[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

هكذا ذهب اليمن إلى التمزيق بعد الانقلاب الطائفي

في بلدٍ تتنازعه مراكز القوى القبلية والمذهبية والعسكرية، لا يمكن لأي فردٍ، أو جماعةٍ، أو حزبٍ، فيه، أن يستأثر بالسلطة دون سواه، مهما بلغ أولئك من قوة ماديةٍ، أو عسكريةٍ، أو سندٍ خارجي متنوّع.

ولذلك، تتجلّى التحالفات، من حين إلى آخر، بين مراكز القوى تلك، لتسقُط معها رموزٌ عسكرية وقبلية، وإقطاعيات وبرجوازيات، وحكومات، وتظهر بدلاً عنها، فجأة، قوى جديدة، تحاول جاهدةً فرض نفسها في هذه التحولات التحالفية، سواء بقوة الجماهير التائقة للتغيير الحقيقي، تحقّق لها ذلك أو لم يتحقق، أو بالقوة المسلحة، أيّاً كان نوعها، أو توجهها أو مصدرها.

يعيش اليمنيون، اليوم، حالةً من الذهول والاندهاش إزاء ما جرى في الأيام الثماني الماضية، والتي استطاعت فيها جماعة الحوثيين المسلحة (أنصار الله)، وما تزال، نقل المعركة من محافظة الجوف، شمال شرقي البلاد، إلى مركز الحكم في صنعاء، وتمكنوا، في ستة أيام (من 16 إلى 21 سبتمبر/ أيلول 2014)، من التوغل والسيطرة على ثلثي العاصمة، في خطواتٍ خرافيةٍ مثيرة للجدل، بدأت بمواجهاتٍ مسلحة بسيطةٍ في إحدى ضواحي العاصمة، وهي قرية القابل، ثم تطورت لتأخذ شكل الحرب العنيفة، وتسلّلت متقدمةً نحو المركز، في مناطق محصنة عسكرياً، هي: شملان، وذهبان، والجراف، والتلفزيون، والنهضة، وصوفان، ومذبح.

لم تكن الأحداث الأخيرة هذه سوى محصّلة لمواجهات مسلحة سابقة ومتعددة، جمعت بين مقاتلي الحوثيين ووحدات من الجيش اليمني، ترابط في محافظتي عمران والجوف، وكان أكثر خسائرها فداحةً، بالنسبة للجيش، ما خلّفته المواجهات التي خاضها معهم اللواء 310 مدرع الذي كان مرابطاً في عمران، وكان من أقوى الوحدات العسكرية المؤللة، الواقعة في هيكل المنطقة العسكرية السادسة، وما تلا ذلك من مواجهات مسلحة، بعد سقوط هذا اللواء في قبضة المسلحين الحوثيين، بمباركة قياداتٍ عسكرية عليا في قيادة الجيش، على خلفيات سياسيةٍ وعسكريةٍ معقدة، في مقدمتها التأثير القوي للواء علي محسن الأحمر، المستشار العسكري والأمني للرئيس عبد ربه منصور هادي، والنزعات الثأرية التي يضمرها له وزير الدفاع، اللواء محمد ناصر أحمد.

ولقد كسبت الجماعة الحوثية تلك المواجهات على مستويات مختلفة، عسكرية وأمنية وسياسية وجغرافية وجماهيرية، لتبدو أقوى قوة مسلحة متمردة في البلاد، فاستثمرتها استثماراً متنوّعاً أطرافٌ داخلية وخارجية، بحيث برز الدور الإيراني جلياً في تمثُّل هذا الجماعة بخطوات حزب الله اللبناني، الذي تتلمذ على الأيديولوجيات المختلفة للثورة الإيرانية، في الدبلوماسية والثورة والقتال، واستقطاب الجماهير بالخطابات الحماسية الملتهبة، والتذرّع بالقضية الأولى للعرب والمسلمين، القضية الفلسطينية، وكذا العداء للولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الأول للكيان الصهيوني، على أن توظيفاً أميركياً وإقليمياً لهذه الجماعة أخذت تؤديه، عملياً، وفق تفاهمات سرية، أو في الاستثمار الذكي لمواقفها العدائية إزاء جماعات سياسية، ذات توجهات فكرية مغايرة لها، يشترك كثيرون في خصومتها، مثل حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقترب، في نهجه، من "الإخوان المسلمين"، والذي تحالفت عليه الأطراف إياها، أو من تبني الجماعة الحوثية منافحتها تنظيم القاعدة، أو مَن تسميهم الدواعش والتكفيريين، وإن بدا ذلك لكل متابع مجرد مزايدة إعلامية خادعة، تقوم بها، شأن شعارها الذي يسمى "الصرخة"، ويُنادى فيه في محافلهم بالموت للولايات المتحدة، وباللعن والموت لإسرائيل!

[b]استراتيجيات الانقضاض على صنعاء[/b]

تربض العاصمة اليمنية صنعاء على "عرصةٍ" جغرافية ضيقة في مركزها، وبين ذراعين من سلسلتين جبليتين مرتفعتين، تحيطان بها من جهتي الشرق والغرب، تتسرب منهما مداخل متعددة للمدينة، علاوةً على المداخل الأخرى على الامتدادات السهلية عند طرفي هذه العرصة، وقد استغل الحوثيون، وفقاً لدروس وقائع تاريخية عسكرية مرت بها المدينة، هذه الخصائص، لتنفيذ استراتيجية الانقضاض التدريجي على العاصمة، في محاولات متكررة، بدأت قبل شهرين من سقوط محافظة عمران في قبضتهم أوائل يوليو/ تموز الماضي. وتفصيل ذلك كما [b]يلي:[/b][b]1 بتر الأذرع والسيقان
[/b]تمثلت هذه الاستراتيجية (التسميات للباحث) بتمركز الحوثيين ومناصريهم وحلفائهم القبليين والعسكريين في مداخل العاصمة، من كل الاتجاهات، بما يشبه مناطق الجمع والتحشّد في خطط قتال الجيوش، ومسيطرة على الطرق الرئيسة "المنفذة" إلى المدينة، والاقتراب من الوحدات العسكرية المرابطة بجوارها، وكذا المطارات والقواعد الجوية والوحدات العسكرية النوعية الحامية للمدينة، حيث بدا ذلك التمركز سلمياً في ظاهره، ولكن، في حقيقة الأمر، كانت الساحات تعج بأسلحة خفيفة ومتوسطة، شاهدها متابعون كثيرون من رجال الإعلام والعسكريين والسياسيين وغيرهم، فضربت تلك التجمعات أذرع كيان الدولة وسيقانها، أو أوهنت من قوتها، وعطلت معظم القوى العسكرية في تلك المناطق، بما في ذلك القوات الجوية ومواقع الدفاع الجوي في "بطن" العاصمة، وعلى القمم المحيطة بها، ما دفع قيادة وزارة الدفاع، في وقت مبكر، إلى نقل معظم الطائرات العسكرية من العاصمة إلى مدنٍ أخرى، والتعامل مع هذا الموقف بضعف إرادة مع وجود القوة، أو بما يشي بالتساهل، أو التواطؤ، وإخراج النتائج، بما يضمن مصالح أطراف معينة في السلطة.

[b]2 نهش الأحشاء[/b]

تمثلت هذه الاستراتيجية بتمركز الحوثيين في أهم منطقة في العاصمة، وهي منطقة الجراف، على الطريق الرابط بين مركز العاصمة ومينائها الجوي الدولي، وهذه المنطقة يقع في محيطها الأول أكبر تجمع لمؤسسات الدولة، عسكرية ومدنية، في وحدات عمرانية منفردة، منها وزارات الداخلية والاتصالات والكهرباء، وقيادة شرطة النجدة، والأكاديمية العسكرية، ومدرسة قتال الحرس الجمهوري (سابقاً)، كما تقع في محيطها الثاني، الكلية الحربية، ومطار صنعاء، والقاعدة الجوية، ووحدات عسكرية أبرزها قيادة المنطقة العسكرية السادسة، ووحدات فرعية للواء الرابع مدرع (314)، وموقع التلفزيون اليمني الذي يضم أربع قنوات، وإذاعة صنعاء، وكذا مراكز حيوية مدنية أخرى.

أخرج الحوثيون، قبل نحو شهر، وفق هذه الاستراتيجية، حشود المتظاهرين من الشوارع الفرعية التي كانوا يتظاهرون فيها إلى الشارع الرئيس (شارع المطار) ومداخل وزارات في ذلك المكان، في خطوة تصعيدية أخرى، للتضييق على الحكومة، لتلبية مطالبهم الثلاثة التي كانوا قد أعلنوها، والمتمثلة بإسقاط الجرعة (الزيادة السعرية في المشتقات النفطية التي اتخذتها الحكومة)، وإسقاط الحكومة، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وتزايدت تلك التصعيدات إلى حدٍّ دفع أولئك المتظاهرين إلى مقاومة قوات مكافحة الشغب بالقوة، بعدما حاولت إخلاء الشارع الرئيس (شارع المطار) منهم، بل تقدموا وخيّموا قريباً من مدخل وزارة الداخلية، وسلبوا آلياتٍ وأحرقوها، ثم حركوا، بعد أيام من ذلك، مسيراتهم الجماهيرية لتجوب العاصمة، وتعطل حركة السير، عبر المسيرات الراجلة تارة، والمحمولة على الآليات تارة أخرى، للغرض نفسه، وكان من ذلك، المسيرة التي اتجهت إلى مقر مجلس الوزراء، ودارت، حينها، مواجهات بين المتظاهرين وقوات اللواء الرابع مدرع (314) المعني بحماية المكان الذي توجد فيه مقار حكومية ودبلوماسية كثيرة، وقد اتخذ الحوثيون من اللواء الرابع عدواً مبيناً يجب اجتثاثه!

[b]الانقضاض على أركان الدولة[/b]

بعد تصدّي اللواء الرابع مدرع 314 للمتظاهرين الحوثيين، ومنعهم من الوصول إلى مجلس الوزراء والمنشآت العسكرية والدبلوماسية المجاورة، وإحباطه محاولة نصب خيامهم هناك، وذلك في الأسبوع الأول من سبتمبر/ أيلول الجاري، وهي واقعة استثمرها الحوثيون، سياسياً وإعلامياً، بقوة وذكاء، حيث راح ضحيتها متظاهرون وجنود أبرياء، أخذ الحوثيون على عاتقهم نهج الانقضاض على العاصمة في أقرب وقت ممكن، والنيل من قوة هذا اللواء، وتمزيقه شر ممزّق، فكانت الأحداث التي خلفتها مواجهات دامية بين مسلحين حوثيين وآخرين مناوئين لهم في قرية القابل، مفتتحاً هذا الطريق، ودخل هذا اللواء في هذه المواجهات المسلحة من دون حساب، بعدما كانت قد اتسعت لتشمل نطاق اختصاصه في محيط موقع محطة التلفزيون اليمني، والمواقع الأخرى التي تتمركز فيها كتائبه وسراياه على الامتداد الواصل بين موقع التلفزيون، وصولاً إلى قيادة وزارة الدفاع.

وبلغ القتال أشده بين الطرفين، إلى درجةٍ يقال فيها إن قائد اللواء، العميد حسين المقداد، وبعض الضباط، قد وقعوا في الأسر في أثناء المواجهات مع الحوثيين في الموقع نفسه، فكان ذلك سبباً لانهيار اللواء في تلك الجبهة، إذ علم الحوثيون بوجود قائد اللواء هناك، فركزوا ضرباتهم ونيرانهم من كل الاتجاهات على ذلك الموقع، ليحدث ما حدث، ولتلتهم النيران جانباً كبيراً من المحطة.

بعد سيطرة الحوثيين على المنطقة المحيطة بموقع التلفزيون، انهارت بقية كتائب اللواء، ودبت فيها الفوضى، بفعل نقص الإمدادات وانفراط القيادة والتخلي عن أداء الواجب والمهام من بعض الضباط، وتعرض آليات اللواء ومعداته للنهب المتعمّد من المندسين الحوثيين فيه، في مؤشرٍ على وجود مؤامرة وخيانة ضربت تماسك اللواء وثباته.

وبذلك، تفرغ المسلحون الحوثيون للجبهة التي تقاتلهم من جهة مقر قيادة المنطقة السادسة (الفرقة الأولى المدرعة سابقاً) التي لم يستطيعوا مواجهة نيرانها من قبل، حينها لم تتمكن تعزيزات طلبها اللواء علي محسن الأحمر، الذي كان موجوداً حينها هناك، من الوصول إليه، ومن ذلك تعزيزات لواء حفظ السلام (في موقع الخرافي، غربي العاصمة)، الذي كان يعاني، أساساً، من فراغ قيادي، بسبب مشكلات داخليه مفتعلة فيه.

حصل اللواء علي محسن على تعزيزات من اللواء الثالث حماية رئاسية (عربات مدرعة قتالية ودبابات حديثة)، تحركت من مقر اللواء، بحسب شهود عيان من سكان الضواحي التي مرت منها شرقي العاصمة، لكنها لم تأتِ إلا بعد فوات الأوان، كما لو أنها جاءت لرفع الحرج عن القيادة العليا للجيش، وكان الحوثيون حينها قد احتلوا جامعة الإيمان، الواقعة إلى جانب مقر قيادة المنطقة العسكرية السادسة، التي تدور فيها وحولها المواجهات، وكان اللواء محسن قد غادر مكتبه، قبل الظهر، فجأة، من دون معرفة الأسباب، ثم انسحبت تلك التعزيزات عصر اليوم نفسه (21 سبتمبر 2014) من دون معرفة السبب كذلك، وتخللت ذلك غارة جوية قامت بها طائرة حربية، لتطال موقعاً داخل المنطقة، يعتقد بأنه يضم أسلحة أو ذخائر، للحيلولة دون وصول الحوثيين إليها، وقد شوهدت مضادات جوية، تتعقب تلك الطائرة لكنها لم تطلها.

بعد انسحاب تعزيزات اللواء الثالث حماية رئاسية، في 21 سبتمب، تمكن الحوثيون من الاستيلاء الكامل على مقر قيادة المنطقة العسكرية السادسة، ونهب محتوياتها، وسيقت الأسلحة والمعدات العسكرية التي كانت فيها، باتجاه عمران، من دون أي تعقب أو مقاومة أو اعتراض من الطيران أو الوحدات والنقاط العسكرية على طول الطريق بين صنعاء وعمران، والشأن نفسه حدث مع الآليات المنهوبة من بقية الوحدات الأخرى، وتحديداً اللواء الرابع مدرع (314)، في مشهد درامي حاولت فيه السلطة الرسمية التبرير لما حدث بوجود مؤامرة قذرة استهدفت القوات المسلحة، وتقف وراءها أيدٍ داخلية وخارجية، وهذا ما عبّر عنه الرئيس هادي في لقائه مع قيادات سياسية التقاها يوم الثلاثاء 23 سبتمبر في صنعاء!

قطعاً، لا يمكن تصديق وجود عامل واحد، دون سواه، يقف خلف ما حدث من انكسار للوحدات العسكرية التي قاومت الحوثيين في صنعاء، وأن وراء الأمر مؤامرة أو خيانة، بل هناك عوامل كثيرة، لعلّ أقواها التمزيق الذي طال الجيش اليمني في ما سمي "بالهيكلة"، حيث ضربت وحداته المتجانسة بخليط من مجندين حديثي الانتساب للخدمة العسكرية، ولم يجرِ إعدادهم الإعداد العسكري الجيد، على العرف العسكري المتبع في كل الجيوش، كما أن نية المواجهة لم تكن، في الأصل، حاصلة من القيادة العليا للجيش نفسها، بل إن الدفع باللواء علي محسن إلى هذه المواجهة الخاسرة منفرداً، كانت قد جاءت لحظتها المنتظرة من خصومه، ليلحق بصاحبه ورفيق دربه، العميد حميد القشيبي، الذي لقي حتفه في مواجهات مع الحوثيين في الثامن من يوليو/ تموز الماضي، ذلك أن اللواء محسن كان آخر أقوى الرموز العسكرية الشمالية في بنية النظام العسكري الحالي، وكان يمثل عامل قلق لأطراف بعينها، على أن بعضهم كان ينظر إليه كعامل توازن مع قوى الجنوب المتحكمة بقوة الجيش، ما جعل أولئك يتخلصون منه بأيدي مَن يقاسمونهم الرغبة، وهم الحوثيون، لكن الرجل فوّت الفرصة عليهم ليبقى عامل قلق للجميع، حيث نجا بنفسه من موت محقق.

الآن، وبعدما تحقق للحوثيين دخول صنعاء على نحو ما يفعله المظفّرون، وتخلّصهم من ألدّ خصومهم العسكريين، والذي أذاقهم مرارة القهر في الحروب الستة (2004 2010)، عندما تمردوا على السلطة والنظام الجمهوري، وكذا تخلصهم من القادة العسكريين والوحدات العسكرية التي كانت تمتّ له بصلة ما.. مَن، يا ترى، يجرؤ على أن يرفع في وجه الحوثيين سكيناً بالية، أو قشّة خاوية من قصب، مع كل فعل متمرد يمارسونه جهاراً نهاراً في هذه القصبة التي تسمى صنعاء، وهم يجولون فيها ممارسين أعمالاً "سيادية" بالقوة القاهرة؟ وأين وما هي القوة، أيضاً، التي سيواجَهون بها في حال انحرافهم عن النظام الجمهوري، والنهج الديموقراطي وتفرّدهم بالسلطة، فيما لو تخلى الرئيس هادي عن عاصمة اليمن الواحد، ليذهب في انفصالٍ سلسٍ، بعدما يحكم الحوثيون سيطرتهم على هذه العاصمة، لا سيما بعدما أمّن الرجل مدن الجنوب من البلاد بأقوى وأكفأ الوحدات العسكرية وأضخمها تسليحاً؟

الأيام المقبلة ستجيب على تلك الأسئلة.

زر الذهاب إلى الأعلى