[esi views ttl="1"]
دراسات وبحوث

كتابات النعمان والزبيري.. جذور الفكر النضالي الوطني

من المؤكد أن هذه المؤلفات المختارة من كتابات الزعيمين المناضلين الأستاذ أحمد محمد نعمان، والأستاذ محمد محمود الزبيري، تأتي في أوانها لتؤكد حضورهما في وجدان الشعب من ناحية ولكي تقدم للأجيال الجديدة صورة حقيقية وواقعية عن النضال الوطني في ظروف قاهرة في تاريخ اليمن من ناحية ثانية .

وإذا كان العمل السياسي في السنوات الأخيرة -وبعد إعلان الديمقراطية والتعددية الحزبية – يبدو متعثراً ومتباطئ الخطى فإن ذلك يعود –من وجهة نظري- إلى أن المشاركين فيه لم يهتموا بالبحث عن الجذور الأولى للعمل السياسي وما رافقه من جدية وإصرار، وكيف أن الرجال العظام لا تصنعهم الظروف الاستثنائية المواتية وإنما تصنعهم الحوادث والشدائد وتصقلهم التجارب والآلام.

ومن هنا فإن الإمعان في قراءة هذه المؤلفات لا تفتح أمام الأجيال الجديدة صفحات كانت ملء السمع والبصر فحسب، وإنما لتضع بين أيدي السياسيين جزءاً حياً من تاريخ هذا الوطن ونضاله واستشرافه لزمن جديد يكون فيه "الشعب مصدر السلطات" وتكون الحكومة فيه خاضعة لإرادة هذا الشعب من خلال "حكم وطني نيابي ديمقراطي ومن خلال القضاء على أنواع الاستعباد وتحقيق الحرية الكاملة للشعب والأفراد والجماعات، حرية الفكر، حرية الاجتماعات، حرية التعبير بشتى وسائله" كما أكدت على ذلك (أهداف الأحرار).

وهذه المؤلفات المختارة من كتابات الأستاذين، ليس فيها ما هو خيالي أو شعري أو ذاتي وإنما تضرب في جذور مأساة الوطن وتستوعب همومه المعاصرة. ومن حقنا أن نرسم الصورة التي نريد للرجلين العظيمين أو نسترجع أصداء حياتهما الصاخبة ولكن ليس من حقنا كتابة سيرتهما التي كتباها بالدم والدموع، بالغربة والسجن، وامتدت على مساحة نصف قرن مليئة بما يمكن وما لا يمكن تصوره من المتاعب والمخاوف والأحلام.

ولم يكونا في يوم من الأيام شأن بعض الثوار الحالمين يبحثان عن المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا مستحيلة التحقيق، وإنما كانا يبحثان عن مدينة واقعية يتحقق فيها الحد الأدنى من الحرية والعدل واحترام آدمية الإنسان وصولاً إلى "الانسجام الوطني بين أبناء الشعب كافة". وهكذا فإن هذه الكتابات المنشورة الموثقة تستطيع أن تفتح أبواب الماضي كما كان، وأبواب المستقبل كما ينبغي أن يكون.

وتجدر الإشارة، بل يجدر التأكيد على أن هذه الكتابات لم تكن سرية أو مطوية في الخفاء وإنما كانت منشورة ومتداولة بعضها يعود زمن ظهوره إلى أواخر الثلاثينيات، وبعضها إلى الأربعينيات، وبعضها الآخر إلى الخمسينيات. قرأها الجيل الذي كان قبلنا وقرأها جيلنا، وأعيد نشرها في كتيّبات صغيرة تسللت إلى البلاد كأخطر الممنوعات، ثم جاءت الثورة وظن البعض أن أدبيات ما قبلها لم تعد تهم أحداً، وأن هناك أدبيات أحدث تتناسب مع المواجهات التي جدت بعد الثورة وتولت الإجابة على الأسئلة الكبيرة الأكثر حداثة وعالمية.

وكان ذلك -في رأيي- ضرباً من الخطأ، فالأشجار لا تقوم بدون جذورها وهذه الكتابات –مهما قدم بها العهد - هي جذور فكرنا النضالي الوطني، وهو فكر تحرري تنويري يتقدم في بعض مفرداته على السائد والمتداول في واقعنا الراهن، ويكاد يوحي –للأسف الشديد- أننا نسير إلى الخلف ونحن لا ندري.

هي، إذن، صفحات ناصعة ينبغي أن لا تطوى وأن لا نتجاهلها وأن تظل كحياة صاحبيها مفتوحة مقروءة لا لنعرف من خلالها ظلام الواقع الغريب الذي كان ونستجلي غوامضه وإنما ليعرف الجيل الجديد بخاصة -وهو يقرأها ويستعيد قراءتها- أنها لا تتحدث عن تاريخ سحيق ضارب في أعماق التاريخ وإنما عن تاريخ قريب، قريب جداً ما زلنا نعاني من آثاره، وفي الوقت ذاته نستنير بالأضواء التي قاومته وتحدت ظلماته القاسية، ولتكون مبعثاً للطمأنينة والأمل في نفوس المناضلين الذين لن يخلو الدرب منهم في حياة تتجدد همومها ومعوقاتها وتتجدد أساليب مقاومتها وطرق تحديها.

ولا ننسى أن انتقال الأستاذين الزبيري ونعمان من تعز إلى عدن قد شكل منعطفاً هاماً في تاريخ الحركة الوطنية بل في تاريخ الشعب اليمني، فمن هناك بدأ المناضلان إعلان ثورتهما على الممارسات السلطوية الاستبدادية ونجحا في عرض قضية الشعب من مختلف وجوهها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يساندهما في هذا الموقف عدد من الأحرار المتحمسين الذين رافقوهما أو سبقوهما بالفرار إلى عدن، ومناضلين آخرين من أبناء عدن والمحافظات الجنوبية.

ويمكن القول أن الشعب كان -يومئذ- يدرك أنه مظلوم وأنه غارق في العذاب إلى رأسه، ولكنه لم يكن يدري سبيلاً للخلاص ووصل به الحال إلى أن كاد يقنع نفسه بأن الظلم صار قدره والاستبداد نصيبه في الحياة الدنيا حتى تع إلى صوت الأحرار في عدن. وكان ما كتبه الأستاذان تعبيراً صادقاً وواقعياً عن نبض المواطنين وأرقهم في البحث عن حلول عاجلة تخلصهم من نهب القليل الذي يكسبونه بعرق الجبين باسم الزكاة والفطرة وأجور العساكر والمخمنين والكشافين وطابور طويل من المرتزقة الذين كانوا يشكلون أنياب السلطة الغاشمة وأظافرها الحادة.

وأدرك المواطنون -بعد أن فتك بهم ظلم الحكام وبعد أن عاشوا عقوداً من السنين صاروا خلالها عرضة للمجاعات والأوبئة- إن دعوة الأحرار صادقة مخلصة وليست كما كان يقول الحاكمون "حقداً ولا ضغينة وليست كفراً ولا إلحاداً ولا موتاً زؤاماً وإنما هي طريق إلى النجاة، نجاة الشعب ونجاة الحكام، والطريق إلى العزة، عزة الأمة، وعزة الدولة وحل للمشكلة التي تخنق الملايين وتسير بهم إلى الانقراض والاضمحلال " كما جاء في أحد برامج الأحرار (أمالنا.. وأمانينا).

وهكذا وبفضل تلك الأصوات تأسست فكرة المقاومة المشروعة للاستبداد والظلم والعبودية وبدأت المواجهات تعلو شيئاً فشيئاً بعد أن كان الشعب يتجرع الآلام صامتاً ويخاف حتى من "الأنين والتوجع والتأوه" كما تقول الأنَّةُ الأولى من هذه الكتابات . والثابت تاريخياً أنه لم يمر سوى بضعة أعوام منذ انتقال الأستاذين من تعز إلى عدن وإصدارهما "صوت اليمن" حتى اندلعت الثورة الدستورية في فبراير 1948م، وهي الثورة التي توصف بالمغدورة، فقد تكالب عليها جهل الداخل وتآمر الخارج، خوفاً من انتقال رياحها السعيدة إلى أماكن عربية قريبة أو بعيدة. ولذلك تم وأدها في مهدها وقُطِعت رقاب العشرات من المشاركين فيها. كما قُتِل المئات من الأبرياء واستُبيحت المدن ونُهِبت الأموال ودُمِرتْ المنازل والمتاجر.

لقد فشلت الثورة الدستورية وذهب كثير من قادتها بين قتيل وسجين وشريد إلاَّ أنها أيقظت الوعي وحركت نهر التساؤلات. وجاءت حركة 1955م لتزيد الوعي وتفتح أعين المواطنين على وقائع جديدة زالت معها غشاوة التضليل وتساقطت عندها آخر أقنعة القداسة الزائفة وبدأت مظاهر الفساد والطغيان تتجلى كأبشع ما تكون، وبدأ المد الثوري على شكل دوائر تتسع ويتسع معها السخط العام الذي مهد لقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر التي أسهمت بدورها في قيام ثورة الرابع عشر من أكتوبر، ليتحرر الوطن اليمني بشطريه في حقبة تتزامن مع تغيرات بالغة الأهمية شهدتها الساحة العربية من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق.

وربما اقتضى جمع المؤلفات المختارة من كتابات الأستاذين الجليلين نعمان والزبيري، في كتاب واحد من مجلدين الإشارة إلى المودة العميقة التي جمعت بينهما والانسجام التام الذي رافق مسيرتهما النضالية . وتشير المعلومات المدونة إلى أنهما عرفا بعضهما لأول مرة في إحدى القرى القريبة من مدينة تعز ثم توطدت معرفتهما لبعضهما في مصر وكانا من مؤسسي كتيبة الشباب اليمني التي تألفت من طليعة وطنية تمثل أبناء اليمن من حضرموت إلى صنعاء. وقد زادت علاقة الأستاذين رسوخاً في تعز حيث حاولا إصلاح ما كان مستحيلاً إصلاحه من أمور البلاد على أيدي الحاكمين أنفسهم إلى أن أثبت اليقين فشلها وعدم جدواها.

والحديث عن المودة العميقة والانسجام التام بين رجلي القضية الوطنية في اليمن لا يحجب بعض نقاط الاختلاف ولا يمنع وجود وجهات نظر مختلفة أحياناً في الجزئيات لا في الكليات، وفي الوسائل لا في الغابات، لكن تلك الاختلافات لم تفسد شيئاً في أبعاد العلاقة التاريخية ولم تنتقص من حقيقة ما كان يقال أن أحدهما يكمل الآخر بصورة أو بأخرى. وكما فشلت كل المساعي الهادفة إلى تمزيق وشائج تلك العلاقة العميقة القائمة على صداقة حميمة والتزام أخلاقي تجاه القضية التي نذرا نفسيهما لها حياةً وموتاً.

وما أكثر المحاولات التي هدفت إلى إيجاد انشقاق بينهما منذ كانا في عدن وربما منذ كانا في قصر ولي العهد في تعز الذي افتعل خلافاً بدا في شلكه أدبياً بينهما – من خلال إثارة قضية الشعر والنثر وأيهما له الأفضلية على الآخر. وقد وقف الزبيري إلى جهة الشعر في حين تبنى نعمان أفضلية النثر على سواه - ثم تكررت المحاولات في مصر لكن الصداقة والالتزام جعلا كل محاولات تفريقهما وإنشقاقهما تبوء بالفشل.

لقد كان الرجلان بطلي قضية ولم يكونا تاجرين ولا يعملان في شركة مساهمة تتجاذبهما المنافسات والتزاحم على الأرباح "وإنما هي مسألة التزام بأهداف وأعمال ومواقف" كما عبر عنها بوضوح مدهش الأستاذ الزبيري في كتيب (نعمان الصانع الأول لقضية الأحرار) على النحو الآتي: "إن هناك حقيقة ثابتة أبدية تقوم عليها فكرة الإخاء بين نعمان والزبيري، هذه الحقيقة ليست العاطفة، وليست الأشواق المبرحة، وليست المنفعة ولا التجارة، وليست الشراكة في مغنم .

ولو كانت شيئاً من ذلك لما ثبتت تلك الأخوة وسط الأعاصير والأهوال والدماء .. حيث تزيغ الإبصار، وتبلغ القلوب الحناجر وتضمحل كافة القوى الإنسانية وتتلاشى كل الاعتبارات الذاتية، وكل الأهوال والنزعات . أنها صفقة خارجة عن ذواتنا المتقلبة الزائلة، إنها فكرة الوطنية الخالدة، التي تسيطر على حياتنا، وسوف تسيطر على قبورنا، وذرات أشلائنا ورفاتنا. تلك الحقيقة هي التي تمخضت عن إخوتنا، وجعلتها أمراً واقعاً ثابتاً ثبات القضية في نفوسنا. فلتسترح الإشاعات، ولتهدأ ولتنصرف إلى ضروب أخرى من ألوان الدس والكيد. قد تكون أجدى عليها من النفخ في الهواء ومن الضرب في حديد بارد ".

أخيراً، إنها لمتعة فكرية رائعة أن يرحل القارئ بعقله وبوجدانه مع هذه المختارات، وأن يشارك صاحبيها -بعد عهد طويل- مخاوفهما وقلقهما ومغامرتهما وإيمانهما الذي لا يتزعزع بالنجاح في المهمة العامة، وأن يسترجع الضمير نماذج من الطغاة يجمعون بين الاستبداد السياسي والعبودية، كما سوف يفاجأ بأنماط من التخلف منقطع النظير ويكتشف حقيقة أن الشعوب – مهما بلغ بها الضعف- لا تتأخر حين تُدعى إلى النهوض ورفض الخنوع وذل الصمت. وأن الطغيان البشع كما يخلق تابعين أذلاء، فإنه يخلق كرد فعل على عسفه وجوره أحراراً رافضين، وقادة لا يهابون الموت في سبيل ما آمنوا به وتواصوا عليه.

وتلك باختصار هي ملامح هذه الملحمة الوطنية التي ترويها هذه المؤلفات وتسجلها في تسلسل تاريخي أمين . والفضل في ذلك كله لهذا الشاب الذكي الرصين لطفي فؤاد نعمان معد هذه المؤلفات للنشر وجامعها ومعيدها إلى ذاكرة القراءة والعصر، وهو – في سبيل ذلك – لم ينقصه الإصرار والطموح ولا الحرص على أن يبقى بريق حركة الأحرار أكثر ألقاً وإشعاعاً وأكثر حضوراً في ضمير الأجيال التي أفنوا حياتهما من أجل سعادتها وحريتها.

كلية الآداب- جامعة صنعاء
صنعاء - 7/7/2006م

* نص مقدمته للمؤلفات المختارة للأستاذ أحمد محمد نعمان والقاضي محمد محمود الزبيري جمع وإعداد: لطفي فؤاد أحمد نعمان.. (تحت الطبع).

زر الذهاب إلى الأعلى