كان الأمر مزعجا ويحتاج إلى استقصاء وتوضيح عاجل وشامل من الإخوة العاملين في منظمات الإغاثة وبرنامج الأغذية العالمي على وجه الخصوص، وهو ما قامت به ال”الجمهورية” بالفعل من خلال نزولها الميداني إلى محافظة عمران ومواقع التوزيع حيث التقت هناك بعينة من النازحين وسطرت الكارثة الإنسانية التي شكوا منها والمتمثلة في منحهم دقيقا فاسدا ومواد غذائية منتهية الصلاحية.
لسنا مسئولين عن الدقيق
صوب مكتب الإغاثة الإسلامي بعمران كانت أول محطة قصدنا زيارتها وهناك صادف وجودي مسيرة احتجاجية نظمها النازحون تنديدا بتعمد برنامج الغذاء العالمي حد قولهم توزيع مواد غذائية فاسدة وغير صالحة للاستخدام الآدمي مطالبين في شكواهم لمنسق مشروع الإغاثة الإسلامية بعمران – حصلت الصحيفة على نسخة منها- طالبوا بحمايتهم من الانتهاكات الحاصلة من قبل برنامج الأغذية العالمي والمتمثلة في إعطائهم دقيقا فاسدا مليئا بحشرة السوس- والتعامل معهم كأغنام دون مراعاة للواجب الإنساني تجاههم..
ماذا حدث، والكل في انتظار شرح المسألة؟! وقتها ولجت المركز الاجتماعي لحماية النازحين التابع لمنظمة الإغاثة الإسلامية بعمران والتقيت هناك بمنسق المشروع الأخ أحمد جابر والذي رحب بنا في مكتبه مبررا في رده على استفسار الصحيفة، علاقة الإغاثة الإسلامية فيما يخص الدقيق الموزع للنازحين قائلا: في الحقيقة عملنا يركز على جوانب الحماية للنازحين ولسنا مسئولين عن الدقيق أو التوزيع وإنما شركاؤنا هم المعنيون بذلك بما فيها المساعدات الغذائية، وبالنسبة للدقيق الذي شكا منه النازحون قمنا في شهر نوفمبر الماضي بدورنا كمركز لحماية وخدمات النازحين - بالتواصل مع الجهات المعنية في برنامج الأغذية العالمي WFP واطلاعهم بالموضوع في ضوء شكوى النازحين التي تلقيناها منهم وكان ردهم بأنه تم معالجته وذلك عن طريق التبخير أو التعقيم كأحد الوسائل إلى تصفية الدقيق من ذلك الوقز.
وحول صحة وسلامة الدقيق الذي شكا منه النازحون: نحن لسنا جهة طبية أو مسئولة عن الفحص وضمانة مسؤولية ذلك على المعنيين في برنامج الغذاء كما أفادوا لنا سابقا وأن الغذاء صالح للاستهلاك البشري.. كذلك خلال هذا الشهر شكا النازحون من صرف نفس ذلك الدقيق وبناء على ذلك رفعنا تقريرنا على أساس أن تقوم الجهات المعنية في الغذاء العالمي بدورها حيال هذا الموضوع ومعالجته وبعثنا نفس الخطاب إلى مكتب الإغاثة بصنعاء –المركز الرئيسي- وخطاب آخر للمفوضية كي يكونوا على اطلاع بالموضوع مع الجهات المعنية..
منعنا وتوعدنا بالحرمان
فور خروجي من مقر مركز النازحين التابع للإغاثة الإسلامي توجهت صوب أحد مواقع صرف المساعدات الغذائية بمدينة عمران بغرض استطلاع الأمر ورصد عملية الصرف، هناك وجدت النازحين يملأون المكان وما حوله بتواجدهم وأصوات ضجيجهم وتساؤلاتهم المسموعة وقد سجلت حينها تعليقات عينة منهم والبداية تحدث بها الأخ سالم عبدالله عمران احد النازحين من أبناء مديرية حرف سفيان م/عمران قائلاً: لي سنتين نازح وهذه المرة فوجئنا عند استلام حصتنا الغذائية بأن الدقيق فاسد والدود بداخله أكثر من الطحين داخل الكيس وعندما اشتكينا إلى المعنيين في برنامج الغذاء والموزعين لم نلق منهم أي تجاوب وقالوا لنا بالحرف إذا لم تستلموا الحاصل فستحرمون هذه المرة.
أغيثونا بضمير
أما الأخ بكر عمر يحيى المعنقي النازح من مديرية رازح فيقول: المنظمة توزع لنا دائما مواد اغلبها منتهية الصلاحية وهذا الشهر وزعت لنا دقيقا فاسدا ومليئا بالوقز، وعبركم نطالب برنامج الغذاء العالمي أن يأتوا إلينا ويصرفوا لنا بضمير حي وأن يتركوا تخزين المواد الغذائية بشكل تراكمي وتوزيع الأسبق قبل السابق وهكذا حتى لا يعرض للتلف كما هو حاصل ووزع لنا حيث ورائحة الدقيق قد تغيرت عما كان عليه القمح خلال الفترات السابقة وذلك نتيجة الكربون الذي رش بها بغرض قتل الوقز داخل أكياس الدقيق.
دود حميد!
أما عبدالله يحيى عبدالله سعيد من صعده فقد أصر على أن يسجل شكواه من سوء الوضع قائلاً:
استلمت هذه المرة حصتي من الدقيق ووجدت انه مليء بالدود الوقز وبكثافة مخيفة وأقسم بالله العظيم أن أولادي أصيبوا بإسهال وعندما اشتكينا أهانونا بالشتم وطمأنونا بقولهم: هذه دود عادية ولا تؤثر عليكم وأنهم قد رشوا على الدقيق مادة كربونية قتلت الوقز وغيرت رائحته.
ما حدث في مكان التوزيع
ما حدث في مكان التوزيع، أن النازحين” ومن باب “لا يلدغ مؤمن من جحره مرتين” أصروا أن يتم فتح أكياس الدقيق قبل استلامها وذلك للتأكد من جودتها، غير أن العاملين بالتوزيع رفضوا، وهكذا قام النازحون بفتح الأكياس بمجرد استلامها، وأمام مقر التوزيع، ليفاجأوا بدقيق تفوح منه رائحة كريهة و عبارة عن طحين مليء بالحشرات- الوقز-
أجج هذا من غضب النازحين ورفضوا استلام الدقيق وطالبوا ممثلي برنامج الغذاء بتعويضهم بدقيق آخر نظيف مما اضطر الموزعين لإيقاف الصرف حتى استبدالها بدقيق آخر لم نعرف حتى الآن هل تم ذلك أم لا.. فرغم ذلك تنامى الشعور بالغضب والغبن وعلت مطالبات التحقيق في هذه الفضائح والتي كان من الممكن أن تذهب ضحيتها أرواح أو يصاب الناس بأمراض وتسممات.، وتساءل الجميع عن غياب مصلحة مراقبة المنظمات والجودة وكذلك غياب دور السلطات المحلية وعن مدى اهتمام المعنيين بالأمر بصحة وسلامة النازحين..
قتل الوقز بين الطحين
نزحوا هروبا من الموت، وفي الأمان افتقدوا دفء الإنسانية، ولاقوا ما هو أمر من الموت، شتات، فقر، تشرد، هوان، وقسوة مجتمع كلها مسميات تقصف من أعمارهم كما هو حال الأفراد والمنظمات الأخرى المتاجرة بمعاناتهم وهمومهم.. هكذا كان بادئ الحديث للأخ يونس محمد أحمد حبيش رئيس شبكة حماية النازحين والذي أشار فيه إلى مشكلة الدقيق قائلاً: الحقيقة خلال الشهر الماضي صرفت للنازحين مادة الدقيق من قبل برنامج الأغذية العالمي وكانت قد خزنت بصورة سيئة في مخازنها مما أدى إلى إتلافها وانتشار السوس بكثافة كبيرة فيها وقد شكا النازحون منها وبدورنا في شبكة الحماية قمنا بالنزول إلى موقع الصرف واستدعينا مدير البرنامج في عمران للتأكد من صحة شكوانا وقد نظر بأم عينيه والموظفين جميعا انتشار الوقز-السوس- بداخل الطحين ومازالت حية، وأراد حينها –مدير فرع برنامج الغذاء-أن يبرر جودة الطحين من خلال تبريره بلعق كمية قليلة منه أمام النازحين، ورغم تبريراته تلك إلا أننا رفعنا شكوانا إلى المركز الرئيسي للبرنامج في العاصمة صنعاء وبدورهم كلفوا لجنة للتحري وراء الموضوع وصحة الشكوى واطلعوا من موقع التوزيع على مادة القمح واخذوا عينة منها بغرض فحصها وكذلك مكتب الإغاثة الإسلامي هو الآخر اخذ عينة للفحص وبالتالي تم توقيف ما تبقى من قمح واستبدلت الكمية بأخرى نظيفة صرفت لباقي النازحين، ورغم تجاوزنا الأزمة وعدت إلا أننا تفاجأنا خلال هذا الشهر وللمرة الثانية بصرف دقيق فاسد مليء بالسوس –الوقز- للنازحين وعندما احتجوا على ذلك كانت المبررات الواهية هي الرد من قبل القائمين على التوزيع من يمثلهم في الإغاثة وبرنامج الغذاء، بأن الدقيق تم رشه في مخازن خاصة بمبيدات كيماوية أفضت إلى قتل الوقز بداخل الطحين وانبعاث روائح كريهة داخل أكياس الدقيق..
منعونا من التصوير
حاولت حينها أن ألتقط بعض الصور لتوثيق عملية الصرف وصحة ادعاء النازحين، لكنني منعت من ذلك بشهادة رئيس شبكة الحماية الأخ يونس حبيش الذي رافقني خلال الزيارة بحجة عدم وجود تصريح بذلك من قبل القائمين على برنامج الغذاء بالمحافظة كما طلب منا أحد العاملين وحراس الأمن في الموقع المراد تصويره، وان يكون معنا ضوء اخضر في المرة المقبلة..
تاجروا بالنازحين
رئيس جمعية التوافق الاجتماعية ورعاية النازحين- وهي جمعية حديثة النشأة – فتح عسكر السفياني أوجز من جانبه قائلاً:
هناك جهات وأفراد ومنظمات استغلت وتستغل مسمى النازحين، ونحن كنازحين نشعر بألم وحسرة كبيرة، الأمر الذي دفعنا إلى إشهار الجمعية بغرض تحويل النازح من شخص ناج من الموت إلى آخر ناجح في الحياة، ولا أخفيكم بأن الانتهاكات التي يتعرض لها النازحون كثيرة وواضحة للعيان، لعل منها ما يتعرض له أثناء عملية الصرف من إهانات لفظية بالكلام والسخرية وهو تحت وطأة الشمس ينتظر استلام حصته من المساعدات الشهرية وإرغامه أحيانا أخرى على استلام بعض المواد الغذائية التي أوشكت على الانتهاء أو لم تعد صالحة للاستهلاك كما حصل هذا الشهر عندما تعمدوا في برنامج الغذاء على توزيع دقيق مليء بالدود-الوقز- وبدورنا نزلنا إلى موقع الصرف مع الأخ ممثل برنامج الإغاثة العالمي وممثل المحافظة والجهة الأمنية بناء على تكليف أمين عام المجلس المحلي بالمحافظة ورأينا عينة من الدقيق ووجد انه منته بصورة واضحة للعيان وتم حينها تنبيه بقيه النازحين في موقع الصرف بعدم استلام حصصهم الغذائية من الدقيق وعندما قمنا مرة أخرى بمتابعة ممثل برنامج الغذاء لإيجاد حل وتجنيب النازحين ما هو أسوأ مما هم فيه وقد أخبرنا حينها أن الدقيق تم فحصه من قبل منظمة الصحة العالمية وبالإمكان أن يوافينا بصورة منه حال طلبت قيادة المحافظة رسميا ذلك.
مخاطر القمح المسوس
وعن مخاطر استخدام دقيق القمح "المسوس" فقد حذرت دراسة علمية من استخدامها وتناولها مبينة أن القمح المسوس المصاب بخنافس الدقيق مشكلة خطيرة, حيث تخزن كميات القمح أو الدقيق في مخازن مفتوحة وغير محددة بجدران., فيكون معرضا للإصابة بالحشرات مما يشكل خطورة علي الصحة العامة ويزيد من فرص الإصابة بأمراض السرطان والفشل الكلوي والكبدي.
يمثل القمح واحدا من أكثر السلع الغذائية أهمية وانتشارا على النطاق المحلى والعالمي بالنسبة للإنسان؛ ونظرا لحرص الكثير من دول العالم على توفير رغيف الخبز لمواطنيها فإنها تقوم بتوفير كميات كبيرة من القمح اللازم لتلك الصناعة سواء من ناتجها المحلى أو عن طريق الاستيراد من الخارج، بل وتحتفظ تلك الدول بكميات كبيرة لفترة من الزمن قد تمتد لعدة شهور ليكون بمثابة المخزون الاستراتيجي الذي يجنبها ويلات الأزمات. إلا أن معظم دول العالم النامي ومنها بلادنا يتم فيها تخزين أغلب كميات القمح أو الدقيق في مخازن وشادات وشون مفتوحة وغير معرشة أو محددة بجدران، وتحت ظروف التخزين هذه فإن القمح أو الدقيق يكون معرضا للإصابة بالعوامل البيولوجية المختلفة خاصة الحشرات، لعل من أكثر حشرات المخازن شيوعا خنافس الدقيق Flour beetles والتي تصيب الحبوب المخزنة مثل القمح والأرز ونواتجها التي تشمل الدقيق والردة وغيرها. وتتمثل دورة حياة هذه الحشرة في الشكل التالي: تقوم الحشرة الكاملة بوضع البيض (400 – 500 بيضة في فترة حياة الحشرة) فرادى أو في مجموعات بداخل الدقيق والتي يفقس في غضون أربعة أيام ليعطى اليرقات المستطيلة الشكل صفراء اللون عديدة الأرجل التي ما تلبث أن تتحول إلى العذارى البرميلية الشكل والتي تفقس لتكتمل دورة الحياة وينتج عنها الحشرة الكاملة ذات اللون البني المحمر والتي يبلغ طولها حوالي ربع البوصة (0.6 سنتيمتر) تقريبا، ويمكن لهذه الحشرة أن تعيش لمدة عام واحد أو يزيد تقوم خلال هذه المدة بإنتاج خمسة أجيال جديدة من الحشرات، حيث تستغرق مدة إنتاج الجيل الواحد 5-7 أسابيع تحت الظروف المناخية المثالية من الحرارة (25 درجة مئوية) والرطوبة النسبية (60 %). لذلك فإنه بمجرد أن تتواجد تلك الحشرات في أماكن تخزين أو تداول الحبوب فإنها تتكاثر وتزداد أعدادها بسرعة كبيرة.
تساؤلاتنا ورد البرنامج
وعند اتصالي هاتفيا بممثل برنامج الغذاء في عمران احمد السعيدي بغرض محاورته ببعض التساؤلات أبدى لنا اعتذاره وأشار علينا بالتواصل مع المركز الرئيس بصنعاء والذي وجدنا تفاعلهم في بادئ الأمر عندما اتصلت بهم وتحدثت معي حينها نيابة عنهم السيدة إشراق شرهان التي تفاعلت معنا بالتنسيق والتواصل والتحدث مع احد المسئولين الذي قوبل باعتذاري لعدم قدرتي التحدث بلغته الإنجليزية ومن ثم وافتني بنص ترجمتها لردهم على استفسار الصحيفة بشأن ما سبق طرحه عبر بريدي الإلكتروني وكان كالتالي:
رداً على استفسارك بخصوص موضوع توزيع القمح موجود الرد أدناه.. يقوم برنامج الأغذية العالمي بشراء 45 من السلع الغذائية من الموزعين الدوليين وذلك لتقديم المساعدات الإنسانية.
قد يستغرق ثلاثة أشهر في كثير من الأحيان لشراء السلع الغذائية دوليا حتى يتم وصولها إلى اليمن؛ لضمان سلامة هذه المواد الغذائية يقوم البرنامج بمراقبة جودة هذه المواد. ففي حالة أن المواد الغذائية لا تستوفي هذه المعايير العالية يستخدم البرنامج إجراءات التنظيف التي تطبق في اليمن من حيث القواعد واللوائح الخاصة بسلامة الغذاء. إن برنامج الأغذية العالمي حريص جدا على أن يتم التحقق بعناية من أجل جودة وسلامة المواد الغذائية قبل توزيعها.
من المحرر إلى برنامج الغذاء
سادتي في برنامج الأغذية العالمي لقد أثارت ((أكياسكم)) الذعر وسط أسر النازحين، وكان المتوقع أن تفرحهم ((أكياسكم)) كما بقية الأشهر وتوفر عليهم بعض العناء، لكنها أثارت الخوف والسخط وطرحت التساؤلات وذهب البعض إلى ضرورة فحص الدقيق .. والنازحون من أبناء صعدة وعمران يسألونكم ماذا حدث؟ ولماذا تقومون بتوزيع مواد اغاثية منتهية الصلاحية أو أوشكت على الانتهاء لأسر النازحين؟ فأكياسكم ستظل رابضة هناك يهملها هؤلاء رغم الحاجة، ورغم الجوع..
الملف القادم.. فساد المنظمات
في هذا الإطار يأتي موضوع التحقيق الصحفي الذي تقوم به الصحيفة حاليا- وسينشر في أعدادها القادمة- لكشف ملفات الفساد المرتكبة من قبل المنظمات والجمعيات العاملة في محافظة عمران باسم النازحين، وتشمل الضياع، البيع، الاختلاس، الهبات والتبرعات ومنحا قدمتها منظمات وهيئات أخرى مانحة للنازحين في محافظة عمران، ولعل منها ما تم رصده من وثائق ومخالفات حتى صدور هذا العدد على جمعية الهلال الأحمر اليمني والوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين وبعض المنظمات والأفراد الذين سنكشف النقاب عن تجاوزاتهم قريبا..في تحقيق لاحق.