دراسات وبحوث

الدولة الإمامية في اليمن .. النشأة والحكم

كانت ثورة 26 سبتمبر1962م خلاصة موسم طويل جداً من النضال المتواصل ضد المشروع الإمامي الذي حاول أن يدفن عزة هذا الشعب ويؤبد مواته وانحساره عن ساحة الإسهام في بناء الحضارة وتقدم الإنسانية.

للأسف؛ لقد نالت أجواء ترسيخ الديمقراطية بعد قيام الوحدة اليمنية المباركة 22مايو1990م من ثقافة الثورة.. ونشأت على عاتق ذلك أجيالٌ هي في مسيس الحاجة إلى معرفة مدى النبل الكامن في ثورة اليمن البعيد. تلك التي انتقلت به من خانة اليمن البعيد إلى ضفاف اليمن الجديد.

وإنه لمن قبيل الضرورة أنه ما لن يتم معرفة السواد الحالك الذي ثارت عليه الثورة ومدى كونه مشروعاً خبيثاً كان هدفه أن لا يستيقظ هذا الشعب من جديد. ولكن هذا الشعب استطاع أن يكلل كفاح القرون بثورة سبتمبر المجيد، وأن يعلن للعالمين أن لم يزل حياً.. وأنه الآن على أعتاب استعادة دوره الحضاري من جديد. فبمجرد أن تم طرد الإمامة والاستعمار استعاد اليمنيون وحدتهم.

في هذا المبحث أحاول هنا تسليط الضوء على الثورة اليمنية الخالدة معرجاً في البداية على تقديم صورة ملخصة عن طبيعة المشروع الكهنوتي الذي ثار عليه اليمنيون في الـ26من سبتمبر 1962م لأدلف بعد ذلك للحديث عن معركة الانعتاق الكبير الذي تكللت صبيحة يوم الخميس قبل 46 عاماً من اليوم. وصولاً إلى جزاء ثالث يتحدث عن العمليات الدائبة التي بذلها مخلفات التيار الإمامي في تشويه وتغييب ثقافة الثورة.

الدولة الإمامية..

ماذا دهى قحطانَ؟ في لحظاتِهم.. بُؤسٌ، وفي كلماتِهِم آلامُ
جهْلٌ، وأمراضُ وظلمٌ فادحُ... ومخافةٌ، ومجاعةٌ، و"إمامُ"
(محمد محمود الزبيري)

ارتكزت فكرة الإمامة في الفكر الشيعي الجارودي على استحقاق البيعة لمن يخرج من أبناء الحسنين داعياً لنفسه عالماً مجتهداً قوياً، وأضاف بعضهم: وخالياً من العيوب الجسدية والعاهات وأن يخرج على الظلمة شاهراً سيفه ويدعو إلى الحق. وجوّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة، وإن كانا في قطرين انفرد كل واحد منهما في قطره ويكون واجب الطاعة في قومه. ولو أفتى أحدهما بخلاف الآخر كان كل واحد منهما مصيباً، وإن أفتى باستحلال دم الآخر(1).. وتجسدت الإمامة كدولة على أرض الواقع في طبرستان (بلاد الديلم) والمغرب واليمن، وسوف نتطرق في باب قادم كيف أنها سرعان ما انتهت في البلدان الأولى بينما استمرت في اليمن..

ظل اليمن في كنف الدولة الإسلامية المركزية، منذ أن اعتنق اليمنيون الإسلام على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، واستمر كذلك حتى بدايات القرن الثالث الهجري حين بدأت ملامح الضعف والشيخوخة تظهر على الدولة العباسية..

حينها انسلخ اليمن عن بغداد.. وتأسست الدولة اليعفرية على يد الإمير يعفر، الذي خلفه ابنه محمد بن يعفر وهو أول من وحّد اليمن وحكمها مدة عشرين عاماً وقتل في 270ه، انقسمت اليمن وتفرقت في عهد ابنه أبي يعفر إبراهيم بن محمد والذي قتل في عام 279 ه، وأصبحت حينها اليمن بلا راعٍ...

في ظل تلك الفوضى والشتات استجلبت الإمامة من الحجاز فحلّ الإمام يحيى بن الحسين على صعدة وقبائلها سنة 284ه، ولقب نفسه بالهادي وبدأ يدعو إلى الإمامة، والتشيع بخوض الحروب الطاحنة ضد اليمنيين.. بينما وفي الجهة الاخرى في عام 268ه هبّ القرامطة وأعلنت الدعوة القرمطية في الغرب والجنوب واحتدم الصراع بينهم وبين اليمنيين(2).

الإمامة التي "استجلبت" من الحجاز لتصلح بين قبليتين متصارعتين وتحقن الدماء راحت تبث دعوتها وتكرّس عقيدة التشيع بين القبائل ثم تدفع بهم للجهاد "في سبيل الله" ضد من يمتنع عن البيعة لأحفاد النبي، صلى الله عليه وسلم.

وتَشَكّل للإمامة كيان نسبي في عهد أسرة شرف الدين وولده المطهر اللذين حاربا الحكم والوجود العثماني في اليمن، تلك الأسرة مهدت لقيام الدولة الإمامية في اليمن.

قامت دولة الإمامة الجارودية في اليمن مرّتين: الأولى الدولة القاسمية التي أسسها القاسم بن محمد ثم أبناؤه من بعده واستمرت منذ العام 1006ه - 1598م وحتى مجيء العثمانيين للمرة الثانية إلى اليمن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

أما دولة الأئمة الثانية فقد قامت على يد الإمام يحيى حميدالدين بن محمد من نسل الأسرة القاسمية واستمرت 44عاماً (إلى قيام الثورة اليمنية 1962).

مجموع السنوات التي قضتها الدول الإمامية منفردةً بحكم اليمن 233 سنة(3)، منها 44 سنة حكمت فيها الجزء الشمالي فقط. بينما كان الجزء الجنوبي مستعمراً من قبل الانجليز. فيما بقية الألف عام، الشائع، لدى الكثير من الناس، فإنهاكانت إمامة متواصلة متداولة بين الأسر الهادوية ولم تكن إمامة حكم ذات عاصمة وراية ونشيد؛ فخلال بقية تلك الفترة الممتدة (ألف ومائة وخمسون عاماً تقريباً) كانت الإمامة ذات طابع قروي، تمتد في أحسن حالاتها لتشمل مدينة صعدة وما جاورها، سنوات قليلة ثم تعود أدراج الريف.

والمطّلع على سيَر الأئمة يدرك أن نطاق "فتحوحات" الأئمة كان على مستوى القُرى، فنرى كتّاب السِّيَر يبالغون في وصفها حتى لتظنَّ أن (السامك، القفلة، بني جل، الشطّ، العرضي والصافية العدنية، والعصيمي، وبيت معياد...) مدن متباعدة، أو أقاليم يبعد بعضها عن الآخر مئات الأميال فيما هي أحياء وقرى شديدة التجاور والقرب.

وإحدى أحسن الحالات التي وصل إليها الأئمة بعد أنهار من الدماء، هي نتائج صلح دعّان مع العثمانيين، والذي اعتبره الأئمة إنجازاً باهراً، وانتصاراً مؤزراً امتد بموجبه نفوذ الإمام يحيى، وفق ما يذكر مؤلفه عبدالكريم مطهر، "من حدود عمران إلى صعدة، ومناطق بالمشاركة مع الأتراك، من عمران إلى سمارة، وثالثة للأتراك خالصة من سُمارة إلى الراهدة إضافة إلى منطقة تهامة"(4).

الدولة الإمامية.. النشأة والحكم

يبدأ تكوُّنُ مشروع الدولة الإمامية، عادة،ً بحالة من الانتعاش المادي تشهده الأسر الهادوية، يتبعه حلقات من التواصل الحميم فيما بينها، والدعوة إلى التماسك وطيّ ملفات الماضي، ينشأ على إثر ذلك حركة مزدوجة فكرية وسياسية؛ الأولى تعزف على وتر "الزيدية" بمنظورها الجارودي المفضي إلى حق البيت العلوي في الحكم، والأخرى سياسية تتكفل بمهمة التغلغل في أجهزة ومرافق الدولة المراد إسقاطها والعمل على تفكيكها، في نفس الوقت التركيز على مظاهر الضعف والتحلل في أوصالها والتبشير بسقوطها، والدعاية المستمرة عن انحراف الدولة أخلاقياً وفساد رجالها، وعن "محاربتهم للدين والصلاة وشربهم الخمر جهاراً نهاراً وحبهم الغلمان" إلى آخر ما هنالك..

هذا الإعداد لا يكتب له النجاح وحده ما لم يكن ثمة عزف على وتر تهديد خارجي محدق بالأمة، وبالتالي يتم حشد القبائل الغيورة على أساس من التحرك الوطني، سواء كما حدث مع العثمانيين(5) أو كما هو الحاصل الآن من قبل الحركة الحوثية عبر رفع الشعار المستبطن عمالة الدولة لأمريكا وإسرائيل.

قيام الدولة الإمامية:
جرت العادة الإمامية أنه وبمجرد دخول العاصمة صنعاء، فإن الدولة الإمامية تستفتح عهدها بثلاثة أحداث مميزة هي كالتالي:

أولاً: حالة نهب واسعة من قبل جحافل الفتح الجارودي للعاصمة تسرق وتنهب وتدمر ثم يذَروها قاعا ًصفصفاً، ويقول مؤرخو الأئمة دائماً عقب كل نهب: "وذلك حدث دون علم من الإمام ولا رضاه".

المرات التي أبيحت صنعاء فيها للقبائل أضعاف المرات التي قامت فيها دولة إمامية، ذلك أن العاصمة كثيراً ما كانت عرضة للسلب والخراب، سواء قبل إقامة الدولة على صورة غارات بغرض "الفَيْد"، أو بعد قيامها على هيئة مكافأة من الإمام تجاه نصرة القبائل له كما حدث في العام 1948.. الأمر الذي قلص منازلها من 100 ألف بيت إبان ظهور الإسلام إلى العدد الذي انتهت إليه أيام ثورة 1962... "صنعاء وغارات قبائل الأئمة" كتاب مهم يحتاج إلى مؤلف..

ثانياً: شروع أسرة الإمام في تصفية رموز الأسر الهاشمية الذي يُتُوقّع منهم التنافس. ونجد أن القاسميين، وفور قيام دولتهم العام 1598م، قاموا بتصفية وملاحقة أبرز ثلاث أسر هاشمية هي: بنوشمس الدين، والحمزات, وأبناء القاسم العياني(6).. كذلك فإن الدولة المتوكلية قد قامت في بداية عهدها بتنفيذ حكم الموت في رموز من الهاشميين من آل أبي الدنيا والقاضي جغمان وغيرهم.

ثالثاً: تصفية القبائل المناوئة أولاً، ثم بعد ذلك يأتي دور تصفية القبائل المناصرة التي يتم وصفها بعد قيام الدولة بأقذع الأوصاف وبما يناقض الأوصاف الأولى التي عادة ما يتم حشدهم وفقها.

من ذلك مثلاً كما يحدث مع إحدى أكبر القبائل التي تُمدح بداية بأنها "قبيلة آل البيت وأنصاره وأن الله قد سخرها لخدمة آل البيت كما سخر الشياطين لسليمان"(7) وتدبَّج في فضائلها الأحاديث والأخبار، لكنه بعد النصر، وبعد تنصل الإمام من التزامه تجاه القبيلة (سواء عن غدر أو عن عدم مقدرة بالإيفاء) فإن مؤرخه يذم إلحاحها ويستهجن مطالبها قائلاً: "وأما قبيلة (فعلان) فقد أجمع الإنس والجان أن لهم طبعاً أخس من النسوان"(8). وهذا التنكر لا يحدث فقط بعد قيام الدولة بل أحياناً عند عدم الاستجابة أثناء مراحل الإعداد والتهيئة.

هذا ويحسُن الإشارة إلى أن سكان اليمن كلهم يندرجون ضمن مسمى "القبائل" قلّصت هذا المفهوم، وحصرت صفة "القَبْيَلَة" على مناطق في شمال الشمال، مقرونة بكل صفات الغلظة والمداهمة وكأنها هي الشجاعة. مع أن الشائع المفترض في صفات القبائل هو النجدة والبسالة والرفق والكرم.

تعتمد الإمامة في تجييشها للقبائل على ثلاث وسائل:

- الأولى: "بدونتها" أي جعلها ذات طابعٍ بدويٍّ تصبح فيه "أرزاقها في أسنة رماحها"، تتركز فيه المكانة الجهوية للشيخ على مقدار مقتنياته من فيد الغزوات على "أعداء الله"، وجعل مثل هذا السلوك حاجة مستدامة لدى هؤلاء، وذلك بغرس ثقافة تحتقر المهن وتزدري أصحاب الحرف وتحط من قيم الإنتاج والكسب باليد والكد.. الأمر الذي تميّعت فيه، لدى بعض القبائل، حرمة أموال الآخرين (دولةً أو أفراداً) في تراكم مقعد مسنود بسند فقهي أعوج نعاني آثاره حتى الآن متمثل ب"العرط من ظهر الدولة" وفي سلب حقوق المواطنين بغير وجه حق..

هذا الأمر أدى، من جهة ثانية، إلى توقف عجلة الإنتاج الأسري في المناطق القبلية المتاخمة للمشروع الجارودي، وانتقال بعض الحرف إلى فئة اليهود كصياغة الفضة والنحت..

- الوسيلة الثانية لحشد القبائل كانت تقوم على عامل التجهيل وعدم السماح لأية نسائم تفتح خلايا العقل القبلي المناصر للأئمة إلا بالقدر الذي يعظّم فيهم الشعور بقدسية آل البيت، وواجب نصرتهم، وكأنه الدين كله، محصنين إياهم من مجرد الاستماع لأفكار "النواصب" وأساليبهم (الخطيرة) في التضليل، ويتم ذلك في عملية تلقيح متواصلة صارت أشبه بالزاد اليومي.

وأساس العلم والمناهج التي تدرس في الهجر المتناثرة في مناطق القبائل، منذ ظهورها على يد الأسرة الحاكمة من أبناء الرسي التي وفدت إلى اليمن وحتى اليوم، هو "الإمامة، ومن هم أصحابها"، واختلفت أحكامهم على المعارضين لتلك النظرية بحسب ظروفهم في كل مرحلة..

فالمعارضون تارةً كفار أو عاصون، والكفر عندهم نوعان "كفر صريح" و"كفر تأويل"، وحتى لو كان هذا المعارض من أتباع زيد، رضي الله عنه، والمؤمنين بتعاليمه كفرقة "المطرفية"، إحدى الفرق الزيدية (بل هي الزيدية الحقة، كما أسلفنا) التي لا تشترط حق الإمامة في أبناء فاطمة الزهراء، مما دفع بالإمام عبدالله بن حمزة الرسّي إلى إصدار حكمه بتكفيرهم، فقَتَل منهم ما يزيد على مائة ألف، وخرّب مدنهم وقراهم وسبى نساءهم وذراريهم، ومنعهم من دخول المساجد. حتى أنه كتب على واجهة مسجده الذي بناه في ظفار:

أقسمتُ قسمة حالفٍ برٍّ وفي لايدخلّنك ما حييتُ "مطرفي"(9).
ثالثة هذه الوسائل: استغلال النخوة الوطنية لدى القبائل وذلك بجعل نصرة دولة الإمامة وكأنها دحر لعدو كافر مقيم أو عدو كافر مرتقب، وإن لم يكن العدو عثمانياً أو أمريكياً، وكان من أبناء اليمن فهو "أمويّ" ممن قتلوا الحسين وناصبوا أهل البيت العداء أو هو "لغلغي، ذليل، محروم الهداية".. لأنه شافعي المذهب.

والتحريض دائماً سهل.. الصعب هو أن تغرس المحبة والاعتدال؛ فكما يقال "داعي الفساد مُجاب" و"الدبور مشجَّع"، خصوصاً إذا كان أرباب التحريض على قدرٍ من المهارة والخطابة والاستحثاث عديم المسؤولية.. وكل دعاة التيار الإمامي يجيدون هذه المهارة ويتفنّنون فيها حدّ الإغواء، وحدّ التخدير المحكم الذي يُلقي صاحبه راضياً في دروب التهلكة.

وقد وصف أحد الأحرار "اليمن الأعلى" الخاضع لسلطان التشيع بأنه ورغم كونه ساخطاً على الوضع، ناقماً على الحكم والأعوان، "ولكنه سرعان ما ينقلب سخطه رضا عندما يسمع أبناء النبي وبناته يستنصرونه ويطلبون نجدته، وهنا ينسى كل شيء، ينسى جروحه الدامية وآلامه السود، وقيوده التي حطمت أقدامه وغلّت أيديه، ينسى كل ذلك، ويقوم منتصراً للآل والمال ويغضب لا للكرامة ولا للفضيلة، ولكن لأجل أن يستولي على صنعاء وما في بيوتها ودكاكينها"(10).

هذا المنهاج الإمامي في حشد القبائل سرعان ما ينقلب عبئاً عليهم بمجرد قيام الدولة فتسعى إلى استئصاله واغتيال مشائخ القبائل وزعمائها حتى لا يعنَّ منهم نحو الرئاسة ابنُ أُُمّ..

فترة الحكم:

من الناحية النظرية، لا تقول الإمامة الجارودية بمبدأ الوراثة؛ لذا، وبمجرد قيام الدولة، فإن أحد الحالين التاليين هو الذي يصبغ مسألة انتقال السلطة وهما:

- إما الانقلاب على مبدأ الخروج وتطبيق مبدأ الوراثة في أسرة الإمام الحاكم. وفي هذه الحالة يكون ثمة صراعان؛ الأول بين أسرة الحكم ذاتها، والثاني بين أسرة الحكم والمنافسين من بقية الأسر الهاشمية الذين يتحولون بدورهم إلى ثوار. و

بذلك تؤول الأمور إلى ما صارت عليه بوفاة المؤيد عام 1054ه ابن مؤسس الدولة القاسمية، إذ قام "المتوكل على الله" من (ضوران) ودعا لنفسه، وقد عارضه كل من أخيه صاحب "شهارة" وعمه صاحب "تعز" وثالث من "صعدة".. فانتزعها من أخيه بقوة السيف، وأخذ منه البيعة بعد عقد مناظرة صورية بينهما، وتنازل له عمه مقابل إبقائه على تعز وإطلاق يده عليها وعدم التدخل في شؤونها.. وتولى من بعده أخوه على تعز، أما المنافس الثالث فتارة يبايع وتارة يجدد دعوته ليضمن عدم تنحيته عن صعدة.

كما خرج على المتوكل إسماعيل وتنازع الملك ثلاثة أمراء ودارت معارك طاحنة إلى أن رست الإمامة على أحدهم. وكذلك بوفاة المهدي "صاحب المواهب" 1092ه تنازع الإمامة 8 أشخاص من بيت القاسم كل شخص منهم يدعو للإمامة من المنطقة التي يحكمها وثم توزع اليمن بينهم كما تقسم التركات..

وعلى هامش ذلك تتحرك الجيوش وتندلع المعارك وكل قبيلة تعتدي على الأخرى، وجميعهم يقتتلون مدفوعين في صف هذا أو ذاك من المتنافسين على الإمامة.. فتخرب الديار وتضرب الأعناق دون وازع أو ضمير، وتنهب الأموال، وتنتهك الأعراض وتمتلئ السجون، ثم توزع البلاد إقطاعات وترضيات للمنافسين من أسرة الحكم(11).

وفيما يتعلق بالدولة المتوكلية فيعد انقلاب 1955م خير شاهدٍ على طبيعة التنازع داخل الأسرة الحاكمة.

- وإما أن يتم تطبيق مبدأ الخروج وتؤول الأمور على الحال الذي آلت إليه بعد وفاة الإمام المهدي سنة 1351ه - 1835م. ففي شهور معدودات بلغ من نودي به إماماً وخُلعت عليه ألقاب الفخفخة واللاهوتيه والكهنوتية أربعة عشر إماماً وزيادة على ذلك، ومنهم: على بن المهدي انتصب إماماً أربع مرات وفي كل مرة له لقب خاص. ثم الناصر عبدالله ثم المتوكل الهادي والمهدي محمد بن المتوكل ثم المؤيد عباس، ثم ابن شمس الحور من ولد المتوكل اسماعيل، والقاسم ثم المنصور الويسي، ثم المنصور محمد الوزير، ثم المتوكل محمد بن يحيى مرتين، ثم ولده الهادي غالب بن محمد، ثم المتوكل محسن بن أحمد (شوع الليل)، ثم حسين الهادي"... إلخ(12). "حتى لقد عُدمت ألقاب الإمامة وصارت في منزلة يتندر بها أهل صنعاء في مجالسهم ومنتدياتهم في ذلك العهد"(13)..

وكثيراً ما كان يحدث أن يوجد أكثر من إمام ينتصب كل واحد منهم إماماً على منطقته. من ذلك ما حدث في عهد الهادي شرف الدين، ومحمد بن قاسم الحوثي الذي أعلن دعوته في جبل برط، يقول المؤرخ علي بن عبدالله الإرياني: "... إلا أن دعوة محمد بن قاسم الحوثي في جبل برط، كانت لها آثارها على عهد الهادي شرف الدين، أما الإمام المنصور بالله، فقد نجح في حصر إمامة الحوثي في منطقة برط، بل وفي مبايعته من قبل أفراد عائلته فقط"(14).

وسواء عند تطبيق مبدأ الخروج أو تجاوزه إلى الوراثة فإن المشروع الإمامي عادةً يعتبر محرقة للأسر الهاشمية الشيعية على يد بعضهم البعض، يساقون إليها كما تساق فراشات الليل إلى فتيل النار. وتؤكد إحصاءات التاريخ أن الاغتيالات التي تعرض إليها رموز الأسر الهاشمية كانت من إخوانهم وأبناء عمومتهم الهاشميين، وهي لا تقارن بأية حال مع ما حصدته الصراعات بين الهاشمية وغيرها.

الإمامة ومأزق الخروج

المبدأ النظري المتمثل في كون الإمامة ليست وراثية، وتجوز في حق كل حسني أو حسيني دعا لنفسه وخرج.. هذا المبدأ أورث محاذير وأعراضاً عدة انعكست على واقع الحكم وشكل الدولة.. فمن حيث واقع الحكم، يجُر تَخَوُّفُ الإمام من هذا المبدأ إلى تعطيل كل جوانب التنمية في نطاق حكمه فيتجنّب إقامة مؤسسات دولة خوفاً من الطمع والانقضاض عليه، ولا يكتفي عند هذا الحد بل يعمد إلى إبراز كل مظاهر التقشف، والعزف المتواصل على اسطوانة التبرم والتذمر والشكوى من ثقل الحمل وإفلاس الدولة وضيق ذات اليد.

ثم؛ وتحت هذا المدعى، يفرض المكوس والإتاوات الجائرة على الرعية ويكدسها، فلا يبين لها أثرٌ ولا تظهر عليه نعمة، فلا هو يجرؤ على الإنفاق ولا هو يكف عن الشكوى وفرض الإتاوات لأنه إن لم يفعل ذلك فسوف يظن المنافسون أن ثمة اكتفاء وأن "الشغلة مربحة" ومن ثم ينقضُّون... زد على ذلك خُلق الشحّ الذي لا يختلف اثنان على أنه من أبرز السمات التي ميّزت حكم تلك الأسر. فنجد الإمام يحيى يصّر على حرمان الفقراء والمحتاجين من الصدقات والعطاء، معللاً إياهم بقول الشاعر:

وهكذا تتكدس الخراجات والأموال وتعطب الحبوب في المدافن وتحدث المجاعات إلى أن يحين وقت ذهاب الدولة فيصبح الوضع حينذاك مطابقاً للمثل القائل: "رزق الحارمين للظالمين"(15).

وعطفاً على ما سبق تصبح خبرة الحاكم المحدودة هي النظام المالي والمحاسبي كله بكله ويصبح إماماً ووزيراً للمالية وأميناً للصندوق في نفس الوقت.. وقد كان الإمام يحيى يستند في احتكاره لجميع المناصب في الدولة إلى قول الطغرائي:

وإنما رجل الدنيا وواحدها من لا يعوّل في الدنيا على أحدِ

هذا التخوف الزائد من الانقضاض على العرش، مثلما أدى في البداية إلى تصفية الخصوم شركاء النجاح من هاشميين وغيرهم، فإنه يؤدي إلى إحاطة الإمام نفسه بأشخاص ضعاف مداهنين لا خبرة لديهم ولا دراية، الأمر الذي ينعكس على طموحه وقراراته، وعلى وضع الدولة وحال الشعب بشكل عام..

فبالنسبة إلى حجم الدولة فإن مخافة الخروج، (بل وتحققه في معظم الأحيان على أرض الواقع) تؤدي إلى تقزيم مساحتها، خصوصاً والجارودية تقول بجواز قيام إمامين في نفس الوقت، وعليه يغدو مبدأ الانقسام والانكفاء أمراً وارداً بل وسبيلاً آمناً إلى السلامة والبقاء، لأن كُبر الدولة يمثل تحدياً، وتهديداً للإمام، وعليه يصبح من الأسلم ضيق نطاقها قدر المستطاع.

هذا الأمر يقدم لنا التفسير الواضح على لامبالاة الأئمة تجاه الابتتارات المتلاحقة التي حدثت في جسد الدولة اليمنية وتهاونهم مع انفصال جنوب اليمن وشرقه ثم تصعيرهم الخد أمام كل مبادرات الوحدة المنطلقة من أعيان الجنوب أو الشرق(16).. وقد وصل الحد بالإمامة إلى خذلان حركات التحرر الوطني ضد المستعمر البريطاني في جنوب الوطن، بل والتحالف مع المستعمر لإحباطها..

المراجع
_____________________
(1) راجع: محمد إسعاف النشاشيبي "الإسلام الصحيح. (بيروت – دار العودة 1985 ، ص95-172
(2) محمد بن علي الأكوع، "حياة عالم وأمير"، ط1، (صنعاء: مكتبة الجيل الجديد، 1987م)، ص31، 32.
(3) حول هذه المسألة تجد بعض التفصيل في حلقات قادمة من هذا المبحث.
(4) عبدالكريم بن أحمد مطهر، مصدر سابق، ج1، ص49، 50.
(5) معلومٌ أن العثمانيين مسلمون أعلنوا دولة خلافة في ديارهم، ضموا إليها كافة الأقطار الإسلامية من بينها اليمن، إلا أن التعبئة تمّت ضدهم باعتبارهم "العجم العلوج"، ومن يومها ترسخ في الذهن اليمني مفهوم "الاحتلال، الغزو" العثماني وأن اليمن "مقبرة الغزاة".. علماً أن الحرب بين الإمام يحيى والعثمانيين التهمت، كما تقول مصادر التاريخ، ما يزيد عن مليون قتيل، ووحدها مقبرة "الهجرين" في صعدة كافية للتدليل على عظم الخسائر البشرية إذ تعد أكبر مقبرة في الجزيرة العربية.
(6) "ابن الأمير وعصره"، ص29.
(7) انظر: علي بن عبدالله الإرياني، "سيرة الإمام محمد بن يحيى حميدالدين، المسماة بالدّر المنثور في سيرة الإمام المنصور"، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد عيسى صالحية, ط1، (بيروت: دار البشير: 1996م).
(8) انظر: عبدالكريم أحمد مطهر، "سيرة الإمام يحيى بن محمد حميدالدين، المسماة كتيبة الحكمة من سيرة إمام الأمة"، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد عيسى صالحية، ط1 (بيروت: دار البشير 1997م).
(9) "ابن الأمير وعصره"، مصدر سابق، ص43.
(10) محمد أحمد نعمان، "الفكر والموقف"، الأعمال الكاملة، جمعها وأعاد نشرها: لطفي فؤاد أحمد نعمان، ط1 (صنعاء: دائرة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة اليمنية، 2001م)، ص258.
(11) انظر: "ابن الأمير وعصره"، و"حياة عالم وأمير".
(12) محمد بن علي الأكوع، مصدر سابق، ص70.
(13) ومن ذلك أن أهل صنعاء في مجالسهم كان ينهض بعض المتندرين يمثل الإمامة فيبحثون له عن لقب جديد، وحين لم يجدوا لقباً له يستخدم من قبل، يقوم أحدهم فيقول نلقبه: (النعوذ بالله )..
ومن ذلك أن أحد الأغنياء كان يبحث عن خادمة لتعمل في منزله فسأل بعض أصدقائه، فأجابه أحدهم في الحال: "أو نبصر لكم إمام". وانتقل موضوع الإمامة إلى البوادي والقرى، يتناوله الأهالي في أمسياتهم كمادة فكاهية مسرحية رائعة، فكل ليلة يعدّون زيّاً إمامياً ويختارون أحدهم ليرتدي ذلك الزيّ ويبايعونه بالإمامة وهو بدوره يصدر الأوامر مقلداً صوت وحركات وسكنات الإمام ويتقدم المظلومون إليه بشكاواهم وهو يتفضل بالرد... الخ"، انظر: المصدر نفسه.
(14) علي بن عبدالله الإرياني، مصدر سابق، ج1، ص25.
(15) ففي عام 1948 وُجد في بيت الإمام يحيى 60 حزاماً كبيراً ينعطف على الرجل مرتين من البز الأبيض في كل حزام ثلاث شرائح كل حبة من الذهب العثماني بجانب الأخرى.. انظر: محمد بن علي الأكوع، مصدر سابق، ص233.
(16) انظر: عبدالعزيز الثعالبي، "الرحالة اليمنية"، ومحمد بن علي الأكوع، "حياة عالم وأمير"، وعبدالباري طاهر "اليمن في عيون ناقدة".

_______________________
من كتاب "الزهر والحجر" التمرد الشيعي في اليمن

زر الذهاب إلى الأعلى