arpo27

أستاذ التاريخ الإسلامي عبدالله الشماحي: الزيدية في اليمن «تحوثت» قبل مئات السنين

بمنهجية، يقسم الزيدية إلى ثلاث مراحل أو مدارس على مر تاريخها، حصل فيها التداخل الفكري مع بعض الأفكار من الديانات القديمة، أثرت على النواحي الإيجابية الكبيرة في المذهب الزيدي الذي يمثل حركة سياسية وعلمية منفتحة، وأن مسألة البطنين في الإمامة هي في الأصل دخيلة عليه..

الدكتور عبدالله الشماحي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة صنعاء في حوار هام أجرته معه صحيفة "الأهالي اليمنية يؤكد أن الزيدية قبل الإمام الهادي الرسي لم تكن "بالشكل الذي نفهمه الآن"، حيث كانت عبارة عن مدرسة حراك علمي وسياسي كأي جماعة تتنقل بين بلدان العالم الإسلامي.

إلى الحوار:

الصحيفة: الدارس لتاريخ الأديان وأتكلم هنا عن اليهودية والمسيحية يجد أن اليهودية أولا ركزت على فكرة الاختيار والأرض الموعودة، فيما ركزت المسيحية على فكرة الخلاص، وباستقراء تاريخ الفكر الشيعي نجده يركز على الفكرتين معا، أي فكرة الاختيار أو الاصطفاء حسب تعبيرهم وفكرة الخلاص المنتظرة من قبل إمامهم الغائب، ما وجه التلاقي بين الديانتين من جهة وبين الفكر الشيعي من جهة أخرى؟

د. عبدالله الشماحي: لا أدعي أني أمثل مرجعية في تاريخ الأديان وحديثي دائما ينطلق من فكرة اللامذهبية، ومن مفهوم الأمة الواحدة التي لا تفرقها المذهبيات، فالمذهبيات ليست دينا يجب أن يتبع وإنما هي قراءات للدين واجتهادات مرتبطة بالزمان والمكان، وهي أقرب ما تكون اليوم بالخطط الخمسية والعشرية ولكن في مجال فهم الدين وممارساته الفقهية.

ما يتعلق بالسؤال لقد حصل نوع من التأثر والتأثير بين الديانات جميعها في التاريخ القديم، كما أثرت في التاريخ الوسيط في أوروبا مثلا، من هذه العقائد والأفكار فكرة الحق الإلهي الفارسية -الهندية، التي كان لها دور كبير في التأثير على العقائد في العالم القديم وتأثرت بها اليهودية والنصرانية، عقيدة الحق الإلهي تنطلق من منطلق الاصطفائية الإلهية لبعض السلالات البشرية واختصاصها بالسياسة والقيادة والريادة العلمية والمرجعية الدينية، وتوارثها فيما بعد الملوك ورجالات الكنيسة الذين ادعوا أن مرجعيتهم تفويضية من الله، وليس للأمة حق في ذلك. والعالم الإسلامي لم يتأثر إلا قليلا بهذه العقيدة مقارنة بالشعوب الأخرى قديما، لسبب رئيس هو أن أمر الدين في الإسلام مرتبط بالنص الإلهي، الكتاب أولا ثم السنة النبوية.

الصحيفة:كيف حصل هذا التلاقح في الإسلام؟

د. عبدالله الشماحي: عن طريق المجاميع التي أسلمت في بلاد المشرق «الهند وفارس» فمنهم من خلط بين الثقافة الإسلامية وثقافته القديمة التي يحملها كمكون رئيس من ثقافته العامة، وأول من تأثر بهذه الفكرة من المسلمين الشيعة.

الصحيفة: ألم تكن الشيعة في بداية تكونها حركة سياسية لا علاقة لها بالمذهبية؟

د. عبدالله الشماحي: لم تكن حركة دينية أصلا، فقد بدأت كمجموعة سياسية مناصرة للإمام علي كرم الله وجهه في خصوماته، هذه الحركة الشيعية الأولى والتي لا تعني أكثر من مناصرة سياسية، لم يختلف أصحابها عن بقية الأمة في شيء من عقائدها وتصوراتها، فكانوا يقولون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهذا ما أقره علماء الزيدية، حتى المتأخرون منهم؛ نجد ذلك واضحا في كلام نشوان بن سعيد الحميري، وهو من علماء الزيدية حين يتكلم عن صفات الشيعة الأولى، فلم يزد في تعريفه لهم عن كونهم الذين ناصروا الإمام علي في خصوماته السياسية، كذلك الإمام أحمد بن يحيى المرتضى كما وضح في كتابه «المُنية والأمل».

الصحيفة: إلى متى امتد هذا الخط السياسي الأول للتشيع؟

د. عبدالله الشماحي: امتد حتى فترات متأخرة، ولكن كان كلما مرت فترة تغلبت مؤثرات جديدة على هذا الخط، نتيجة غلبة تيار الحق الإلهي لأن المجاميع التي أسلمت في بلاد المشرق وهي مجاميع كثيرة أثرت على النواة الشيعية الأولى حتى تحول الأمر تدريجيا إلى أمر عقائدي وفكري. وهذا حصل نتيجة تفاعل بين الجماعات وتلاقح في الأفكار، فكما تفاعلت اللغات وحصل بينها التدخل اللغوي وسمعنا عن المولد والدخيل والمعرب حصل التمازج الفكري أيضا. وهذا في إطار التسامح الإسلامي، وشعار «لا إكراه في الدين».

الصحيفة: كيف تبلورت الفكرة في صيغتها الأولى؟

د. عبدالله الشماحي: يذكر المؤرخون؛ مسلمون وغيرهم أن التشيع السياسي الأول عندما التقى بأصحاب عقيدة الحق الإلهي وإبان الفتوحات حصل هذا التبلور والمزج فكان الفارسيون يعتقدون بالاصطفائية العرقية لسلالة معينة، وعندما توسع الإسلام وانتشر حصل هذا التلاقح خاصة وأن الحسين بن علي رضي الله عنه قد تزوج ببنت الملك الكسروي يزدجرد (شهر بانو) فقال بعض هؤلاء إن أنقى سلالة بشرية حينها هي السلالة المنحدرة من سلالة الحسين بن علي «ابن فاطمة بنت رسول الله»، ومن ابنة الملك يزدجرد، فهذه السلالة -كما يقولون- جاءت من دمين خالصين الدم الفارسي الكسروي والدم النبوي العربي، وبالتالي فهذه السلالة أحق بقيادة الأمة.

الصحيفة: ولكن هناك روايات تاريخية تشكك في هذا الزواج من أساسه؟

د. عبدالله الشماحي: تاريخيا مشكك فيها، لكن جماعة الحق الإلهي يقرونها ويؤكدونها.

الصحيفة: هل حصل بينهما تناسل إن افترضنا صحة الزواج؟

د. عبدالله الشماحي: هم يقولون بذلك، ولذا اعتقدوا باصطفائها، والعجيب أن المدرسة الزيدية التي مثلت حراكا سياسيا واجتهادا علميا وانتشرت في العالم الإسلامي في المغرب والمشرق وفي الحجاز واليمن عندما ذهبت إلى المشرق والتقت بمجاميع الحق الإلهي هذه اصطدمت بها. ودخلوا مع غلاة التشيع في احتراب ومواجهات دموية، ولقيت رموزهم «الزيدية» اغتيالات طالتهم من قبل الغلاة المشبعين بعقيدة الحق الإلهي، وقد دعم الخلفاء العباسيون زيدية المشرق لمواجهة غلاة التشيع، وقد كان للإمام القاسم بن إبراهيم جد الإمام الهادي مذهب مشهور جدا في بلاد المشرق في بلاد الجيل والديلم وطبرستان ودخل صراعا فكريا حادا مع غلاة التشيع تطور إلى صراع مسلح وحرب معهم، دعمه أيضا دار الخلافة العباسية في بغداد، وحديثنا هنا عن هذين العلمين الإمامين لا ينقص من قدرهما، فنحن نقدر عظماءنا ولكن لا نقدسهم.

الصحيفة: هل كان الإمام القاسم جد الإمام الهادي يقول بشرط البطنين؟

د. عبدالله الشماحي: سؤال مهم. لم يؤثر عنه ذلك، ولم تبرز فكرة البطنين في اليمن إلا من خلال الإمام الهادي يحيى بن الحسين، ولم أعثر أنا على أي أثر عن الإمام القاسم في هذا الموضوع.

الصحيفة: إذن من أين أتت إلى الهادي فكرة البطنين؟

د. عبدالله الشماحي: معلوم أن الإمام الهادي يحيى بن الحسين المولود بالمدينة تتلمذ على فِكْر جده القاسم بن إبراهيم الذي انتقل إلى المدينة من جبال الرس في بلاد الديلم وتم تسمية المنطقة التي انتقل إليها في المدينة باسم الرس.

الصحيفة:ينفي كثير من علماء الزيدية الآن صلة الإمام الهادي ببلاد فارس، وأن منطقته ونشأته كانت في الرس في المدينة المنورة؟

د. عبدالله الشماحي: الإشكالية عند الزيدية اليمنية المتأخرة أنها تنفي أية صلة للقاسم بن إبراهيم بزيدية المشرق وهو نفي يناقضه وينافيه أمور كثيرة، أولا أن العالم الإسلامي في تلك الفترة عالم منفتح لم تكن فيه الحدود الموجودة الآن بحيث يكون أمر التنقل معه صعبا كما هو الشأن الآن؛ كانت الأرض والطرق مفتوحة لكل الناس وبالنهاية لا عيب في ذلك سواء اتصل بالمشرق أم لم يتصل، لماذا ينفون؟

ثانيا: المذهب القاسمي بالمشرق كان مشهورا حتى انهيار الزيدية في القرن العاشر، بعد ذوبانها بين مجاميع الحق الإلهي، الإشكالية عند أصحابنا من الزيدية المتأخرين عندما يذكرون الإمام القاسم يقولون إنه عاش في العراق، والمراجع القديمة تقول إنه عاش في عراق العجم، وعراق العجم هي بلاد فارس، فيحذف أصحابنا كلمة العجم ويبقون العراق، وعندما نقرؤها اليوم نجدها العراق فيتبادر إلى أذهاننا العراق بجغرافيته السياسية الحالية. وللأسف فزيدية اليمن المتأخرة لا تفرق بين زيدية المشرق وزيدية اليمن، مع أن التفريق بينهما مهم لفهم تاريخ الزيدية وتراثها والمدارس المتعددة فيها، المهم.. عندما انتقل الإمام القاسم إلى المدينة كان مشهورا وله مذهبه وأتباعه وخاصة في مناطق المشرق ولا عيب في ذلك.

الصحيفة:نبقى إذن أمام سؤال مهم هو: كيف جاءت فكرة شرط البطنين عند الإمام الهادي؟

د. عبدالله الشماحي: ثقافة الإمام الهادي العامة جزء من الثقافة الزيدية المشرقية الفارسية التي انتقل بها وجاء إلى اليمن ومن ثم أعلن هذه الفكرة!!

هل تتلمذ على يد جده وعايشه؟

د. عبدالله الشماحي: تشير بعض الكتابات إلى أن الإمام الهادي قد التقى بجده، لكن ما هو هذا الالتقاء؟ هنا تتعدد الروايات والذي يهمنا الآن هو أن هناك تراثا زيديا قاسميا ومشرقيا تتلمذ عليه يحيى بن الحسين الإمام الهادي عاد مرة ثانية إلى المشرق، ليس هذا فحسب، بل عندما جاء إلى اليمن، جاء معه كثير من أصحاب المشرق يناصرونه وهم الطبريون.

الصحيفة:كيف جاء إلى اليمن؟

د. عبدالله الشماحي: جاء بدعوة من زعماء بعض قبائلها للصلح بينهم والقصة مشهورة، جاء معه رجال من الجند والقادة المعروفين بالطبريين بل وزوج بعضاً منهم من بناته، وحقيقة عندما ننفي صلة الإمام الهادي ببلاد المشرق نحن نجافي الحقيقة.

الصحيفة: إلى جانب التأثر بثقافة فارس في مسألة الحق الإلهي في الحكم ألا يمكن أن نضيف أن الرجل جاء إلى اليمن حاكما ثم أصبح له طموح سياسي؟

د. عبدالله الشماحي: هذا جائز، إلى جانب أن الإمام الهادي حين دخل إلى اليمن يذكر المؤرخون الزيدية أمثال يحيى بن الحسين صاحب كتاب «غاية الأماني» أن الزيدية في اليمن قبل الهادي غيرها بعد الهادي.

الصحيفة: كيف كانت قبل الإمام الهادي؟

د. عبدالله الشماحي: لم تكن الزيدية قبل الإمام الهادي بالشكل الذي نفهمه الآن، كانت عبارة عن مدرسة حراك علمي وسياسي وكانوا موجودين كأي جماعة تتنقل بين بلدان العالم الإسلامي، لأنهم لم يكونوا مختلفين عن بقية الأمة، كانوا حركة معارضة سياسية في الغالب، واستشهاد الإمام زيد جعل من التسمّي بالزيدية تسمية تيمنية لمن يعلن نفسه معارضا للحكم، ولاحظ التسمية هنا سياسية بالدرجة الأولى.

الصحيفة:هل امتزجت الزيدية اليمنية القديمة بالهادوية الجديدة فيما بعد؟

د. عبدالله الشماحي: الزيدية في اليمن كما قلنا حركة سياسية وعلمية مثلها مثل أي زيدية انتشرت في العالم الإسلامي لكن بدخول الإمام الهادي عرفت فكرة شرط البطنين في الإمامة، وإن كان البعض يذهب إلى أنه لم يبرزها بالشكل الذي عليه لاحقا، بدأت خجولة وخفيفة لأنها غريبة على الإسلام وعلى المدرسة الزيدية نفسها، وعلى الإمام زيد نفسه، وقد أضرت شرطية البطنين بالزيدية الأم.

الصحيفة: أبرز خصائص المدرسة الزيدية الهادوية؟
د. عبدالله الشماحي: مسألة البطنين، وبدأ الحديث ضعيفا حول العلم اللدُنِّي.

الصحيفة:فكرة الخروج كانت واردة في أدبيات المرحلة الثانية أيضا؟

د. عبدالله الشماحي: فكرة الخروج بارزة في المرحلة الأولى، وبقيت عند البعض وتوسعوا فيها، ولذا كان يقوم أكثر من إمام في البلد الواحد وأحيانا يكفر بعضهم بعضا وهم أئمة.

الصحيفة: إلى متى استمرت هذه المدرسة الثانية (الهادوية)؟

د. عبدالله الشماحي: استمرت حتى القرن السادس الهجري، وكما قلنا أن المدرسة الهادوية جاءت بتأثير مشرقي وقد عدلت إلى شرط البطنين أي من ذرية الحسين فقط إلى ذرية الحسن أيضا، ثم جاءت المدرسة الثالثة في اليمن بتأثير زيدي مشرقي جديد! حيث كلف الإمامُ أحمد بن سليمان في القرن السادس القاضي جعفر بن أحمد وهو من الأبناء الفرس في اليمن ويسمى بالبهلولي لأنه سكن بني بهلول وكان إسماعيليا..

ثم تحول إلى الزيدية وصار زيديا مُطَرَفِياً ثم مخترعاً، كلفه بالذهاب إلى عراق العجم «فارس» وإحضار كتب الزيدية، فأحضرها إلى اليمن وقد تشبعت بشكل أكبر بمفهوم وفلسفة الحق الإلهي، والتي أصبحت منظومة متكاملة بمعنى أن حق الإمامة وحدها ليست من الحق الشخصي لذرية علي من فاطمة فقط، بل وأيضا الإمامة الدينية والإمامة الاجتماعية والعلمية، أي أن هذه السلالة هم أئمة السياسة وأئمة العلم وأئمة الدين والقضاء وكل مناحي الحياة، وهذه ثالثة الأثافي التي أغلقت نوافذ المدرسة الزيدية من إطارها الواسع إلى جعلها مدرسة سلالية منغلقة، وقد تم تدريس هذه الكتب في حلقات الزيدية ومدارسها وهِجَرِها.
وهنا وقع الصراع الزيدي الزيدي بين أبناء المدرسة الواحدة، وقد أطلق أتباع المدرسة الثالثة هذه على من هو من غير النسب الفاطمي العلوي لقب «العامة».

الصحيفة:هل الزيدية الحالية امتداد لهذه المدرسة؟

د. عبدالله الشماحي: المدرسة الزيدية الحالية امتداد للمدارس الثلاث السابقة.

الصحيفة:ما الذي ترتب على هذا الانتقال عمليا؟

د. عبدالله الشماحي: حصل ما لا يحمد عقباه، أنه في فترة الإمام عبدالله بن حمزة -المتوفى سنة 614ه- والذي جاء بعد الإمام أحمد بن سليمان وكان يعتبر الهادي الثاني في نظر بعض علماء الزيدية اليوم، فلم يقف الحد عند الصراع الفكري في الوسط الزيدي فحسب، بل تحول الأمر إلى صراع دموي، بعد أن كفر الإمام عبدالله بن حمزة من خالفه من أتباع المدرسة الهادوية وهم المطرَّفية.

وهذا بعد وفاة الإمام العفيف رحمه الله الذي كان يكبح جماح تهوره ونزقه الفكري هذا في حياته. والعفيف هو «الجد الأول لآل الوزير حاليا» وكان يعتبر من العلماء الكبار وكان مرشحا للإمامة وأعلم من عبدالله بن حمزة، لولا كبر سنه، ومن محاسن المطرَّفية رغم اشتراطهم البطنين في الإمامة اعتقادهم بسواسية الناس جميعا كلهم هاشميين وغير هاشميين، فتأذى منهم عبدالله بن حمزة لأنهم كانوا ينتقدونه في كثير من تصرفاته وعبدالله بن حمزة يرى في نفسه أنه من أهل الاصطفاء «أي من المدرسة الثالثة»..

ويردد: نحن أهل التحليل وأهل التحريم، نحن مصابيح الدجى من اتبعنا اهتدى ومن تركنا ضل وغوى، وكان يتفاخر بنسبه وسلالته، وله قصيدة مشهورة في هذا الجانب، هذا ما لم يعجب المطرَّفية الذي كانوا يقولون الناس سواسية في ستة أمور في الخلق والمعيشة والموت والرزق والعلم والدين، وهذا ما كان يخالف مفاهيم الزيدية الثالثة فكفرهم عبدالله بن حمزة ومن معه واتهموهم بأنهم «طبيعيين» لأنهم يفسرون الظواهر الكونية تفسيرا علميا، بمعنى أن للمطرفية رؤى علمية متقدمة سبقوا عصرهم بها، فمثلا كانوا يقولون إن المطر يأتي من البحر بعد أن يتراكم سحبا وتأخذه الرياح من مكان إلى مكان، وكان عبدالله بن حمزة وأتباعه يقولون هذا مناقض لقوله تع إلى «وينزل الغيث».. الخ، وغيرها من المسائل العلمية.

الصحيفة:عمليا ما الذي حدث؟

د. عبدالله الشماحي: هذا كلام خطير. حدث أن أُغلق الحراك العلمي الذي تميزت به الزيدية، وأصبحت مدرسة تقليدية وقد حصرت الإمامة في البطنين، هذا قضى على الإبداع والاجتهاد الزيدي، وبالتالي هضمت المسائل العلمية وتقهقر الفكر الزيدي، الإمام عبدالله بن حمزة أباد المطرَّفية إبادة جماعية رهيبة بعد موت العفيف، بعض المؤرخين ومنهم الوالد رحمه الله -والد الدكتور عبدالله- يذكرون أنه أباد منهم مائة ألف مطرفي، بل وأصدر أحكاما جائرة إلى جانب تكفيرهم مثل استباحة أموالهم وأعراضهم، وقد حكم وأنزل حكم السبي على نسائهم وهن مسلمات عفيفات وقد وزعن على رجاله كسبايا بل وقد كفَّر من لم يقل بكفرهم مطرفياً أو غير مطرفي حتى لقد كفر الأشاعرة في تهامة.

الصحيفة:كم استمرت هذه المدرسة؟

د. عبدالله الشماحي: هذه مستمرة إلى اليوم، وهي التي أغلقت على الزيدية أبواب الاجتهاد وحولتها من مدرسة إبداع فكري وحراك سياسي إلى مدرسة سلالية؟

الصحيفة:أئمة الفترة القاسمية كانوا من هذه المدرسة؟

د. عبدالله الشماحي: المراحل المتأخرة من الزيدية كانت خليطا من المدارس الثلاث، خاصة من الهادوية ومن زيدية المرحلة الثالثة، وتأثير المدرسة الثالثة واضح عليهم، ولذا قامت الحركة الوطنية وكان منها أعلام في المدرسة الزيدية ومن رجالاتهم أحمد محمد الشامي، صاحب كتاب «رياح التغيير في اليمن» وأشار إلى أن هذا الفكر أضر بالمدرسة الزيدية وأيضا أحمد المطاع رحمه الله وغيرهما.

على نفس الصعيد نجد أن لأهل السنة أيضا معتقد آخر هو حصر الخلافة في قريش انطلاقا من حديث «الأئمة من قريش» وهذا يعني حصر الإمامة في سلالة معينة، ماذا ترى؟
د. عبدالله الشماحي: «الأئمة من قريش» حديث إخباري مرتبط بذلك الزمان والمكان وليس حكما مطلقا لأن مكانة قريش معروفة في تلك الفترة، أما لو كانت «القرشية» أمر تقريري فلماذا لم يحتج به في السقيفة؟

الصحيفة: تذكر بعض الروايات نقاشهم لهذا الحديث وحسم عمر بن الخطاب للموضوع؟

د. عبدالله الشماحي: حسم الأمر على أساس أن العرب لا تنظر إلا لهذا الحي من قريش، نظرا لمكانة قريش وعصبيتها آنذاك.

ينسب إلى ابن حزم رحمه الله أنه قال إن سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي أفضل من الحسن والحسين لأن هؤلاء من مسلمة ما قبل الفتح وقد فضلهم الله بنص الآية الكريمة «لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل»..
د. عبدالله الشماحي: هؤلاء السابقون الأولون، وكانت أفضليتهم في الإسلام واضحة بنص كتاب الله، فالسابقون الأولون أفضل من غيرهم، مع أنهم لم يدعوا ذلك، لم نسمع أن أبا بكر أو عمر أو علياً قال إنه أفضل من غيره!! ونحن نعتقد ذلك تقديرا لفضلهم ومكانتهم وسبقهم إلى الإسلام، وأنا لا أرى الانشغال بهذه المسائل لأنها مما لم يجعلنا الله لنعبده بها. وكما أننا حريصون على عدم المس أو اللمز بكبار صحابة رسول الله، فنحن أيضا علينا ألا نعرّض بشخصي الحسن والحسين وهما ما هما مكانة في نفس كل مسلم ورع.

أخذ مفهوم آل البيت جدلا واسعا؛ منهم من يحصره على علي وبنيه، ومنهم من يضيف أزواج النبي، ومنهم من قال بأن الآل هم الأتباع، ما الذي تذهب إليه؟
د. عبدالله الشماحي: الإسلام جاء لينقل الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهذه المسألة الأساسية التي تقوم عليها عقيدة التوحيد، فلا يمكن للإسلام الذي يرفض الصنمية الحجرية أن يعترف بالصنمية البشرية المتحركة! ومن هذا المفهوم العقائدي علينا أن نختار من المعاني ما يتناسب.

الصحيفة:ماذا عن ذكر أهل البيت في القرآن والسنة؟

د. عبدالله الشماحي: أهل البيت هم الأزواج بالنص والسياق الصريح في كتاب الله، والبعض خلط بين الاختيار للنبوة والرسالة وبين من جاء بلا نبوة أو رسالة، بين من نزل عليهم جبريل، وبين من لم يروا أثرا لجبريل، أما الذرية فقد قال الله عنهم «فمنهم مهتدٍ وكثير منهم فاسقون» (الحديد: 26) ممن لم يرتبطوا بالرسالة أو الوحي. هؤلاء لا دليل لهم من كتاب الله، ومن لا دليل له من كتاب الله فلا وزن لكلامه، نقبله كرأي من الآراء لا كدين، أين النص في كتاب الله الذي ينص على إمامة علي وذريته؟ لا يوجد. وهذه مسألة من مسائل أصول الدين عند البعض!! فكيف تكون خالية من الدليل الصحيح الصريح من الوحي الإلهي!؟

الصحيفة:ماذا عن حديث غدير خم؟

د. عبدالله الشماحي: نحن نستشهد أحيانا بأحاديث إما أن تكون موضوعة أو فهمت فهما خاطئا لغير ما وضعت له واليوم نحن نسمع من بعض كبار علماء الشيعة مثل موسى الموسوي وأحمد الكاتب يقولان لو كانت هذه النصوص تدل على إمامة علي، فلماذا لم يحتج بها في المنافسات التي تمت بين العلويين وخصومهم، مثلا لم نجد ذكرا لنص في المراسلات التي تمت بين الحسن ومعاوية وبين الحسين ويزيد، وبين محمد النفس الزكية وبين أبي جعفر المنصور، هذه المراسلات خالية من أي نص يدعيه البعض لإمامتهم وهم أحوج ما يكونون لهذه النصوص. كيف ونحن نقرأ نصا عن ذهاب العباس إليه قبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: نذهب إلى رسول الله ونسأله لمن يكون الأمر بعده؟ فيجيب علي بقوله: لا نذهب إليه أبدا لأنه لو منعناها لن تصل إلينا. أي أن الأمر متروك للأمة.

الصحيفة:ما مفهوم آل البيت لديك تحديدا؟

د. عبدالله الشماحي: المرجعية للأمة، وهي التي تعين من تريد. أما الآية التي يستشهدون بها دائما «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت» فهي واضحة أنها نزلت في أزواج النبي، وفي معرض الحديث عن أزواج النبي، مشكلة هؤلاء أنهم يعتمدون على نصوص لم يحتج بها الأوائل، ولم تذكر في مجادلاتهم، أو في مراسلاتهم، وفي نهج البلاغة أحد كتب الشيعة عندما سئل أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أثناء الوفاة أن يوصي، فقال لم يوص من هو خير مني، وهو رسول الله، فعلي كرم الله وجهه يقول لا وصية، ونحن نقول بالوصية!؟ هذا أمر مضحك، وكل هذه النصوص ذكرت عند كل الفرق سنيها وشيعيها.

الصحيفة: ما رأيك بما يحدث الآن في صعدة؟

د. عبدالله الشماحي: لست سياسيا، أنا أكاديمي، لكن أقول أن ما تواجهه اليمن اليوم هي حركتا ارتداد؛ عن الوحدة وعن النظام الجمهوري.

الصحيفة: ألا ترى أن لهؤلاء مطالب مشروعة؟

د. عبدالله الشماحي: أي تجمعات كبرى لا بد وأن تحدث خلالها اختلالات، وأي مطالب لإصلاحها تعتبر مشروعة وهذا واجب كافة القوى الوطنية، أن تسعى لمعالجتها من خلال التجمع الكبير، والمحافظة على الوحدة، حدثت مثلا اختلالات كبرى في إطار الوحدة الأمريكية، وكذا الألمانية، لكنهم عالجوها في إطار الوحدة، الحراك في الجنوب والمشكلة في صعدة وليدة لعدة عوامل تستدعي الكثير من المراجعة لسياستنا التربوية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، هذه إفرازات لاختلالات.

الصحيفة:مشكلة صعدة حركة سياسية قائمة على أساس عقائدي خلافا لطبيعة الحراك الجنوبي الذي هو سياسي بحت؟

د. عبدالله الشماحي: يجب أن ينظر إليها نظرة عميقة، هناك اختلالات استغلها البعض ويحاول أن يوظفها باتجاه معين، وهذا معروف على مر التاريخ، وما كان يمثل ارتدادا عن قناعات دينية ووطنية فهو ارتداد مرفوض.

الصحيفة:هل ارتداد شمال الشمال مرتبط بمشروع إقليمي، خارجي؟

د. عبدالله الشماحي: صحيح، هو مرتبط بمشروع إقليمي خارجي، لا ينظر إلى اليمن لوحدها ولكن إلى المنطقة ليلفها تحت عباءته.

الصحيفة: أفهم من كلامك أن إيران وراء العملية؟

د. عبدالله الشماحي: إيران شعب مسلم، ويشهد حراكا داخليا جادا وأتوقع على المدى القريب أن يحصل الكثير من التجديد ومن المتغيرات نحو الأفضل، هناك صراع الآن بين قوى الحق الإلهي وقوى التجديد والإصلاح الذي نشهده اليوم؛ مفهوم ولاية الفقيه أريد منه في البداية الخروج من أزمة الإمام المنتظر وهو مفهوم بعيد وغير واقعي، ويلاقي رفضا واسعا ونتمنى على إيران أن تكون رائدة في عملية إبداعية وتخرج من أزمتها الحالية التي أضرت بشريحة واسعة على مر التاريخ الإسلامي.
أنا أنظر إلى إيران كشعب مسلم، لكن ما أعتبه عليهم أن مفهوم الحق الإلهي إشكالية كبيرة عندهم، فأن يصدِّروها إلينا هذه مشكلة خطيرة نحن في غنى عنها، وهي تضرب مفهوم الأمن القومي والسلام الاجتماعي، لأنها تخلخل السلم الاجتماعي ليس في اليمن فحسب، بل في المنطقة العربية.

الصحيفة: هل ترى خطورتها على المنطقة؟

د. عبدالله الشماحي: نعم، لأنها تدخلها في صراع مذهبي لا داعي له وإشكالية ضيقة ومضرة.

الصحيفة: بالمقابل ألا ترى أن الوهابية السعودية تمثل خطرا على المنطقة باعتبار أنها تصدر المذهبية المتعصبة؟

د. عبدالله الشماحي: أنا لا أنطلق من إطار المذهبية، المنطقة العربية تعيش في تخلف، وأي فكر يعبر عن تخلف وتقوقع فنحن نرفضه سواء جاء بمظلة شيعية أو سنية، بمسوح الرهبان أو قرون الشيطان، المنطقة تعيش في تخلف وأن نعيد إنتاج التخلف ونؤصل له بالدين فهذه كارثة، وقد أحست الدولة السعودية بالفكر المنغلق وخطورته ولا أظنها منسجمة معه، حتى في إيران هذا الفكر المنغلق يقف خلفه عدد من المرجعيات أكثر من الطبقة السياسية والثقافية الواعية.

الصحيفة:عقب انتهاء حلقات قناة المستقلة العشر المعروفة التي شاركتم فيها أصدر بعض علماء الزيدية بيانا أدانوا ما ذهبتهم إليه، واعتبروا ما حصل إساءة في حق المذهب، لماذا؟

د. عبدالله الشماحي: أحترم العلماء وخاصة شيخنا المنصور فهو شيخي، فأقول لهم: أنتم من مدرسة الاجتهاد والانفتاح الزيدية فلا تلوموا تلميذا في مدرستكم أصدر رأيا أو قال مقولة تخالف البعض، وأربأ بشيخي ومشائخي أن يفرضوا أنفسهم أوصياء على مدرسة، هي أصلا مدرسة انفتاح وتجديد وحراك علمي. وقد تلقيت الشكر من بعض من يفهمون الزيدية من علمائها: لأني أظهرت الزيدية بمظهر حضاري ولم أبدها في ذلك القمقم السلالي أو المذهبي الذي حصرها وضيق عليها.

الصحيفة:هل توصلتم إلى نقاط مشتركة مع الدكتور المحطوري في الحلقات العشر؟

د. عبدالله الشماحي: وصلنا إلى قناعة مشتركة أن المسألة متروكة للأمة وأنه قال رأيه بلا قيد، وهذا من ثمار الحوار المفتوح.

الصحيفة: كلمة أخيرة.
د. عبدالله الشماحي: أرجو من مؤسساتنا التربوية والإعلامية والثقافية أن تقوم بدورها تجاه أجيالها، لأن بعض الشباب يتلقى أفكارا هي إلى الخرافة أقرب منه إلى الحقائق العلمية.. وهذا مسئولية هذه المؤسسات لاحتضان شريحة الشباب وتعميق قناعاته الوطنية.

حاوره / ثابت الأحمدي

زر الذهاب إلى الأعلى