تخلط الكثير من الكتابات الصحفية بين مفهومي الدولة والنظام.. تماماً كما تذهب بعض الممارسات المعارضة لنظام الحكم إلى التعريض بكيان الدولة في خلط مشين بين المفهومين. فيما المعروف هو أن الدولة أمر متوارث رغم تعاقب أنظمة الحكم.. فمثلاً، حكم الفاطميون مصر وذهبوا كنظام ليحل محلهم الأيوبيون، وغربت شمس الأيوبيين لتشرق شمس المماليك، وبعدها جاء العثمانيون، فمحمد علي باشا، فالانجليز والحكم الملكي وصولاً إلى العهد الجمهوري الذي دشن 1952م.
تتغير أنظمة الحكم مع بقاء الدولة كمؤسسات تخضع لتغيّر المدراء والمسئولين والتسميات، ولكنها تظل موجودة، كوظيفة وكموظفين، ويظل خيط سميك من الخبرة السياسية والإدارية والاقتصادية والفكرية ممتداً بين الأجيال تتراوح استفادة الأنظمة المتعاقبة منه، بعضها يغذيه وبعضها يضعفه. كل ما في الأمر أن المصلين في يوم الجمعة يتفاجأون بأن الخطيب أصبح يدعو في نهاية الخطبة لولي أمر جديد.
هناك حالتان تستحقان منا التوضيح حتى تكتمل الفكرة: الأولى في العراق، حيث أن الأمريكان في غزوهم الأخير 2003م، لم يقوموا بتغيير النظام العراقي فحسب، بل قاموا بهدم الدولة العراقية المتبلورة منذ قرون، تماماً كما فعل التتار 565ه، الذين لم يغيروا نظام الخلافة فحسب، وإنما أتوا على بناء الدولة من القواعد، وقطعوا أمشاج الخبرة المتوارثة، ودمروا مؤسسات الدولة، ودوائر المصالح، وأحرقوا الأرشيف والسجلات، وأعدموا الموظفين والخبراء، ورموا بالميراث البحثي والفكري إلى ماء دجلة.
الحالة الثانية في اليمن، حيث تعاقبت أنظمة حكم منذ ما يزيد عن عشرة قرون دون أن يخلف أي منها بناء دولة، إذ كانت حالة التناحر والاحتراب تحول دون استقامة الأمر لأي نظام حكم حتى لكأن جميع المدن اليمنية أصبحت في فترة ما عاصمة لكيان يسمي نفسه دولة. لكن أياً منها لم يتمكن من إرساء دولة، وبلورة تقاليد حكم.
من هنا وجد اليمنيون أنفسهم بعد 26سبتمبر1962م و30 نوفمبر 1967م، يحكمون على سبيل التجريب ويحاولون بلا (كتلوج) دولة ولا ذاكرة حكم، ولا مؤسسات ولا كوادر، ولا رؤى اقتصادية ولا موارد، لا أمن ولا جيش. ذلك أن فلسفة الحكم لدى الأئمة كانت تقضي بلا مأسسة الدولة وبلا تحديث النظام، وبلا تأهيل الشعب وبلا تنويع الموارد.. فضلاً عن نظرية الخروج بالسيف في الفكر الإمامي الزيدي التي تعد أحد شروط انتقال الحكم من إمام إلى آخر، ومثلت هذه النظرية آلية هدم فورية ليبدأ الكل مجدداً من الصفر ويغادرون دون أن يبارحوا دائرة الصفر!!
واستمر هذا الأسلوب من حكم الأئمة حتى أثبت عقمه ولا جدواه سواء عند الشعب أو حتى عند الأسر الهاشمية التي لها الحق في التداول الدموي للسلطة. ولهذا كان الهاشميون أنفسهم ضمن قوافل الثوار في الشمال.
الحرب الجمهورية الملكية التي استمرت من 62إلى1969م، جعلت هذه السنوات خالية من محاولات بناء دولة الشمال، ثم تبعات الوضع التشطيري والأزمة الاقتصادية في عهد الإرياني حالت هي الأخرى دون جعل السنوات السبع منذ مغادرة السلال 1967م، وحتى مجيء حركة 13 يونيو 1974م، حافلة بالمستوى المنشود والضروري لإرساء مؤسسات دولة، رغم أن هذه الفترة شهدت صياغة أول دستور يحتكم إليه اليمنيون منذ قرون. كما شهدت تأسيس أول مجلس نيابي وتقنين كثير من اللوائح المنظمة لشئون الدولة.
من كتاب الخيوط المنسية مقدمة الباب الثاني
________________
نشوان-خاص