لصنعاء القديمة في ذاكرة التراث الإنساني مقام باذخ، فهي قبلة السياح ومزار الوافدين، يشعر المرء وهو يتجول في أسواقها وأزقتها بأنه وسط كرنفال مدهش للتاريخ تتمازج فيه الخطوط والظلال والألوان في لوحة معمارية بالغة الإدهاش.
تترامى اللوحة المليئة بأسرار التاريخ وإبداعات الأسلاف أمام أعين زائريها لتستغرق كل تفاصيل المشهد من أسواق ومساجد ومبان يصل عمر بعضها إلى أكثر من ثمانية قرون، وتجمع في تجليها بين فرادة المكان وحضور التاريخ.
ولأنها كذلك، فقد أبت المدينة إلا أن تعلن عن أصالتها إنسانيا، فدخلت قائمة التراث العالمي عام 1986، ومن يومها زاد الاحتفاء بها عالميا، غير أن تحذيرا شديد اللهجة تلقته المدينة من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) بإخراجها من قائمة التراث العالمي.
مخالفات عديدة
ويقول الأمين العام لليونسكو في اليمن أحمد المعمري إن تحذير المنظمة العالمية لصنعاء جاء على خلفية عدم تسليم التقرير الذي تعده وزارة الثقافة ممثلة في الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية كل عامين عن المدينة لليونسكو في موعده المحدد.
وكان المفترض أن يسلم هذا التقرير في مطلع فبراير/شباط من هذا العام، لكن تم تسليمه بنهاية أبريل/نيسان، وهذا التأخير يعني عدم إدراج تقرير صنعاء في الاجتماع القادم لليونسكو في العاصمة الكمبودية (بنوم بنه) في يونيو/حزيران من هذا العام.
أما السبب الثاني –وفقا للمعمري- فيتمثل في تلك المخالفات الفنية التي تغص بها المدينة، والتي مثلت استحداثات غيّرت الصورة التي دخلت بها المدينة قائمة التراث العالمي، مثل تجاوز طوابق كثير من المباني العدد المسموح به واستحداث مبان إسمنتية، مثلت خروجا صارخا على النمط المعماري للمدينة.
كما يتم تركيب أبواب حديدية مكان الأبواب الخشبية، وتظهر الملصقات الدعائية على الجدران بشكل لافت، إضافة إلى انعدام النظافة وعدم تنظيم الحركة المرورية وعشوائية توصيل الخدمات كالماء والكهرباء وافتقاد الأسواق للتنظيم الذي كانت عليه، وتصدع كثير من المباني وتهدم بعضها.
ظروف البلاد
ويؤكد رئيس الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية الدكتور ناجي صالح ثوابة في حديث للجزيرة نت ما ذهب إليه المعمري، مشيرا إلى أن الظروف التي مرّت بها اليمن خلال العامين الأخيرين أربكت المشهد الثقافي ككل.
كما أن الهيئة لم تستقر وظيفيا إلى اليوم، حسب قوله، فقد تتابع على رئاستها أربعة أشخاص في فترة وجيزة، وجاء تعيينه بعد الموعد المفترض لتسليم التقرير، ثم إن الهيئة تعاني من شح الإمكانيات المالية.
ومع هذا كله يشير ثوابة صراحة إلى أن تكاسلا ما كان وراء تأخير التقرير، إذ إن اللجنة التي أهلتها اليونسكو في الدوحة كتبت تقاريرها عن مدينة "شبام حضرموت" ومدينة "زبيد"، لكنها تكاسلت عن تقرير مدينة صنعاء، فكان لذلك ما بعده. لكن ثوابة يشير إلى أن مسؤولين في المنظمة الأممية وعدوه بأن يناقش هذا التقرير في الاجتماع القادم شفويا.
وعن المخالفات الفنية التي تشهدها المدينة، أفاد ثوابة بأن أمين العاصمة عبد القادر هلال أبدى استعداده لتدارك الأمر، معتبرا قضية صنعاء قضيته الأولى، وقد خطا في ذلك خطوات، منها تشكيل لجنة إنقاذ للمدينة، ورصد أكثر من 60 مليون ريال (نحو 280 ألف دولار) لبدء إزالة المخالفات السابق ذكرها.
ويؤكد وكيل أمانة العاصمة صنعاء عمْد عبد الفتاح إسماعيل للجزيرة نت تشكيل لجنة بهذا الخصوص تتكون من أمين العاصمة رئيسا، وعضوية كل من ثوابة والمعمري وآخرين، وقد تمخّضت عنها لجان فنية من المختصين نزلت إلى المدينة وقدمت تقاريرها، وكان المفترض أن يدشّن العمل يوم 25 مايو/أيار الماضي لكن الموعد تأجل لأمور إدارية بحتة إلى بداية يونيو/حزيران من هذا العام.
ويرى إسماعيل أن جهات أخرى حكومية ينبغي أن يكون لها إسهام في الحفاظ على الوجه المشرق لهذه المدينة التاريخية.
تحد كبير
وأثناء تجوالنا في المدينة التقينا بمسؤول الشرق الأوسط في الخارجية الإيطالية الدكتور إنجلو فراتيني الذي صرّح للجزيرة بأنه جاء إلى صنعاء ليتدارس مع المسؤولين في الهيئة العامة مسألة الحفاظ على المدن التاريخية والصندوق الاجتماعي للتنمية وسبل الدعم التي يمكن للحكومة الإيطالية تقديمها لليمن، وخاصة في الأمور الفنية التي تحتاج إليها صنعاء القديمة.
ويمثل الإبقاء على صنعاء القديمة في قائمة التراث العالمي تحديا كبيرا أمام الحكومة اليمنية ككل -كما يرى عدد من المهتمين بهذا الشأن- وهذا التحدي أكبر من إمكانيات اللجنة المشكلة والأموال المرصودة التي قد تكفي لتنظيم حركة المرور وإظهار المدينة بشكل نظيف وإزالة الملصقات الدعائية واستبدال الأبواب الحديدية بأخرى خشبية تتماشى مع النمط الجمالي للمدينة، لكنها لن تكفي لترميم أكثر من أربعمائة مبنى آيل للسقوط، بل إن بعضها قد تهدم فعلا.
ثم إن اللجنة ستقف عاجزة أمام المباني التي تجاوزت طوابقها العدد المقر من اليونسكو في مجتمع يرى حرية التصرف في الحق الشخصي أكبر من اعتبارات التراث العالمي، ولعل المشكلة الكبرى تتمثل في تلك المباني الإسمنتية على كثرتها، التي تقف الحلول الترقيعية أمامها -لعدة اعتبارات- موقف العاجز المشلول.