تمثل عمارة الطين في عيني المعمارية ريم عبد الغني عبقرية الإنسان والطبيعة، وفي الوطن العربي ما زالت العمارة الطينية حاضرة في اليمن على وجه الخصوص، فهناك يبني الإنسان بيته منذ آلاف السنين، ويمكن لك ببساطة أن تكون ضيفاً على بيت في حضرموت عمره 500 عام، وهو العُمر الذي لا نضمن أن تبلغه العمارة الإسمنتية.
تمثل هذه العمارة الطينية حكمة التاريخ وحالة التوازن بين الإنسان وبلغت درجة عالية من الإتقان والتفوّق والإبداع، تجلّى بشكل خاص في عمارة مساجدها وقصورها.
ريم عبد الغني حاصلة على بكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة حلب، ودبلوم في الهندسة المعمارية من جامعة دمشق بدرجة امتياز، وكذلك الماجستير في الهندسة المعمارية من جامعة دمشق بدرجة شرف عن أُسس تصميم المساجد القديمة في وادي حضرموت في اليمن، وهي تعد حالياً رسالة الدكتوراه حول العمارة التقليدية هناك.
وتقوم حالياً بإعداد كتاب حول أسس تصميم المساجد القديمة في مدينة تريم بحضرموت بعد قيامها بأعمال رفع ميداني واسعة تعتبر أول توثيق هندسي شامل لهذه المساجد.
كما لها اهتمامات في الكتابة، إذ صدر لها كتاب "وهج روح" عن الهيئة العامة السورية للكتاب، كما سيُصدر لها قريباً كتاب "في ظلال بلقيس".
ترأس ريم عبد الغني -زوجة الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد- مركز تريم للعمارة والتراث، ومقره الرئيسي دمشق، ورئيس تحرير مجلة "تراث" الفصلية، التي تُصدر عن هذا المركز.
ومن مشاريع المركز مشروع "ذاكرة العالم العربي" وهو مشروع علمي توثيقي عربي، يتم بالتعاون مع منظمة اليونسكو ومركز توثيق التراث الطبيعي والحضاري في مصر ومجموعة من المنظّمات، ويهدف إلى توثيق التراث العربي والحفاظ على الذّاكرة العربية وجعلها مُتاحة على الانترنت، من خلال إنشاء بوابة إلكترونية تفاعلية عملاقة باللغتين العربية والإنجليزية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية في الدول العربية والمنظّمات الإقليمية والدولية والمؤسسات الأهلية وعموم المهتمين حول العالم.
صحيفة "الوطن" القطرية حاورت المهندسة ريم عبد الغني أثناء زيارتها الدوحة، حيث قدّمت أمسية "حلم مقدسي" ضمن الأسبوع الثقافي السوري، "ونشوان نيوز" يعيد نشره.
الصحيفة:حدثينا عن عمارة الطين ونموذجه المتقدّم بالنسبة إليك في اليمن، وحضرموت تحديداً؟
ريم عبدالغني: اليمن، الذي أقول إن شهادتي مجروحة، فيه عالم خاص جداً. وإذ قال الروائي البرازيلي باولو كويليو "كل منا عنده أسطورة شخصية"، فإن اليمن يمثل لي هذا. اهتمامي يتركز على عمارة تريم عاصمة الثقافة الإسلامية 2010، وهي عمارة تعتمد الطين مادة للبناء. وعندي قناعة بأن الطين عمارة القرن القادم. لماذا؟ لأن هذه المادة صديقة البيئة، وفي عالمنا يعيش ثُلث سكانه في الطين بسبب الفقر وبسبب عدم توافر مصادر الطاقة الحديثة، فتجد أن الطين يوفّر البرودة في الصيف والدفء في الشتاء، وإذا انهدمت العمارة الطينية لا تلوث البيئة، كما أنها لا تحتاج إلى تكنولوجيا وخبرات عالية، فكل واحد منا يستطيع بناء بيته بنفسه، وهي رخيصة ومتوافرة. المشكلة أن الطين ارتبط في ذهن الناس بكوخ له قبّة، وهذا غير صحيح، فأنت تجد في اليمن بنايات من عشرة طوابق، كما لا ننسى أننا روحياً نرتبط بعلاقة مع المادة التي ولدنا منها ونعود إليها.
عطفا على هذا، شاهدت نماذج طينية حديثة في الأردن، ومنها فلل فاخرة وأسقف عالية ومساحات واسعة من الطين. اليمنيون استطاعوا أن يقدّموا تجارب من الطين لا تشبهها تجارب أخرى في العالم، ومنها عمائر شُيّدت قبل 500 سنة وأنا شخصياً نمت في واحدة منها. نحن لسنا متأكدين أن عمارة "الباطون" ستعيش مثل هذا العُمر، ولكننا متأكدون أن عمارة الطين عاشت.
التفرّد والإبداع الذي جعلني أركِّز على تريم أننا هنا أمام عمارة عربية بديلة للعمارة الحديثة، تُبنى بالطين وبأيدٍ محلية في الوقت الذي ترى فيه المناطق القديمة تختنق في المُدن مثل وسط القاهرة ودمشق وتتحول إلى متاحف ومعارض ومطاعم. مشكلتنا مع العمارة هي مشكلتنا مع كل ما حولنا في عصر حيث لم نعد نعرف فيه من نحن، وتضيع الهوية تدريجياً. وهناك سُوء فهم للتراث، حين يأتي مهندس معماري ويضع أقواساً ظناً منه أن هذا كافٍ للقول إن هذا المبنى تراثي. في جامعة فرنسية منهاج كامل اسمه "البيت الدمشقي"، كيف كان هذا البيت؟ أنظر بماذا يصفه الشاعر نزار قباني:
كيف أصف لكم بيت أهلي في دمشق؟ لقد كان قارورة عطر. كنت إذا سقطت سقطت على وردة، وإذا تعثرت تعثرت بنرجسة.
هناك هجرة مدروسة زمنية من الصباح حتى المساء، وهجرة مدروسة في الصيف والشتاء، والحصول على الهواء عبر الملقف، وخصوصية التوزيع عبر تقاليد بسيطة تعكس طريقة التفكير لدى العرب، حيث الخارج بسيط، فيما الجوهر أهم من المبنى أو المعنى لا المبنى، كما يقول الصوفيون.
الصحيفة:مقابل هذا التراث لا تكف عمائر الزجاج عن غزو العالم؟
ريم عبدالغني: لقد تحوّلنا إلى أرقام موضوعة في عُلب كبريت. والعمارة الزجاجية لا تُلائم البيئة، وهي جد آنية. بقيت بيوتنا آلاف السنين والعمارة الزجاجية برأيي لا يمكن أن تبقى؛ لأن ليس لها جذور. العمارة تتزوج الأرض، وهذا قول لأستاذنا المعماري المصري المشهور حسن فتحي -رحمه الله. هنا في الدوحة يمكن أن تلاحظ إلى أي مدى يبدو سوق واقف جميلاً. الأبراج لا نقول إنها ليست جميلة، لكنها تحفة ومنظر لا يُرسخ، فيما إذا خيّرت الإنسان ليذهب إلى مكان يستريح فيه فيتجه إلى سوق واقف خياراً أول.. فهناك ما يشبهنا. في حضرموت حين يبني الإنسان بيته يحدده على مقاسه. ثمّة فتحة يضع فيها المصحف وأخرى للقهوة وشبابيك يعيّنها هو، فنجد أن البيت يشبه صاحبه. لكن هذا الغزو الذي تتحدّث عنه وصلت مفاعيله حتى هناك مع وجود سُوء فهم للتراث، وأيضاً سُوء فهم للحداثة. منذ 12 سنة لم يكونوا في اليمن يولون أهمية لتراثهم المعماري، وقيل لي مرة: انتم سعداء كثيراً ببيوت الطين! إذ يعتبرون العصرنة هي الانتقال إلى بيوت "باطون"، فكانوا يهدّمون بيتاً طينياً ويبنون مكانه مسجداً على الطراز المغربي، وكثيرا ما أغضبني هذا. وحين بدأت المنظّمات الدولية تهتم ونالت شبام جائزة الآغا خان العام الماضي، خرج الناس إلى الشارع يرقصون.
الصحيفة:كتابك المقبل "في ظلال بلقيس" هل يدور في إطار العمارة أيضاً؟
ريم عبدالغني: هو كتاب انطباعي، حيث كل سنة أذهب إلى حضرموت التي أتخصص بها في دراستي العليا. خلال هذا كنت أكتب خواطر، حيث إنني لا أكف عن الكتابة اليومية، ولا تحس بقيمة هذا النوع من الكتابة إلا حين تغادره إلى زمن لاحق بعيد عنه لأنها فيما بعد تفتح نوافذ جديدة غير التي تفتح وقت كتابتها. جمعت بعضها ونشرتها في عدد من المطبوعات وتحديداً في جريدة الأيام اليمنية. فاجأني الصدى الداخلي في اليمن والتفاعل والكم الهائل من الرسائل. كتبت عن أشياء يعرفها اليمنيون وتوقعت أن يكون الصدى خارج اليمن إذ اليمن مكان خاص لا يمكن أن تعرفه إلا إذا عايشته فهو لا يشبه أي بلد آخر. ربما الصدى الذي حصلت عليه في اليمن ناجم عن طيبة الأهل هناك وتفاعلهم مع من يحبهم. هذا شجّعني لأن أجمع كتاباتي في كتاب وقد تأخر الإصدار بسبب انشغالاتي الأمر الثاني هو حاجة الكتاب للصور لأن لا أحد سيفهم ما المقصود بناطحات سحاب من الطين أو أن جزءا من اليمن مثل سويسرا في خضرته. العالم لم يأخذ الصورة الصحيحة عن اليمن الذي تبلغ مساحته حوالي نصف مليون كيلو متر مربع ممتد على منطقة متنوعة الجغرافيا من الهضاب والجبال والصحارى والسواحل يسكنها عشرون مليون نسمة وكل منطقة عالم قائم بذاته في العادات واللباس والطعام. تنوع في لوحة رائعة منسجمة.
حاضرت في الجامعة الأميركية بالشارقة وقبل أن أبدأ عرضت صورة لشخص يمضغ القات وقلت: هذه هي الصورة التي تعرفونها عن اليمن، ضحك بعضهم فقلت: خلال الساعة المُقبلة سأعرض عليكم ما هو اليمن الذي لا تعرفونه، فقدّمت اليمن عبر الصهاريج والسدود والعنب والبن والممالك والعمارة التي تعتبر الآن أهم عمارة تراثية في الوطن العربي.
"في ظلال بلقيس" يشمل أربع محافظات هي: أبين وعدن وحضرموت وصنعاء. صنعاء وعدن كونهما المدينتين الأساسيتين وحضرموت لأنها اختصاصي وأبين لأنها بلد زوجي، وكنت أرغب بمعرفة تفاصيل حياته التي مثلت أبين ساحتها الروحية. في هذا الكتاب معرفة اجتماعية تصادفك أثناء معايشتك للناس والمكان. منها أنني حين تقصيت وجدت مثلاً أننا في سوريا يتندرون على أن أصدقاءنا الحماصنة (أهل حمص) يكونون في يوم الأربعاء "خارج التغطية"، وحين زرت اليمن وجدت أن الأربعاء له خصوصية فيقولون حين يريدون إهانة شخص "أربعاء على قرنك وقرن أبوك"، أي "لينزل الأربعاء على رأسك ورأس أبيك"، ووجدت كذلك أن عائلة الأتاسي هي عائلة العطّاس التي جاءت من حضرموت، أما والدة زوجي فأصرّت أن تُدفن في حمص إذ يؤمن اليمنيون أن هذه المدينة سكنتها قبائل يمنية جاءت واستقرّت مع خالد بن الوليد. حاولت من خلال هذا الكتاب أن أوثق جزءاً من التراث اليمني. في الوطن العربي –للأسف- لدينا ضعف في ثقافة التوثيق. التراث يتآكل مع الذين يموتون من الأغاني والحكايا والأطعمة. وهذا الكتاب يحاول تقديم صورة موسّعة للحياة الثقافية اليومية التي ترتبط بالشفوي والمحكي والصّور اليومية في إطار يخدم فكرة التعبير عن المكان ولكن ليس من زاوية علمية صرفة.
الصحيفة:يذكرني هذا المشروع -وإن كان أوسع- بالأمسية التي أقمتها بالدوحة عن رحلتك الافتراضية إلى القدس؟
ريم عبدالغني: صحيح، هناك تشابه لجهة زيارة المكان العربي محمولاً على لغة أدبية تذكر بأدب الرحلات مع وجود أساس علمي رصين يلجأ للمعلومة والتحليل والقراءة التاريخية. لكن القدس الصغيرة بحجم القلب والكبيرة بقدسيتها لم تكن الرحلة إليها إلا تخيلية بسبب رزوحها تحت الاحتلال الصهيوني. تعلق الخيال بالجانب السردي للرحلة الافتراضية التي دخلت منها عبر بوابة دمشق، لكن ما أنجزته في الواقع كان درساً لمُدة أشهر في عمارتها وتاريخها ورحلة موثقة حتى حدود جسر الملك حسين الذي يفصل الأردن عن الضفة الغربية، آخر حد كان يمكنني الوصول إليه والباقي كان يجب تصوره في القلب. القدس لا تحتاج إلى الكثير لكي تحضر إليك أو تحضر إليها.
الصحيفة:ما الشوط الذي قطعته في توثيق التراث؟
ريم عبدالغني: عندي هوس بتوثيق كل شيء يتعلّق بعملي. وأحسّ بأن الإنسان بلا ذاكرة ليس له مستقبل. فإذا أردنا أن نقيِّم إعماراً جديداً علينا أن نقيمه بعيداً لا أن نخرب القديم ونقيم على أنقاضه الجديد، هذا أساس مهم في التوثيق الأمر الذي إلى قادني إلى توثيق حضرموت. وفي تريم الكنز المعماري ادعي أن لا أحد عمل شيئاً عنها قبل أن أبدأ العمل سنة 2000، وحتى اليوم لا يوجد توثيق مهم. وحين دهم السيل المدينة قبل سنتين لجأوا إلى بعض المخطوطات التي بحوزتي. هذه المدينة تتوافر على 365 مسجداً على عدد أيام السنة وقصور خارقة.
الصحيفة:كيف تصفين الخراب الذي لحق بالمدينة نتيجة السيول؟
ريم عبدالغني: آلاف البيوت دُمّرت، ذلك أنها مبنيّة من الطين الصافي، وليس المشوي. السيول هي العدو الوحيد. الزمن ليس عدواً، فبناية من تسعة طوابق عُمرها 500 سنة في شبام بوادي حضرموت تعد معجزة معمارية. حتى للزلازل هي أكثر مرونة ومقاومة للحرائق. هذه العمارة التي يبدعها الإنسان البسيط تثبت عبقرية التجربة البشرية، فحين تكون أمام مئذنة من الطين يبلغ ارتفاعها أكثر من 50 متراً فهذا يؤكد أن التجربة خلّاقة وليست سهلة، بما يعني أنها عمارة حيّة عبر الزمن وقابلة للاستمرار وقدمت الرضى الكافي لسكانها بأنها لا تموت مثل عمارتنا القديمة الأخرى. عملت على تريم مُدة خمس سنوات ووثقت المساجد بوصفها الظاهرة المعروفة أكثر عن هذه المدينة، ووثقت 75 ألف صورة و35 ساعة تلفزية ومئات المقابلات مع السكان والإحصائيات والمخطوطات بما وفّر قاعدة بيانات ضخمة.
الصحيفة:تنظمين نشاطاً شهرياً تحت عنوان "أربعاء تريم" ما هي أهم توجهات هذا الأربعاء؟
ريم عبدالغني: هو سلسلة أمسيات ثقافيّة نقيمها في الأربعاء الأول من كل شهر على مدار العام في مكتبة "الأسد"، ونستضيف نُخبة مختارة من المختصّين في شتّى مجالات الثقافة العربيّة، ضمن إطار العلاقة الحيوية لهذه المجالات بالتراث والهُويّة العربيّة وأهميّة الحفاظ عليهما، وضمن طرح فكري يناقش الإشكاليّات المطروحة، ويتميّز بوضوح الرؤية والجُرأة والجديّة، ومن خلال تجارب المحاضرين وخبراتهم العملية.
شجّعنا الجميع حقيقة، واهتمّ الإعلام بمبادرات شخصية ورسمية وتابعت مختلف وسائله نشاطنا، رحّبت معنا بضيوفنا، وألقت الضوء عل ما نثيره من قضايا، فمنحت أربعاءنا بعداً أوسع، بل فكرنا بنقل أمسياتنا الثقافيّة إلى باقي المحافظات السوريّة، فأرسينا تقليداً بأن نعيد تقديم محاضرة دمشق كل شهر في اللاذقيّة أو حمص أو حلب أو غيرها من المدن، لنصل إلى الجمهور في كل مكان.
وتنوعت مواضيع هذه المحاضرات بين هوية العمارة العربية وإشكالياتها وعلاقتها بالبيئة وروائية المكان، العولمة وأهمية وضوح شخصيتنا الثقافية وضرورة حماية أمننا القومي، المدلول التراثيّ للقيم المجتمعية والمفهوم الحقيقي للتراث ومدى إمكانية تدخلات الدولة والأفراد في عمليات الحفاظ عليه، الدور الخطير الذي تلعبه اللغة في التعليم والإعلام والسيّاسة وصياغة الهُويّة، العروبة والدين، تحديّات الهُويّة العربية في مواجهة الأزمة العالميّة الراهنة،المشروع النهضوي العربي، القُدس فلسفتها وشجونها، عبقرية عمارة حضرموت الطينية، وغيرها من الموضوعات الحيوية، ليبقى "أربعاء تريم الثقافي" إحدى صلات الوصل بين المثقفين والجمهور.