آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

حصر الولاية في قريش أو بني هاشم في المنظور القرآني

إن المتعمق في دراسة التراث الفقهي السياسي السني والشيعي سيدرك أن أول عروة من عرى الإسلام التي نقضت هي عروة الحكم والسياسة مصداقاً لقول الرسول –ص- في الحديث الصحيح (لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فكلّما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم وآخرها الصلاة) [صحيح الجامع للألباني]. والأخطر من ذلك هو التأصيل الفقهي التاريخي للانحراف السياسي بدلاً من أن يعالج الانحراف السياسي في الواقع.

وخطورة التأصيل الفقهي للواقع السياسي المنحرف عن نهج الإسلام نابعة من كون الانحراف السياسي في الواقع انحراف عن النهج الإسلامي.

في حين أن التأصيل الفقهي للواقع السياسي المنحرف هو انحراف بالنهج الإسلامي نفسه وشتان بين الانحراف عن المنهج والانحراف بالمنهج.

حيث خرجت الأمة الإسلامية عن نهج النبوة والخلافة الراشدة وآلت إلى أشكال سياسية متعددة، أخطرها التأصيل للعصبية القرشية أو الهاشمية بدلاً عن الولاية العامة القائمة على أساس العقيدة والإيمان (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) لا على أساس التفسير العنصري للدين (عصبية قريش أو عصبية بني هاشم) التي جاء الإسلام وكافة أديان السماء لهدمها باعتبارها شكلاً من أشكال حكم الطاغوت (ليس منا من دعا إلى عصبية) (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).
وعلى هذا الأساس يتوجب على العقلية الإسلامية المعاصرة أن تتخلص من رواسب عصور الانحطاط والتخلف لا سيما الأفكار المنحرفة التي تم إضفاء صفة القداسة عليها لأن الناس لا يشعرون بخطورتها لأنها تلبس لبوس الدين وهي في أحسن الأحوال محض اجتهادات خاطئة إذا ما تم إخضاعها لموازين الشرع الصحيحة قرآنا معصوماً وسنة معصومة بالقرآن، لأن الأفكار منها ما هو محيي ومنها ما هو قاتل ومنها ما هو مميت على حد تعبير المفكر الإسلامي مالك بن نبي..

فالأفكار المحيية هي الأفكار الصحيحة فإنها تحيي الأرواح والمجتمعات والحضارات كما يحيي الغذاء الجيد الجسم ومنها ما هو قاتل وهي الأفكار التي تأتي في شكل غزو فكري يستهدف هوية الأمة وحضارتها ومنها ما هو مميت وهي الأخطر وهي الأفكار المنحرفة المنتسبة لذات الهوية والدين والحضارة وهي ثقافة عصور الانحطاط والتخلف فإنها تميت المجتمعات والدول والحضارات من الداخل ولا يشعرون بخطرها لأنها منتسبة لذات الدين والحضارة والهوية وهي أفكار خاطئة منحرفة عن منهجية الإسلام الصحيح ولذلك حذر منها الرسول –ص- بأنها تنقض عروة فعروة.

ولذلك لا بد من التخلص من رواسب الجمود والتقليد والدعوة إلى الاجتهاد والتجديد انطلاقا من القرآن المعصوم والسنة المعصومة بالقرآن واسترشاداً لا توقفاً عند التراث الفقهي الماضوي وتفاعلاً مع رصيد الحكمة البشرية معارفاً وتجارباً لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها.

وفي هذا السياق لابد من التسليم بأن العقلية الإسلامية الحالية تعاني من أزمة منهجية ومعرفية حادة بسبب مخلفات عصور الانحطاط والتخلف وتولد عن هذه الحالة ما يمكن تسميته بالعقلية النصية الجزئية لا الكلية ونقصد بهذه العقلية تلك العقلية البسيطة غير القادرة على الفهم التحليلي الاستنباطي التركيبي العقلية التي تستخدم ملكة الحفظ أكثر من ملكة الفهم ولذلك نجدها تتعامل مع النصوص الشرعية بطريقة مجزأة وكأن كل نص موضوع مستقل دون النظر للوحدة الموضوعية للنصوص ولمراتب الأدلة موضع الاستدلال يقيناً وظناً إحكاماً وتشابهاً قوة وضعفاً أصولاً وفروعاً كليات وجزئيات سنداً ومتناً.

ثم العمل على فهم نصوص الوحي فهماً يزاوج ويناغم بين الشريعة بمقاصدها وكلياتها وجزئياتها ليتم الترابط الموضوعي المنشود.

وليتم تدارك هذه الأزمة المنهجية التي هي سبب الأزمة المعرفية سأشير إلى معالم منهجية الفهم والإستدلال بصورة موجزة ثم أرد رداً شرعياً على الفقه السياسي المنحرف الموروث تاريخياً الذي يحصر الولاية العامة في قريش أو بني هاشم لخطورة انبعاث هذه الأفكار مجدداً مع إنبعاث الصحوة الإسلامية، ولكي نرشّد مسار الصحوة الإسلامية المعاصرة بما يؤدي إنشاء الله تع إلى إلى إنبعاث حضاري جديد للأمة الإسلامية ترسي فيه أسس وقواعد النظام السياسي الصحيحة التي تكفل قيام خلافة إسلامية عالمية تسير على نهج النبوة خلافة عدل وشورى لا خلافة جور وطاغوت.

وحتى نصل إلى الخلافة التي على منهاج النبوة التي بشر بها الرسول –ص- برؤية نبوية إستباقية لحركة التاريخ، فحتى نصل إليها لا بد من وضع المعالم المنهجية للفهم والاستدلال على النحو التالي :-

1- لفهم نصوص الوحي فهماً لا يخل بوحدتها الموضوعية لا بد من الربط بين مقاصد الشريعة وكلياتها وجزئياتها ربطاً يؤدي إلى تساوق وتوافق هذه المحاور الثلاثة وتولد بعضها عن بعض لا فهماً يضرب بعضها ببعض.

2- لا بد من التفريق بين نصوص الوحي كتاباً وسنة من حيث حجيتها وقداستها وبين فهوم العلماء لها لأن فهم العلماء عرضة للخطأ في الفهم بحكم بشريتهم وعرضة للتأثر والتأطر بخصوصية الواقع الظرفي زماناً ومكاناً، فلا يمكن سحب قداسة الوحي قرآناً معصوماً وسنة معصومة بالقرآن على فهوم العلماء وعليه فإن فهوم العلماء لا تصبح حجة إلا بإسناد فهمهم بدليل من الكتاب أوالسنّة لقوله تع إلى (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) .

وبالتالي فإن إتباع رأي العلماء دون إسناد رأيهم بحجة من الوحي محرم شرعاً وإذا كان بعض العلماء قد اعتبروا تقليد العلماء حرام فأنا أقول بأنه ليس حراماً فحسب بل هو عين الشرك الخفي الذي حذر منه القرآن من خلال الآيات الكثيرة التي ذمت داء الآبائية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) والمقصود بالآباء هنا العلماء والأحبار والرهبان وصريح القرآن قد اعتبر تقليد النصارى واليهود لعلمائهم شرك ونوع من الربوبية لهم مع أنهم لم يعبدوهم بطقوس شعائرية وإنما أطاعوا فهمهم مصداقاً لقوله تع إلى (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ).

والرسول –ص- قد أخبرنا بأن الانحرافات في التدين التي وقعت للملل السابقة سنقع فيها بقوله –ص- (لتتبعن سنن من كانوا قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قيل : يا رسول الله اليهود والنصارى. قال : فمن) [متفق عليه].

وأنا أقول إن التقليد هو الباب الذي انفتح به كل شر ولذلك ذمه القرآن في أكثر من موضع (داء الآبائية) واعتبره شرك، فلولا تجويز التقليد لما حصلت الانحرافات العقائدية التي جاءت بها الفرق الضالة إلى الإسلام.

فالإسلام والأديان السماوية أعظم مقاصدها العلم ولذلك لو فهمنا الإسلام لأدركنا أنه حرم الجهل فأمة الإسلام بين عالم ومتعلم أما الجاهل فإنه آثم بصريح قوله تع إلى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).

فالله سبحانه وتع إلى لم يعطي الإنسان أدوات التعلم من سمع وبصر وفؤاد إلا ليتعلم ولذلك ورد النهي القرآني الصريح عن التقليد بالنهي عن التقفية والتقفية مشتقة من اقتفاء الأثر إذا تبعت أثر متبوع والجاهل يتبع العالم ويقص أثره، وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه، أما القائلين بجواز التقليد مستدلين بقوله تع إلى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فنقول لهم إنه استدلال في غير موضعه لأن الآية جعلت مرجعية السائل هي الذكر وليس العالم فالله أمرنا عند عدم العلم في مسألة أن نسأل العلماء عن الذكر أي عن أدلة الذكر لا عن فهم العالم والتقليد كما قرره الفقهاء هو (إتباع رأي العالم دون سؤاله عن الدليل) وهذا هو عين الشرك.

والخلاصة لو أن علماء الأمة أفتوا الأميين من المسلمين بتحريم الأمية شرعاً لتعلم حتى الشيوخ المسنين القراءة والكتابة في عدة شهور، لأنه قد لا يكون له حافز ذاتي إذا شعر الأمي أنه في حل من أميته لكن الوازع الديني سيدفعه للتعلم سريعاً لو أدرك أن الإسلام يحرم الأمية ولو أن هذا حصل لاحتفلت الأمة الإسلامية بآخر أمي يتعلم في المجتمع الإسلامي قبل ألف سنة، ولو وضعنا خطة لخمسين سنة أو مائة سنة تحت شعار تحريم الأمية لشاع التعليم في المسلمين وإذا شاع التعليم قامت الحضارة وازدهرت الأمة، أما بقاء المجتمعات كحالها اليوم أقلية متعلمة وأغلبية أمية فهو واقع مرفوض ديناً وحضارة.

3- وفي إطار نصوص الوحي لا بد من التفريق بين ما هو نص قرآني ونص لحديث نبوي، فالقرآن مقدم في الاعتبار على السنة النبوية من حيث السند لأن النص القرآني قطعي يقيني سنداً، ونص الحديث النبوي في أغلبه أحادي ظني ما عدا الأحاديث المتواترة وهي قليلة.
4-
ونصوص السنة الأحادية الصحيحة السند متفق على العمل بها مالم تصادم وتخالف وتناقض نصوص القرآن ومقاصد الشريعة، وعند حدوث التعارض بين نصوص القرآن ونصوص السنة فالأصل أن القرآن مقدم في الاعتبار على السنة ولا يعني هذا رد حديث السنة الأحادي الصحيح السند مباشرة ولكن بحسب ما طرح علماء الأصول عندما يحصل التعارض بين الأدلة نعمل بقاعدة الموازنة بين الأدلة والترجيح أي نسعى للتوفيق بين نص الحديث ونص القرآن ولو أدى الأمر إلى العدول عن المدلول الراجح للحديث المصادم للنص القرآني إلى المدلول المرجوح..

فإذا استحالت إزالة التعارض ردّ الحديث كما أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات وكيف أن عائشة رضي الله عنها ردت حديث رسول الله –ص- الصحيح السند (إن الميت ليعذب ببكاء أهله) بقوله تع إلى (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه أن عائشة ردت هذا الحديث لتعارضه مع القرآن بالرواية التالية (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ

تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أَوْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَلَا تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ قَالَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَقَالَتْ حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ"
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ
{هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى})(5)(33)

وقد أشار إبن تيمية إلى هذه القاعدة الهامة قاعدة عدم التعارض بين الأدلة عموماً وكذلك عدم تعارض السنة مع القرآن خصوصاً بما جاء في مجموع فتاواه بقوله : (مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولَاتُ الصَّرِيحَةُ وَأَنَّ " صَرِيحَ الْمَعْقُولِ مُوَافِقٌ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ ". وَكُنَّا قَدْ بَيَّنَّا " أَوَّلًا " أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا ؛ ثُمَّ بَيَّنَّا بَعْدَ ذَلِكَ : أَنَّهَا مُتَوَافِقَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ. فَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ السَّمْعِ وَالسَّمْعُ يُبَيِّنُ صِحَّةَ الْعَقْلِ وَأَنَّ مَنْ سَلَكَ أَحَدَهُمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْآخَرِ. وَأَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَقَالَ تَعَالَى : {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَقَالَ تَعَالَى : {إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}. فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَعْقِلُ أَوْ كَانَ يَسْمَعُ : فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاجِيًا وَسَعِيدًا وَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)(2)(37)

وقوله أيضاً في سياق عدم تعارض السنة مع القرآن ((وَمَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ قَدْ تَتَعَذَّرُ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا فَمَنْ ذَا الَّذِي يُحِيطُ بِأَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ ؟ بِخِلَافِ النُّصُوصِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا مُمْكِنَةٌ مُتَيَسِّرَةٌ. وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَقْضُونَ بِالْكِتَابِ أَوَّلًا لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ فَلَا يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ بَلْ إنْ كَانَ فِيهِ مَنْسُوخٌ كَانَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخُهُ فَلَا يُقَدِّمُ غَيْرَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ثُمَّ إذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ طَلَبَهُ فِي السُّنَّةِ وَلَا يَكُونُ فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ مَنْسُوخٌ إلَّا وَالسُّنَّةُ نَسَخَتْهُ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ إجْمَاعٌ وَلَا غَيْرُهُ ؛ وَلَا تُعَارَضُ السُّنَّةُ بِإِجْمَاعِ وَأَكْثَرُ أَلْفَاظِ الْآثَارِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالطَّالِبُ قَدْ لَا يَجِدُ مَطْلُوبَهُ فِي السُّنَّةِ مَعَ أَنَّهُ فِيهَا وَكَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَيَجُوزُ لَهُ إذَا لَمْ يَجِدْهُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَطْلُبَهُ فِي السُّنَّةِ وَإِذَا كَانَ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا فِي السُّنَّةِ مُعَارِضًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ الصَّحِيحُ لَا يُعَارِضُ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً. تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَصَلَوَاتِهِ عَلَى خَيْرِ بَرِيَّتِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)(4)(208).

ولا بد من الإشارة في هذا المقام إلى أن علماء الحديث قد بذلوا جهوداً عظيمة في توثيق السنة النبوية من خلال علم الجرح والتعديل والتحري في مواصفات رواة الأحاديث من حيث السند عدالة وضبطاً وهذا الجهد مقدر يجب البناء عليه ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى أن معظم جهود علماء الحديث إنصبّت حول أسانيد الأحاديث أكثر من متونها.

صحيح أنهم وضعوا شروط تتعلق بالسند (العدالة والضبط) وشروط تتعلق بالمتن (خلوه من الشذوذ والعلة) لكن لم يصل إهتمام علماء الحديث بالمتن إلى درجة وضع شرط رد متون السنّة إلى القرآن وصياغة قواعد لهذه المنهجية، منهجية رد متون الحديث إلى القرآن وبنوا عليها مع أن الإهتمام بالمتن لا يقل أهمية عن السند إن لم يكن أهم وفي نفس الوقت ضبط متون الأحاديث بالرد إلى القرآن أسهل.

وإهتمام علماء الحديث عليهم رحمة الله بالسند أكثر يتناسب مع المراحل الأولى لتدوين الأحاديث فهو جهد عظيم وغير مسبوق وفيه من الدقة بحيث يستطيع المطلع على السنّة الجزم بأن أكثر أحاديث السنة الصحيحة السند صحيحة المتن وأن القليل هو محل النظر بل أن كثير من الحسنة والضعيفة السند صحيحة المتن وإن ضعف سندها لموافقتها وعدم مخالفتها للقرآن ومع هذا إلا أنني أدعو لإحياء فقه رد متون السنّة إلى القرآن وهذا جهد يتناسب مع عصرنا بعد الإنجاز العظيم لتدوين الحديث الذي قام به علماء الحديث جزاهم الله خيراً.

وأنا أؤكد أننا إذا ضبطنا منهجية العلاقة بين القرآن والسنّة على هذا النحو بإحياء قاعدة رد متون السنة على القرآن فإننا سنحل واحدة من أخطر الأزمات المنهجية والمعرفية التي عانت منها العقلية الإسلامية طوال فترات الجمود والانحطاط ونغلق منفذاً من أخطر المنافذ التي دخل منها الشيطان وحزبه ولذلك نجد إبن تيمية كثيراً ما يشير إلى أن التبديل وقع عبر الأحاديث المكذوبة ومن المعلوم أن المذاهب الباطلة إنما عبرت من هذه الثغرة حتى أصبح لهم كتبهم الخاصة فضلاً عن ما سربوه إلى أهل السنّة.

ولذلك فإنني أقول لعلماء السنّة الذين لم يضعوا هذه القاعدة في منهجية التعامل بين النص القرآن والنص للحديث النبوي قاعدة رد السنة إلى القرآن بحجة أن حديث عرض السنّة على القرآن حديث ضعيف أقول هذا القول مردود عليه من عدة زوايا كالتالي : -

أ‌- أقول للقائلين بأننا لن نعرض أحاديث السنّة على القرآن لأن حديث عرض السنّة على القرآن ضعيف بأن رد السنّة إلى القرآن لا يحتاج إلى دليل من السنّة صحيح أو ضعيف لأن القرآن مقدم في الاعتبار على السنّة باتفاق علماء الإسلام وليست السنّة مقدمة في الاعتبار على القرآن وعليه فالقرآن حاكم على السنّة وليس محكوماً بها وهي تستمد مشروعيتها منه ولا يستمد مشروعيته منها والقول بعدم وجود دليل من السنّة يعني عملياً أن السنّة مقدمة في الاعتبار على القرآن ومحكوم بها وليست محكومة به.

ب‌- إذا انطلقنا من قاعدة أن القرآن مقدم في الاعتبار على السنة لأن سنده يقيني قطعي والسنّة الصحيحة الأحادية سندها ظني لا قطعي بحسب رأي علماء الحديث وأصول الفقه ما عدا السنة المتواترة وهي قليلة، فرد السنّة إلى القرآن يصبح ضرورة دون وجود دليل تفصيلي لمجرد تقدم القرآن على السنّة في الاعتبار لأن مقتضى هذا الأخذ بالأدلة من القرآن أولاً ثم الأخذ من السنّة ثانياً بما لا يعارض ويناقض القرآن.

ج- أقول لمن قال بضعف حديث رد السنّة إلى القرآن بأن هناك آية في القرآن توجب رد السنّة إلى القرآن وهي آية رد المتشابه إلى المحكم لقوله تع إلى (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فإذا كان القرآن قد أخبرنا أن القرآن منه المحكم ومنه المتشابه ودلّنا على المنهجية الصحيحة لفهم القرآن وحل إشكالية المتشابه برده إلى المحكم، فإن السنّة النبوية في الحقيقة داخلة في عموم هذه الآية لأن السنّة هي جزء من الوحي الإلهي.

والمحكم في القرآن هي أمهات المعاني أي أصولها وقواعدها الكلية، والمتشابه هو فرعيات المعاني وتفصيلاتها وأي علم لا يعرف إلا بمعرفة محكمه أولاً أي وضع أسسه وقواعده الكلية ثم معانيه الفرعية لأنها تكون بمثابة الموازين والمعايير التي أقيس بها الأشياء الفرعية ولذلك قال علماء الأصول لا يعرف الفرع إلا بمعرفة الأصل فإذا أدركنا من أين منشأ التشابه وكيف أنه مرتبط بالمعاني الفرعية قبل ردّها إلى أصولها، وأدركنا أن السنّة بالنسبة للقرآن مبينة أي مفرعة لأصوله ومفصلة لكلياته سندرك أن مقام السنّة من القرآن هو مقام الفرع من الأصل وما دامت كونها تفريعية تفصيلية فهي في نطاق المتشابه في القرآن والقرآن بين لنا أن المنهجية الصحيحة لفهمه هو الفهم الكلي لأم معانيه ثم الفهم التفصيلي لبنات معانيه بقوله تع إلى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)، فالقرآن الذي منه محكم ومنه متشابه يمكن أن يتحول كله إلى محكم إذا بدأت بفهم المحكم ثم المتشابه، بردّ الفرعيات إلى أصولها وبنات المعاني إلى أمهاتها.

وبهذا الدليل يتضح لنا أن هناك آية قرآنية لرد السنّة إلى القرآن ولسنا في حاجة إلى حديث لإجراء عملية الرد.

د- وهناك دليل قرآني آخر يوجب رد السنّة إلى القرآن وهو قوله تع إلى (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)، هذه الآية الكريمة وضعت لنا معياراً للدلالة على صحة الوحي وصحة الفهم وهو توافق آيات الوحي وعدم تخالفها و تعارضها وتناقضها، ومن هنا فإن أكبر دلائل عدم صحة الوحي وعدم صحة الفهم هو عنصر التعارض وعنصر الإختلاف وتضارب آيات ومعاني الوحي بعضها ببعض وهذا المعيار القرآني فيه بيان لعلامة الفهم الصحيح للوحي وهو الفهم الذي يصدق بعضه بعضاً ولا ينقض بعضه بعض لأنه لا يجادل أحد في صحة آيات الوحي.

فإذا كان الله قد أشار إلى وجود المحكم والمتشابه في القرآن وأشار إلى منهجية التدبر والفهم الصحيح للوحي بأنه الفهم المتوافق لا المتخالف أفلا نطبق هذه المعايير القرآنية على القرآن والسنّة معاً.

ه - بعد الأدلة الشرعية من القرآن بوجوب رد السنّة إلى القرآن برد متشابهها إلى محكمها ولقياس عنصر التوافق وعدم الإختلاف بين نصوص القرآن والسنّة بموجب قوله تع إلى (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) نورد دليلاً عقلياً فنقول بأن الذين رفضوا رد متون السنّة إلى القرآن بحجة ضعف حديث الرد فنضرب مثلاً يقرب المسألة فنقول لهم في إطار علم الجرح والتعديل الخاص بعلم الحديث والقواعد والأسس التي تم الإتفاق عليها بين علماء الحديث في منهجية القبول والرد لأحاديث السنّة تم تقسيم الأحاديث إلى مراتب من حيث حجيتها وصحتها على النحو التالي.

- الأحاديث الصحيحة (متواترة وأحادية).
- الأحاديث الحسنة.
- الأحاديث الضعيفة.
- الأحاديث الموضوعة.

ففي إطار هذا التقسيم لمراتب الحديث قوة وضعفاً وصحة ووضعاً، أسأل علماء الأصول وعلماء الحديث فأقول لهم إذا كان هناك حديث حسن أو ضعيف في مسألة وموضوع معين وكان هناك حديث صحيح يتعارض مع الحديث الحسن والضعيف فأيهما الذي يؤخذ به ؟ الحديث الصحيح أم الحديث الحسن ؟ لو سألنا علماء الحديث والأصول هذا السؤال لأجابونا على الفور يقدم الحديث الصحيح السند ويؤخر الحديث الحسن والضعيف.

فإذا قلنا لهم أعطونا دليلاً من السنّة أنه في حال التعارض بين الأحاديث يقدم الحديث الصحيح في الإعتبار ويؤخر غيره لأجابونا لا نحتاج إلى دليل نقلي في هذا الأمر بل هي مسألة تعرف بداهة لأن قواعد الأحاديث نفسها هي قواعد وضعها علماء الحديث.

فنقول لهم على هذا الأساس نترجى منكم أنه في حالة التعارض بين الحديث الصحيح سنداً مع نص قرآني أن تنزلوا النص القرآني منزلة الحديث الصحيح من الضعيف.

و- في سياق الكلام عن قوة حجية السنّة الأحادية فأود أن أنبه في هذا المقام إلى أن السنّة الصحيحة كما قرر أكثر العلماء منها المتواتر وهو يفيد اليقين والأحادي يفيد الظن فأقول لهم أنني أختلف معهم أن السنّة الأحادية تفيد الظن فحسب فهي تفيد الظن إذا نظرت إليها من زاوية السند فقط لكن إذا نظرت للأحاديث الأحادية الصحيحة من زاوية السند والمتن معاً فإن أغلب السنّة الأحادية الظنية سنداً لها أصول قطعية قرآنية متناً بإعتبار أن السنّة في الأساس تفصيل لمجملات القرآن وتفريع لأصوله وكلياته..

ولذلك ما من دليل فرعي ظني في السنّة الصحيحة الأحادية إلا وله أصل قطعي قرآني وعليه فرد متون السنّة الأحادية إلى أصولها القرآنية تقوية وتعزيز لحجية السنّة الأحادية الظنية بأصول قطعية قرآنية والمتدبر لنصوص السنّة الأحادية سيجد بالفعل أن أكثرها من زاوية المتن لها أصول قرآنية وعليه فإنني أقول أن حجية السنّة الأحادية الظنية السند ذات أصول قرآنية قطعية السند وهذا ما يغفل عنه كثير من العلماء إذ يعتقدون أن حجية السنّة الأحادية حجية ظنية فحسب وأنا أقول أنها حجية ظنية ذات أصول قطعية ولهذا السبب أستخدم هذا المصطلح (القرآن المعصوم والسنّة المعصومة بالقرآن) .

______________________
مسئول التخطيط السياسي سابقاً في التجمع اليمني للإصلاح

زر الذهاب إلى الأعلى