[esi views ttl="1"]
دراسات وبحوث

خصائص عامة لحكم الإمامة الزيدية في اليمن

عادل الأحمدي

تشابهت دولة تيار الإمامة الجارودية في جميع نسخاتها تشابهاً بلغ حدود التكرار سواء من حيث خطوات النشأة أو من حيث ملامح الإدارة والحكم، وعلى ذلك يمكننا استخلاص ملامح عامة للدولة الإمامية تدعمها الأحداث والحقائق على النحو التالي:

ليست ذات نزعة وطنية

لا تحافظ على وحدة الوطن شعبياً أو جغرافياً ولا تجنبه التقزم ولا تسعى لاستعادة المبتور منه ولا تبالي بتشطيره(1). فكلما تقلص حجم الوطن في نظر الأئمة كلما كان ذلك أدعى للاطمئنان ولربما كان التنازل السهل عن إقليم "عسير" للأدارسة ثم للسعوديين أمراً سهلاً لجعل "صعدة" (منطلق دعوة الإمامة) شيئاً طارفاً يمكن الانفصال به إذا ساءت الظروف.

وثمة خطأ شائع مؤداه أن كلاً من الإمامة والاستعمار عملا معاً على تشطير الوطن إلى يمن جنوبي وآخر شمالي، لكن الحقيقة أن البريطانيين لم يحتلوا عدن (1254ه- 1839م) إلا بعد تجزئة البلاد في عهد الإمام الحسين بن القاسم عام 1144ه.

والأكثر إيلاماً في المسألة ليس عدم سعي تيار الأئمة الحاكم إلى لملمة أشلاء البلاد، بل خذلانهم أية مبادرة للتوحيد تنطلق من الشطر الآخر لليمن كما حدث أيام سعي أبناء حضرموت إلى الوحدة بعد حدوث تشطير البلاد إلى شمال وجنوب في عهد الدولة المتوكليّة، وكذا محاولة التوحيد الأخرى التي أوفد فيها السياسي التونسي عبدالعزيز الثعالبي من قبل سلاطين الجنوب اليمني عقب قيام دولة الإمام يحيى، داعية إلى دولة يمنية واحدة بزعامة الإمام لكن الأخير تنصل وأطال معاناة اليمنيين.

ويسرد الثعالبي اندهاشه من كون الإمام، يحيى كان على علم بموعد الزحف السعودي على مناطق نجران وعسير كما أورد الثعالبي أسفه في أنه لم يجد دولة في الشمال بالمعنى الحقيقي بل كل ما وجده هنالك ليس سوى الإمام وعسكره(2).

تمزيق المجتمع:

أسوأ ما فعلته الإمامة في حياة اليمنيين أنها مزقت شملهم، وأوجدت بينهم العداوة والبغضاء والحقد والتنافر، لكي يظلوا حطباً لبقائها، منشغلين بأحقادهم عن معالي الأمور، وتائهين عن تحقيق الذات وتأهيلها للإسهام المرجو منهم في بناء البشرية.

يقول المفكر اليمني محمد أحمد نعمان: "لقد كان ضياع مفهوم الوطنية وعدم الاقتناع الواعي بأن اليمن جميعاً مجال الحياة لكل أبنائه، هو الدافع لإشراك السماء في صراعات الأرض وجعلها وكأنها هي المحرك لهذه النوازع"(3).

ويزيد نعمان: "لقد وجه الإمام يحيى قبائل الشمال التي حاربت تحت قيادته ضد الأتراك، وجه هذه القبائل نحو الجنوب وتهامة بدعوى المحافظة على الراية المحمدية في بلاد (كفار التأويل) و(إخوان النصارى) ليسلم هو نفسه من شر القبائل الشمالية (...) وللإنصاف؛ فإن الإمام يحيى لم يشأ بهذه الوسيلة أن يكرم الشماليين أو أنه تصرف هذا التصرف تحت دوافع الحب والحرص على مصالحهم، والرغبة في رد جميلهم لأنهم جاءوا به إلى العرش.. وإنما أراد أن يضرب جناحاً بجناح، وأن يصرف أنظار اليمنيين أنفسهم عما تعانيه مناطقهم من تخلف يستوجب بذل جهود كبيرة للخروج بها من حالة الجمود إلى حالة الإنتاج والتحرك.

ولم يقف به الأمر عند هذا الحد، بل إنه أثار بين قبائل الشمال نفسها المشاكل العديدة، سواء بين القبيلة وجارتها، أو بين أجنحة القبيلة ذاتها.. وطبيعي أنه لم يخلق أسباب الخلاف من العدم؛ فالمجتمع القبلي بطبيعته حافل ببعضها، ولم يحسم إشكالا على الإطلاق، وقد كانت المحاكم الشرعية أداة هامة من أدواته التي استخدم بها تعقيد المشاكل، حتى لتظل بعض القضايا ثلاثين عاما يستصفي خلالها القضاة أموال الفريقين ويضعف أصحاب القضايا خلال المنازعات ويفتقرون ويتشردون ولا تزال القضية معلقة"(4).

ليست ذات رؤية حضارية:

لا تسعى إلى القيام بدور حضاري يسهم في خدمة البشرية ورفاهها بل تتسم بطابع قروي أسري منطوٍ على نفسه متقوقع في إطاره يعمد إلى إسقاط الهوية الحضارية لعموم الشعب فداء لهوية مذهبية تؤصل حقها في العرش. ثم تعزل هذا الشعب عن التفاعل مع جواره أو محيطه الإقليمي والدولي مكرسةً لديه نظرة شائهة عن تفسخ الأقطار والشعوب في الخارج، ومرسخةً أن التفاعل مع الآخرين تهديد للدين والهوية وإباحة لخيرات البلد.. وفي ذلك يقول الشهيد الزبيري:

وقال لها: مصرُ أم الفجور
تسيل الخمورُ بأبوابها
وبغدادُ عاصمةُ الملحدين
ومكة نهبٌ لسُلابها
وما الأرض إلا لنا وحدنا
ولكنهم غالطونا بها

وهي حينما تضطر للتفاعل مع المحيط الدولي فإنها تقدم عليه بشكل متخلّف يعكس تخلّف الشعب الذي تحكمه ويكرس إزاءه نظرة الازدراء والدونية. الأمر الذي أثر سلباً على تصور الفرد لذاته أدى إلى وانسحاق شعوره بالكينونة ومقدرته على المجاراة والتميز. وهو ما حطم وجدانه وحطم اعتداده، ودمر نسيج العزة والصدق المفترض وجودهما في تعامله مع نفسه والآخرين. وتَدَعَّمَ هذا الشعور بأميّة حضارية في مدارك وعيه؛ إذ لا يعرف شيئاً عن حضارته القديمة ولا يرى أيّ ملمح من ملامح تجسدها ولا يستطيع الاهتداء إلى جوانب ضعفه وظروف تفوقه.

سعيُ الإمامة إلى سحق الذات اليمنية وردم تراثها الحضاري يأتي تحت لافتات عدة. منها، على سبيل المثال، ما ذكره حسين بدرالدين الحوثي الذي يسخر من الأعمدة الموجودة في مأرب ويرى أن قيام اليمنيين بمحاولة قراءة تاريخ حضاراتهم القديمة إنما هو مزلق إلى إثبات أحقية اليهود في ملك اليمن باعتبار أن جزءاً من التبابعة الحميريين كانوا يعتنقون اليهودية. ويستدل كذلك بقصة سليمان عليه السلام مع الملكة بلقيس.

أما فيما يتعلق بالدور الحضاري لليمن، نجد أن الزبيري لا يرى أية مكانة حضارية لليمن إلا في ظل ارتباطها العضوي بالعروبة، ومتى ما تخلّى اليمنيون عن دورهم العروبي يصابون بالضعف وتصاب العروبة بالهوان.. يقول الشهيد الزبيري:

كانوا، بأعصابِ العروبةِ ثورةً ... تُمْحَى الملوكُ بها وتُرْمى الهامُ

وهمُ الأُلى البانونَ عرشَ أميّةٍ ... نهضَ الوليد بهم، وعزَّ هِشامُ

كانوا زماماً للخِلافةِ، مُزّقَتْ ... أوصاله، فَتَمَزَّقَ الإسلامُ

قحطانُ، أصلُ العربِ، منذ تهاونوا ... بحياتها، عاشوا وهُمْ أيْتَامُ

لهُم الجبالُ الراسياتُ، وأنفسٌ ... مثلً الجبالِ الراسياتِ عِظَامُ

أتراهُمو صنعوا الذّرى، أم أنها ... صَنَعتهمُ، أم أنَّهُمْ أتْوامُ

ليست ذات منحى تنموي:

دولة قحطية؛ فلا هي ترعى وطناً وتبنيه، ولا هي تتركه في حال سبيله، ليجد جواً من الاستقرار يمكن أن تزدهر فيه تجارته أو يتطور فيه عمرانه. بل على العكس يجي الأئمة ليهدموا ما كان قائماً. إذ كان الأتراك العثمانيون قد أرسوا قواعد معينة في مجال الإدارة تلقاها عنهم بعض رجالات صنعاء، لكن الإمام يحيى استغنى عن ذلك كله وأتى ببعض الفقهاء من "شهارة" ليُسيِّروا أمور دولة.

وزاد أن ألغى دار المعلمين وحوّل دار الصنائع الذي بناه العثمانيون إلى سجن.. عقليات ضحلة يتفننون فقط في مزاحمة الناس "حتى على الحطب والبيض والبسباس". كما أن الدولة الإمامية لا تتمتع بموهبة اقتصادية تنمي معها اقتصاد الدولة ويعود ذلك بالنفع على حياة المواطنين، لكن الحاصل هو أن الأئمة في حال إفلاس الدولة قد يعمدون إلى اغتيال الأغنياء أو مصادرة أملاك الوزراء، وكذا نهب المساجد ومصادرة الوقف؛ وأحياناً يعيدون صك العملة بما يبطل العملة المتداولة بين الناس فيفقر الغني بين ليلة وضحاها(5).

على أن أفظع ما وصلت إليه العقلية الإمامية في هذا الجانب هو هذه الفتوى التي أصدرها الإمام المتوكل على الله بعد أن كان العثمانيون قد انسحبوا من اليمن بعد دخولهم للمرة الأولى ضمن امتداد الخلافة العثمانية، وبانسحابهم خلصت اليمن للأئمة القاسميين، "وامتد نفوذ الإمام المتوكل على الله اسماعيل بن القاسم إلى يافع وعدن ولحج وأبين وحضرموت، فوجه إليها جيوشاً طاغية لا ترحم ولا تبقي ولا تذر بقيادة ابني أخيه محمد وأحمد، وكانت هذه الجيوش تحتاج إلى إعداد وميزانيات ضخمة، فما كان من الإمام المتوكل على الله، إلا أن توكل على الله وأصدر حكماً شرعياً يحل المعضلة، يتلخص هذا الحكم في:

1 - تتحول، بموجبه، أرض اليمن من أرض عشرية تعطي الزكاة، إلى أرض "كفرية" تقدم الخراج.. بحجة أن اليمن انتزعت من الأتراك وأنهم كانوا يملكون هذه الأرض.. وبما أن الأتراك كفار (وهم في نظر بعض اليمنيين كذلك حتى اليوم، ولا تزال المناهج الدراسية في اليمن تكرس هذا المفهوم، وأن الوجود العثماني في اليمن كان عبارة عن غزو أجنبي، وأن المعارك التي كان يقودها الأئمة ضدهم هي جهاد في سبيل الله، ودفاع عن الوطن..) فما أخذ منهم غلبةً ينطبق عليه ما ينطبق على أرض "خيبر".

2 - أن الجيوش التي تغِير على أرض المسلمين الآمنين جيوش مجاهدة في سبيل الله.

3 - كل ما يفرضه الإمام على الناس عامة، أو على بعضهم، حقٌّ مستحق، ودينٌ لازم يقدم طوعاً أو يؤخذ كرهاً.

4 - أن يتحكم الإمام في أموال الناس، وما يملكون من أرض وتجارة وحيوان تحكم السيد في عبده أو "ضربة السيد على عبده" كما هو في نص الحكم الصادر.

5 - الجهاد لا يقتصر على جهاد الكفار والبغاة ولكنه يمتد إلى جهاد المنافقين، وهم في نظر الإمام الذين لا يمتثلون لأحكام الشرع إلا كرها وخوفاً من صولة الإمام بجنده أو ببعض جنده"(6).

"وقد ردّ عليه الجلال (وهو أحد علماء عصره) وأظهر بطلان ذلك الحكم، وكان مما ورد في رد الجلال: ( وهذا الحق الذي يدعيه المتوكل لم يقل به أحد من علماء الزيدية بل نُسب إلى الإمامية وهم الإثنا عشرية ).. وهم لا يجيزون هذا الحق إلا لإثني عشر إماماً، وليس المتوكل واحداً من هؤلاء الأئمة"(7)!!

ولا ننسى أن نشير هنا إلى أن الإمام المتوكل على الله –صاحب الفتوى– هو أيضاً صاحب مؤلفات أشهرها "إرشاد السامع في جواز أخذ مال الشوافع"(8)..

وقد اقتدى الأئمة من بعد المتوكل به، بل وأصبحت فتواه ومؤلفه هي سند الأئمة لكل أعمال السلب والنهب التي مارسوها والحقوق التي صنعوها، والجنايات التي ارتكبوها.. حتى علق على ذلك أحد الشعراء:

قالوا إمامهم إسماعيل عالمهمْ
أفتاهمُ بمقال فيه برهانُ
يقول إن جنود الترك كافرة
دانت لهم من جميع القطر بلدانُ
وبعدهم قد ملكناها بقوّتنا
صارت إلينا حلالاً بعد ما بانوا
وكل شخص من الزُّراع عاملنا
على الذي بيديه أينما كانوا
إبليس سوّل هذا والنفوس دعتْ
إليه رغبتها فيها لها شانُ(9)

ليست ذات بعد إنساني:

دموية تسعى إلى تصفية الخصوم بشتى وسائل الإبادة، غاشمة لا تقبل الالتماس، ولا تعفو عند المقدرة..

علاوةً على ذلك فإن أسلوب الإمامة في قمع معارضيها، لايقف عند حدود قمع واغتيال رموز المعارضة؛ بل يتعداه إلى استئصال شأفة هذه الرموز، وملاحقة أبنائها واحفادها وإهانتهم وإفقارهم، والحيلولة دون توفُّر مناخ يمكن معه أن يتفتَّح ذهن أو يتنوَّر عقل. الأمر الذي أوصل الشعب إلى الحالة التي يصفها الزبيري بقوله:

ماذا دهى قحطانَ؟ في لحظاتِهم ..... بُؤسٌ، وفي كلماتِهِم آلامُ؟
جهْلٌ، وأمراضُ وظلمٌ فادحُ .... ومخافةٌ، ومجاعةٌ، وإمامُ؟
والناسُ، بينَ مُكَبَّلٍ في رِجلِهِ .... قيد، وفي فمِهِ البليغِ لِجَامُ
أو خائفٍ، لم يَدْرِ ما يَنْتابُهُ ... منهم، أسِجنُ الدهرِ، أم إعدامُ؟
والاجتماعُ، جريمةٌ أزليةٌ .... والعِلمُ إثْمٌ، والكلامُ حرامُ
والمرءُ يهربُ من أبيهِ وأمِّه .... وكأنَّ وصلَهما لهُ إجرامُ
والجيش، يحتلّ البلادَ، وما له ... في غيرِ أكواخ الضعيفِ مُقامُ
يسطو ويَنْهَبُ ما يشاء، كأنَّما .... هو للخليفَةِ، مِعْولٌ هَدَّامُ
والشّعبُ، في ظلِّ السيوفِ ممزَّقُ ال ... أوصال، مضطهدُ الجنابِ يُضامُ
وعَلَيْهِ، إِمّا أنْ يُغادرَ أرضَهُ .... هرباً، وإلاّ فالحياةُ حِمامُ

ويصف الأئمة بقوله:

نثروا بأنحاءِ البلادِ ودمّروا... عُمْرانَها، فكأنَّهُم ألغامُ
أكلوا لُبابَ الأرضِ، واختصوا بها ... وَذَوُو الخصاصةِ واقفون صيامُ
وكأنّهم هُمْ أوجدوا الدنيا وفي .... أيديهمُ تتحرَّكُ الأجرامُ
هبْ أنهم خلقوا العباد، فهل لمن .... خلقوهُ عطفٌ عندهم وذِمامُ
ما كان ضرَّهمُ وهم من هاشمٍ ..... لو أنهم مثل الجدودِ كِرامُ
لكنها الأخلاقُ أرزاقٌ بها.... يجري القضاءُ وتُقْدَرُ الأقسامُ

وتتأتى مثل هذه الدموية بسبب انعدام الشعور بالشرعية أولاً، وانعدام الشعور الوطني ثانياً، وهشاشة البناء النفسي للدولة والحاكم، وكذا السجل الأسود والخوف من الانتقام والثأر؛ ومن ثم تفضي هذه الدموية إلى دموية أسوأ منها.

لاهوتية الخطاب:

حيث الحاكم بأمر الله، ظلُّ الله في الأرض، ومستودع علمه وعصمته وإلهامه وتأييده. بيده الإنس والجن وإليه الأمور... يهاتفه المولى في خلواه، ويجيئُه النبي، صلى الله عليه وسلم، في منامه، وتخبره الجن بخطط العصاة.

"عندما تمطر السماء يقال للشعب هذه بركات الإمام، وعندما تمحل يقال للشعب هذه دعوة من الإمام ضد العصاة المتمردين... الزكاة لا تعطى إلا للإمام وبعض الصلوات لا تؤدّى إلا بوجود الإمام ثم يجيء الرخاء فيكون بفضل الإمام"(10).

تبلغ حدة هذا الخطاب اللاهوتي إلى تصوير من يحاول الانقلاب على الحكم وكأنه ينقلب على الدين.. "فحينما خرج علي بن عبدالله بن علي المؤيدي على القاسم ودعا لنفسه بالإمامة وهو من آل البيت، رد عليه القاسم بقوله:

إن كنتَ تبغي هدم دين محمدٍ
فأنا المريد أقيمه بدعائمِ
أو كنت تخبط في غيابة باطلٍ
فأنا المزيل ظلامها بعزائمِ
لولا اشتغالي بالحروب وأهلها
لوجدتَ نفسك لقمةً للّاقمِ"(11)

ليست ذات طابع مبدئي:

بدأت بالزيدية ثم الجارودية والآن الجعفرية الإثني عشرية، والتي تفضي إلى مبايعة المهدي المنتظر على "كتاب داود" كما سنرى لاحقاً.. والإشكال هنا لا يكمن في التبدل إذ "الثابت الوحيد في السياسة –كما يقال- هو مبدأ التغيُّر" لكن الإشكال في أن التغيُّر لدى الإمامة يحدث تحت نفس الشعار الأول؛ حيث تستبدل الإمامة كل الألبسة التالية على أنها هي الزيدية!!

والدولة الإمامية تبعاً لذلك ليست ذات طابع قيمي بحيث تحكمها مواثيق واضحة سواءٌ في التعامل مع الخصوم أو أثناء التعامل مع المؤيدين والأنصار. فالثابت الأبرز في سياسة الأئمة هو النكث؛ إذ حتى مؤيّدوها لا يلحقهم تطور في معيشتهم ولا تحسُّنٌ في أحوالهم مُحيلةً إياهم إلى مجموعة أوغاد سيئي الحظ؛ لا أنهم كانوا ضمن المناضلين والثوار، ولا أنهم سَلِموا ألفاظ التهكم واتهامهم بالطمع و"الموغادة" واستغلال طيبة الإمام! وفي ذلك يقول الزبيري:

نُسدي له أموالَنا ونفوسنا .... ويَرى بأنّا خائنونَ لئامُ
نبْني له عرشاً يَسودُ فيبتَني .... سِجْناً، نُهانُ بظلِّهِ ونُضامُ
تحنو الرؤوس له خشوعاً ظُلَّعاً ... وتَنوءُ من أصفادِهِ الأقدامُ
كَمْ سبّحَتْهُ أَلْسنٌ، فَتَجرَّعَتْ ... منهُ، مذاقَ الموتِ وهو زُؤامُ
كَم من أبٍ وَاسى الإمامَ بروحِهِ .... ماتَتْ جِياعاً بعدَه الأيتامُ
يمتصّ ثَرْوةَ شَعبِهِ ويُميتُه ..... جوعاً، ليَسْمَن آلُهُ الأعلامُ

لا يُكتب لها الاستقرار:

وذلك بسبب التنازع على السلطة بين الأسرة الحاكمة من جهة، وبينها وبين بقية الأسر الهاشمية من جهة ثانية، وبينها والشعب المحروم من تقرير مصيره والمسوم بكافة أنواع التفرقة والمحارشة والدونية وألوان المعاناة في الجانب المعيشي من جهة ثالثة(12).

المراجع
__________

(1) - 910ه الإمام شرف الدين يدعم الحملة العسكرية إعلامياً للجراكسة لإزالة حكم آل عامر ذلك لإنه ظل متحصناً في حجة ومرغماً من آل عامر على الاستكانة.. بعد أن أخرجوه من صنعاء سنة 910 ه.
- 1144ه تشطير اليمن إلى شمال وجنوب وذلك في عهد الإمام المنصور الحسين بن القاسم "وبسبب الصراع بينه وأخيه حاكم تعز ومخاليفها الذي أعلن استقلاله عن صنعاء، انفصلت عدن ومخاليفها: لحج ويافع وأبين وأحور ودثينة وحضرموت وبيحان" وهو الجزء الذي مثل الجنوب اليمني، ص49.
- 1189-1224ه اكتساح تهامة على يد الشريف حمود في عهد الامام المنصور.
- 1246ه وبعد أن حاول المنصور استرجاع تهامة من الوهابيين ففشل. استنجد المتوكل بالخلافة العثمانية لاسترجاع (تهامة) بالرسائل والهدايا وغاية ما استجابت الدولة العثمانية هو أن أوعزت إلى واليها في مصر بإرسال حملات إلى نجد والحجاز لتخفيف الضغط على تهامة وكسر شوكة الوهابية ومنها شوكة الشريف حمود. ولم تتم هذه المناورة إلا بعد موت الشريف حمود واحتلال الأتراك لتهامة في عهد السلطان عبد المجيد خان، وأعادوها للإمام المهدي عبدالله 1246 ه ومات المتوكل 1231ه - 1816م.
- 1254ه - 1839م سقوط عدن في يد الإحتلال البريطاني وذلك في عهد الامام الناصر.
(2) عبدالعزيز الثعالبي، مرجع سابق.
(3) محمد أحمد نعمان، مصدر سابق، ص333.
(4) يسلط الأئمة هذه القبيلة على تلك، ويعلون من شأن منطقة، ويغمطون أخرى، وإذا حدث وأن نَبَضَ عرقٌ يمني ضد هذا الظلم سرعان ما يبادر الإمام في معاقبته بتسليط إخوته عليه كما حدث في العام 1948 حيث أباح الإمام المناطق التي أسماها "المفسدات" وهي (العدين وحبيش) لقبائل من "آنس" و"الحدا":
"ألا ياهل الحدا يا أهل آنس عشاكم في البلاد المفسدات"
حدثَ على إثر ذلك أسوأ عملية نهب وإتلاف وتدمير، وبعد أن أنهت القبائل مهمتها تبرأ منها الإمام وأمر بإلحاق المنهوبات إلى بيت المال:
"ياهل الحدا خيرة الله عليكم حق بيت المال كلاً يرده"
بالإضافة إلى ذلك فإن غياب القضاء العادل، وعرقلة قضايا الناس اضطرهم إلى وضع قوانين خاصة بهم والاحتكام إلى مشائخهم للفصل في قضاياهم وفق تلك القوانين التي أطلق عليها "حكم الطاغوت"، انظر: عبدالكريم بن أحمد مطهر، مصدر سابق، ج1، ص265.
(5) محمد أحمد نعمان، مصدر سابق، ص336، بتصرف يسير.

(6) "وكانت هذه تجارة الأئمة يغيَّرون في كل عامٍ مرة أو مرتين وزن العملة وشكلها والشعارات المضروبة عليها، وتلغى العملة القديمة وتفقد قيمتها في الأسواق (...) وكان اليهود هم الذين يتولّون هذه الصناعة", "ابن الأمير وعصره"، مصدر سابق، ص300، 301.
(7) المصدر نفسه، ص56، بتصرف يسير.
(8) المصدر نفسه، ص 58.
(9) محمد بن علي الأكوع، مصدر سابق، ص46.
(10) "ابن الأمير وعصره"، مصدر سابق، ص62.
(11) انظر: المصدر نفسه، وفيه أيضاً: "روى الجرموزي عن القاسم أنه كان يتردد على سوق بيت عذاقة من بلاد مسور حجة في باكورة شبابه، وكان المسيخ الدجال يتردد أيضاً على هذه السوق، ولكن بصفة خفية ليضلل الناس، ويفسد عليهم دينهم فاكتشفه القاسم إذ كان لا يراه أحد من الناس غير القاسم، فتتبّع المسيخ حتى أخرجه واضطره إلى الفرار، ولم يعد إلى ذلك السوق بعد ذلك!!"، ص 27.
"والقاسم نّهازة للفُرص يحسن الاستفادة منها في براعةٍ وحذق، وقد استباح لنفسه أن يغتال منافسيه، ويتخلص منهم بشتى الوسائل فماذا عليه أن استعمل سلاح الخيال والادعاء، وهو سلاح هيّن ما أيسره، قوي ما أقطعه!!".
أتيحت له الفرصة أن يتصل بأحد أئمة عصره ليكون من أعوانه وهو الحسن بن علي بن داوود، وشاءت الصدف أن يقبض الأتراك على الحسن ويسوقوه إلى الاستانة ليموت هناك.. وكان موته هذا قد اكسبه قدسية في نفوس الشعب وأكسب القاسم حرية في أن يروي عن الحسن ما شاء له خيالة التاريخ وشاءت له أطماعه الواسعة.. ومما ادعاه أن الحسن عرف عن طريق الملاحم أو الجفر "وهو التنجيم الذي يزعم الرسيّون أنه علم توارثوه عن جعفر الصادق رضي الله عنه" عرف أن القاسم ستؤول إليه الإمامة فأخبره بذلك وأوصاه بعدة وصايا.. وكان مما أوصاه الإمام الحسن أن بيوتات في اليمن الغالب عليهم الميل إلى الدنيا: وحدد بيوتاً كانت حجراً عثرة أمام طريقة... ص28، 29.
يقول القاسم ملخصاً الدين:
ياذا المريد لنفسه تثبيتا ولدينه عند الإله ثبوتا
اسلك طريقة آل أحمد واسألنْ سفن النجا إن يسألوا ياقوتا
لا تعدلنّ بآل أحمد غيرهم وهل الحصاة تشاكل الياقوتا
وقد عارضه نشوان الحميري فقال:
آل النبي همو أتباع ملّته من الاعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن ْ آلهُ إلا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهبِ
.. ومما روى أن أحدهم خاف أن يتطرق إلى ذهن بعض العامة ما يشككهم في السادة وما يقدمه السادة من علم، ذهب إلى الحج وعندما رجع قصّ عليهم هذه القصة، فقال: سمعت أهل المذاهب المختلفة يبكون ويتضرعون إلى الله.. فسألتُ الله عز وجل أن يريني الحق، فإذا بهاتف أسمع صوته ولا أرى سخصه في جوف الليل وهو يقول: لا يغرك بكاؤهم وإن بكوا فالحق مع القاضي الحسن بن محمد النحري وعصبته. (ص47 والرواية عن بغية المريد) والقاضي الحسن هذا هو أحد دعاة المذهب الهادوي.

(12) محمد محمود الزبيري، "الإمامة وخطرها على وحدة اليمن".

_______________________
من كتاب "الزهر والحجر" التمرد الشيعي في اليمن

زر الذهاب إلى الأعلى