً
أحتاجُ إليكِ الآنَ
لأخرجَ منْ كمدي،
لأطيرَ بأشرعةِ الذِّكْرَى
في وادٍ مغمورٍ بالسَّلْوَى.

- 2 -
حينَ تفتحُ أبوابَ ذاكرتي
ستراها
على جدولٍ منْ مياهِ الطفولةِ،
ساكنةً في انتظارِ الفراشاتِ
والأصدقاءِ،
رَذاذاً منَ الأغنياتِ القديمةِ،
تهطلُ منْ حارةِ الأغنياءِ،
وينداحُ في الأفْقِ صوتُ العصافيرِ
كالشَّهْدِ،
وَهْيَ هناكَ تضيءُ
وتورقُ في حَدَقاتِ المكانْ.

- 3 -
صبحاً.. كانَ لقاءُ القلبينْ
كانَ لقاءُ الطفلينْ،
كانتْ أكبرَ منهُ قليلاً
أهدأَ منهُ كثيراً،
ترسمُهُ في عينيها في شفتيها،
يرسمُها في عينيهِ وفي شفتيهِ،
ما أعذبَ أصبعَها المصبوغةَ بالحِنّاءْ،
كمْ تنفثُ منْ ماءِ الدّهشةْ!

- 4 -
في ظهيرةِ يومٍ بهيِّ الرُّؤَى
لم يكنْ في البلادِ سوانا..
الفضاءُ لنا،
أطعمَتْني لذيذَ الحديثِ
سقتني حليبَ الهوى،
خِلْتُ أني اتكأتُ على صدرِها
أنها وضعتْ رأسَها فوقَ صدري،
وأني بنيتُ على غيمةٍ
قصرَ أفراحِنا،
ثمَّ سوّرْتُهُ بشواطئَ منْ فضّةٍ،
وبحارٍ تخلَّتْ عنِ الملْحِ
وارتحلتْ في نعاسِ الكلامْ.

- 5 -
في ضحوةِ يومٍ آخرْ
حملَتْنا أقدامُ الشوقِ لضاحيةٍ
سَكْرَى بالخضرةِ،
كانَ الضّوءُ هناكَ
يداعبُ أطفالاً
وأرانبَ،
يمشي بينَ خرافٍ ترعى
وفراشاتٍ تتوارى خلفَ الأعشابْ..
تركتْ كفّي بينَ يديها
وتسلَّلَ صوتُ المزمارِ طريّاً
ونديّاً،
ذابتْ روحانا في النشوةِ
حتى جاءَ اللَّيلْ.

- 6 -
(مريمُ احترسي
إنّ ذئبَ المجاعةِ يأكلُ أطفالَنا
ويواري الجمالَ بأكفانِهِ..
قيلَ: مريمُ جاعتْ
قيلَ: مريمُ نامتْ،
قيلَ: مريمُ ماتتْ؛
ليتني كنتُ خبزاً
تفتِّتُهُ بأصابعِها
حينَ يدركُها الجوعُ.. مريمُ،
ليتَ الحقولَ التي منعَتْها سنابلَها،
لا تطيبُ
ولا تعرفُ الاخضرارْ.

- 7 -
ولقد كرّمْنا آدمَ بالموتِ،
وكرّمْنا - بالحزنِ - الأبناءْ،
عادتْ مريمُ للطينِ
وصرتُ وحيداً..
فاكتبْ بالحزنِ ضريحاً لهواكَ الأوَّلِ،
مريمُ تحتَ الأحجارِ
وأنتَ وحيدٌ،
لا يربطُ عينيكَ بهذي الأرضِ
سوى ماءِ الحزنِ،
سوى صمتٍ يتساقطُ
في أحداقِ اللَّيلِ،
سوى رائحةٍ منها
تتجدَّدُ في كفِّكَ
في عينيكَ إذا لامسْتَ الأرضْ.

- 8 -
يهطلُ الحزنُ رملاً على كبدي
والقصائدِ،
ينهدمُ الشرقُ لا شمسَ في الأفْقِ،
ينهدمُ الغربُ لا قمرٌ
لا نجومٌ،
يوجِّهُني الحزنُ - بالألَمِ المتألِّقِ -
حيثُ يريدُ،
ومرّتْ على شاشةِ العمرِ
(أفلامُ) أذكرُ أني رأيتُ..
وشاركتُ في بعضِ أدوارِها،
بيدَ أنَّ الحبيبةَ مريمَ
حاضرةٌ في صراطٍ منَ الذّكرياتِ
مشيتُ إليها،
بنيتُ ضريحاً لها في دمِ الكلماتِ،
وأجلستُها في أرائكِ ذاكرتي،
وَهْيَ نائمةٌ
ومخبَّأَةٌ في شرودِ الترابْ.

- 9 -
يا أحبابي
يا نزلاءَ الحزنِ الدّائمِ
إنَّ خطايَ مسمَّرَةٌ
في أرضٍ تجرحُني بالذِّكرى،
تنقذُني بالذِّكرى
تكتبُ صمتي
وتقاسمُني عشبَ التّذكارِ،
تحاولُ أنْ تسلبَني عفَّةَ حزني
وتصادرَ دندنةً أطلقَها عشقي
ذاتَ مساءٍ حالِمْ..
هلْ منْ موعظةٍ
يتكئُ القلبُ عليها،
ويواري خيبتَهُ الكبرى؟!

- 10 -
سوفَ تبقى معي
في ضريحٍ تلاشتْ معالِمُهُ،
في القصائدِ،
في شارعٍ مقفرٍ لا أنيسَ بِهِ
في اشتعالِ التذكُّرِ،
في دفءِ حُلْمٍ قديمٍ
وفي كلِّ وجهٍ جميلٍ قرأتُ ملامحَهُ،
وإذا ما التقينا هناكَ
سأقرأُ ديوانَ شعري لها،
وأقولُ: هنا أنتِ مرسومةٌ في القصائدِ
منقوشةٌ - كالتّعاويذِ -
في الذّاكرةْ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى