(ما أحلى النوم لو استطاع الإنسان أن يختار أحلامه) مثل
من اهم الحكم التي بلورتها الانسانية عبر تاريخها الطويل الحكمة التالية : لو اتعظ الانسان من التجربة ألمأساوية لمن سبقوه لتجنب التهلكة التي تجره إلى اخطر واخر كوارث حياته.
وفي هذه الدراسة نحاول مساعدة من ذهب بعقله مطمح قاتل ومدمر وهو افتراض انه، ومن قد تجره معه أحلام الذات الامارة بالمغامرة، قادر على السطو على القوات المسلحة العراقية الشرعية، والتي قادتها قيادة عامة شرعية لمدة تزيد على ثلاثة عقود من الزمن قبل الاحتلال وواصلت قيادتها بعده، بتشجيع مباشر أو غير مباشر من جهات عربية واجنبية هي نفسها، لو دقق الحالم، كانت احد الاسباب الرئيسية لكارثة العراق، وهي لذلك لا تريد للعراق خيرا مهما تلونت وادعت وقدمت إغراءات مادية أو سياسية، مستغلا في هذه اللعبة بيئة اضطهاد القوات المسلحة وتصفية قادتها وضباطها وممثليها الشرعيين من قبل الاحتلال واطراف اخرى غيره، لذلك يريد عبد احلامه السطو على اسم القوات المسلحة واستخدامه في محاولة شقها وتوريط بعض ضباطها في فخ مميت.
وربما لو تذكر هؤلاء بان ما جر المرحوم عبدالكريم قاسم إلى التهلكة في عام 1963 كان اختياره حلما قاتلا في عامي 1958 و1959، لأدرك هؤلاء إن ذلك الحلم القاتل ذاته سيجرهم حتما إلى نفس مصير قاسم وربما اسوأ، لان قاسم كان قائدا كبيرا واحد اهم مهندسي ثورة 14 تموز عام 1958، اما من استهوتهم لعبة السطو على اسم القوات المسلحة، سواء كانوا ضباطا أو مدنيين يريدون استخدام ضباط للوصول إلى السلطة، فانهم عاديون جدا وبلا مميزات قيادية خاصة ولا قدرات مهنية أو سياسية تؤهلهم لممارسة هذه اللعبة القاتلة، لذلك، ونتيجة لسذاجتهم، يقعون في وهم انهم ربما سيفلتون من فخ الوقوع في شر اعمالهم.
نحن نعرف، كما يعرف كثيرون غيرنا، بان استهداف القوات المسلحة العراقية كان احد اهم اهداف أمريكا والكيان الصهيوني ونظام الملالي في طهران، خصوصا منذ خرج العراق منتصرا، وبحسم رائع، على إيران في الحرب التي فرضتها عليه ممتلكا قوات مسلحة تتميز باهم صفتين لابد منهما لجعل القوات المسلحة اداة بناء واستقرار وطني وخدمة الاهداف القومية، وهما انها اصبحت بحق قوة ردع فعال لاعداء الامة كالصهاينة والاستعماريين الغربيين وملالي طهران من جهة، ومن جهة ثانية انها اصبحت قوة هائلة ولكن منضبطة وملتزمة باوامر القيادة السياسية وهي ظاهرة تبرز لاول مرة في الوطن العربي ووضعت حدا لحكم العسكر الديكتاتوري ولاستخدام القوات المسلحة في الصراعات السياسية من اجل السلطة وليس لخدمة الشعب والامة، وهكذا تمتع العراق بحالة استقرار طويل دام 35 عاما، بعد عقود من الاضطراب الذي ضيع فرص التنمية والتقدم، مكنه من تحقيق تقدم علمي تكنولوجي واجتماعي شامل.
من هنا كان اول قرار للاحتلال هو حل القوات المسلحة معتقدا انه بذلك القرار سينهيها إلى الابد، لكنه فوجئ وصدم حينما ادرك إن القوات المسلحة العراقية كانت الحاضنة الاساسية التي اطلقت المقاومة العراقية بكافة فصائلها المعروفة والمهمة، لذلك تحول الهدف من التدمير المباشر للقوات المسلحة الشرعية إلى احتواءها (باختراقها) ومحاولة الاستفادة منها في اكمال مخطط شرذمة العراق ولكن هذه المرة عن طريق اعادة العراق إلى مرحلة غياب مركز قوي جدا عسكري ومدني يستطيع ضمان وحدة واستقرار العراق والاحباط التلقائي والمسبق لاي محاولة قلب التوازن العراقي المستقر والمبدع، باعادة انتاج حالة وجود تيارات وكتل واحزاب في القوات المسلحة تمزقها وتحولها إلى اداة سياسية ليس في الدفاع عن الوطن ووحدته بل في خدمة المطامع السياسية لافراد أو كتل أو تجمعات.
وهكذا بدأت لعبة اثارة وتشجيع مطامح غير مشروعة لدى ضباط أو مدنيين، منهم رجال دين يتوهمون بانهم مؤهلون لحكم العراق، من اجل توريطهم في مخطط شرذمة القوات المسلحة عبر دعم خطة تعدد قياداتها وعدم الاعتراف بالقيادة العامة للقوات المسلحة الشرعية التي قادت الجيش لمدة 35 عاما. وهنا ننصح بصدق واخلاص من وقع في هذا الفخ القاتل إن يقرأ هذه الدراسة بهدوء وان يتجرد وهو يقرأ من لعنة الانا (حب الذات) وعبودية المطامح غي المشروعة وغير الواقعية وان يستخلص الدروس من تجارب ضباط اقدر منه واكفأ بكثير جدا، وقعوا فريسة حلم قاتل وهو الانفراد بالسلطة. هذه نصيحة لابد منها لاننا سنواجه في يوم ما حالة مؤلمة وهي محاسبة من اقدم على محاولة شق القوات المسلحة وعندها سنذكره بنصائحنا هذه.
لعبة شرذمة القوات المسلحة
هناك من يروج لفكرة خطيرة تبدو، في ظاهرها، مقبولة وهي ان القوات المسلحة العراقية يجب ان تكون بعيدة عن السياسة والانتماءات الايديولوجية، وان يعاد تشكيلها بعد التحرير لتكون مهنية صرفة، أو ان تكون مهنية ولكنها تتبنى (ايديولوجيا اسلامية) صرفة، وهذه الدعوة الاخيرة (أسلمة القوات المسلحة) لئيمة وخبيثة جدا لانها تظهر كأن الجيش العراقي تحت ظل البعث كان بعيدا عن الاسلام ! ان هذا الطرح ليس مشبوها فقط بل هو احد اهم اركان الخطط المتلاقية أو المشتركة الأمريكية – الصهيونية – الإيرانية القائمة على تدمير وتقسيم العراق، قبل وبعد الغزو، حيث كان القضاء على القوات المسلحة العراقية بصفتها قوة حاسمة في المنطقة كلها هدفا اساسيا للغزو، لان قوة الجيش تعني حماية وحدة العراق وحدوده من الغزو والتجاوزات الخارجية وهي كثيرة ودورية، كما انه شكل (جبل النار) الذي منع بلاد فارس من الوصول إلى الاقطار العربية بالاتجاه غربا. والقضاء على دور الجيش العراقي كرادع للمطامع الخارجية وضامن للاستقرار الداخلي يبدأ بشرذمته، بتسلل عناصر تأتمر باوامر كتل وافراد واحزاب، فيصبح وكرا لكل الاتجاهات، أو احتواءه أو تقزيمه عن طريق ادخال الطائفية اليه باسم (اسلمته)، اوتحويله إلى قوات شرطة وليس إلى جيش وطني وقومي عظيم بحجة جعله مهنيا !
لقد اثبتت تجارب العراق التاريخية والحديثة، وبالاخص تجربة الحرب التي فرضتها إيران على العراق، ان عراقا بلا جيش عقائدي قوي جدا ومنضبط جدا يصبح منطقة اختراق سهل، بل والاخطر انه يصبح مغناطيسا قويا يجذب كل الطامعين في ارضه وثرواته، أو الطامحين في الثأر منه واخضاعه، وتجربة غزو العراق لم تؤكد هذه الحقيقة فقط بل انها اثبتت إن الحتمية الاساسية لوجود عراق مستقل ومتحرر ومتقدم في كافة المجالات وعربي الهوية هي وجود جيش عقائدي قوي وخاضع لقيادة منتخبة مدنية، وهذا ما أدركه الاحتلال لذلك جعل تدمير الجيش الشرعي الهدف الحاسم له بعد اجتثاث البعث.
دعونا نناقش الامر بوضوح ومباشرة من اجل كشف الابعاد الحقيقية للمسألة خصوصا تناول كيف كان الجيش قبل عام 1968 وكيف اصبح بعده من حيث قدراته ودوره عراقيا واقليميا.
الاصل والجذور
لم تكن صدفة ولا خطأ فردي، كما قيل فيما بعد، انهبعد حل الجيش العراقي من قبل بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق، وظهور الحاجة لتشكيل جيش جديد، كان اول ما طرحه الاحتلال هو تشكيل جيش مهني بلا ميول سياسية على اساس انه يمثل الدولة وليس فئة معينة. بعد ذلك، ونتيجة وجود ميليشيات حولت إلى جيش وشرطة لكنها بقيت تابعة لاصلها الطائفي والعرقي والسياسي، فان الدعوة لجعل الجيش مهنيا تعززت وبدت وكأنها ضرورة. لكن ما غاب عن البال هو ان ما سمي بالجيش الجديد كان مطلوبا منه خدمة الاحتلال وتدعيم العملية السياسية ومحاربة المقاومة العراقية وليس بناء جيش وطني يحمي الوطن ويدافع عن سيادته واستقلاله وهويته القومية والوطنية.
ومن المؤشرات الحساسة والخطيرة التي تقدم افكارا عن الجهات التي تقف وراء الدعوة لتشكيل جيش مهني وجود جهات بعيدة عن الاحتلال، بل ومناهضة له، تلتقي مباشرة مع هذا التوجه الأمريكي – الصهيوني – الإيراني، ففي عام 2005 حاولت مجموعة معينة في (مؤتمر بيروت) تبني مفهوم الجيش المهني وظهر في وثائق ذلك المؤتمر، كجزء من مشروع طرح لاعادة بناء الدولة العراقية ! وهكذا تبين ان فكرة بناء جيش مهني لم تعد تقتصر على بول بريمر ومن دخل في العملية السياسية في بغداد، وان كان ذلك (البعض) في مؤتمر بيروت ليس بعيدا عن الاحتلال وما سمي بالمعارضة العراقية التي دربتها المخابرات الأمريكية والبريطانية، بل لقد برزت مؤشرات وتوفرت معلومات ان وزير الخارجية البريطانية وقتها جاك سترو كان وراء دعم هذه الدعوة من خلال عملاء يريطانيين كانوا اعضاء في ذلك المؤتمر.
وازداد الامر وضوحا في عام 2006 و2007 حينما حاول ضابط من اعضاء القيادة العامة للقوات المسلحة الوطنية الشرعية، التي اعادت تنظيم نفسها قبل ذلك واكملت متطلبات وجود جيش نظامي وطني جاهز للعمل بعد التحرير، طرح فكرة تحويل القوات المسلحة العراقية إلى قوات مهنية، فطرد من القوات المسلحة لان هذا الراي ينطوي على محاولة لاعادة النظر بطبيعة القوات المسلحة التي تربت عليها خلال 35 عاما.
ولم تتوقف محاولات التدخل في شأن القوات المسلحة والعمل على اختراقها عند هذا الحد، فقد ظهر خط اخر يدعو للدهشة، حيث ان جماعة دينية صغيرة (مناهضة) للاحتلال سمحت للضابط المطرود من القوات المسلحة بالقاء كلمة في المؤتمر الذي عقدته في دمشق في صيف عام 2008 لمناسبة ذكرى تأسيسها، وتحدث باسم القوات المسلحة ! ولئن كان امرا متوقعا وطبيعيا دعوة الاحتلال وعناصر مدنية من الساسة لفكرة الجيش المهني فان غير المفهوم ولا المقبول تورط هذه الجماعة الدينية في الدعوة للتمرد على القوات المسلحة وقيادتها المركزية والشرعية، مع انها لا تربطها بالقوات المسلحة اي صلة ! لقد كان هذا الموقف مثار استغراب وتساؤلات عميقة حول الهدف الذي تريد الوصول اليه من وراء الاتصال بضباط وتحريضهم على التمرد على القيادة العامة وعلى البعث وتجربته في الحكم، بل وتزكية ضابطين مطرودين من القوات المسلحة لدى انظمة عربية لاجل دعمهما بدلا من دعم القوات المسلحة الحقيقية، والاسوأ هو اقدام هذه الجماعة الدينية على تحريض كوادر مدنية بعثية على قيادتها وحزبها مستغلة الصلة الطبية التي تربطها بالبعث، وهذا امر موثق لدينا، وهو ما اثار رد فعل قوي لدينا لان القوات المسلحة خط احمر محرم، واذا اضطررنا فسوف نكشف عنه بالاسماء والتفاصيل ! لقد قدح زناد الشك شرارته حول هذه الجماعة واوصلنا البحث إلى حقائق مؤلمة.
وهنا برز تحول واضح فبدلا من انفراد بريمر ومن على شاكلته من اتباع أمريكا وبريطانيا بالدعوة لتصفية القوات المسلحة العراقية وشرذمتها، رأينا ساسة يرفعون شعارات (مناهضة) للاحتلال حضروا (مؤتمر بيروت) يطرحون مشروع بناء الدولة العراقية ومنها أنشاء قوات مسلحة مهنية، وهو مطلب تكمن خطورته في انه يريد تحديدا الغاء الطبيعة العقائدية للقوات المسلحة وذلك يقود تلقائيا إلى رفض حوالي مليون عسكري انخرطوا في الجيش الوطني وتربوا على اساس عقائدي مما يجعل هذه الدعوة هي الوجه الاخر المخفي لحل الجيش الوطني ! أما الدعوة لبناء دولة جديدة فهي الاخرى ليست سوى الوجه الاخر لتدمير الدولة الوطنية ومحاولة بناء دولة بديلة مختلفة كليا ومنسجمة في الجوهر مع دعوة بريمر لجعل الدولة ذات طبيعة ليبرالية لان الليبرالية قادرة على تفتيت القوة العراقية المركزية، ومن ذلك مثلا تمويل ودعم بريمر إنشاء اكثر من 300 حزب اطلقت عليها تسمية موحية في دستور الاحتلال وهي (كيانات) بدل احزاب في مسعى واضح جدا لشرذمة العراق وفقا لكيانات سياسية وكأن الكيانات العرقية والطائفية لم تكفي !! يضاف إلى ذلك إن هذه الدعوة تصور العراق وكأن دولته الوطنية انتهت بتدمير مؤسساتها المادية ولم يبق شيئا سوى لملمة بقايا واعادة ترتيبها ! تلك الدعوة المضللة تصور العراق وكأنه لم يكن دولة لها تقاليد وانجازات عظيمة وان عناصر الدولة الوطنية التي دمرت مؤسساتها مازال لديها اهم شروط قيام الدولة الحديثة وهو العنصر البشري الموجود والجاهز مثل التكنوقراط والخبراء ورجال الدولة المجربين وقوى الامن الداخلي والقوات المسلحة...الخ.
ورأينا رجال دين يحرضون الضباط على قيادتهم الشرعية تحت غطاء (اخطاء تجربة البعث في الحكم وفشله) وكأن مهمتهم الاساسية الان هي المساهمة في اجتثاث البعث وليس مناهضة الاحتلال، من جهة، ويروجون لفكرة تخريبية خطيرة وهي ضرورة (اسلمة) الجيش من جهة ثانية ! وكما في حالة الجيش المهني فان (اسلمة) الجيش تقود إلى نفس ما اراده بريمر وهو تصفية القوات المسلحة لان وجود جيش عقائدي عريق لا يسمح بالاعتماد عليه في مشروع (اسلمة) الجيش حتى لو تحول بعض افراد الجيش من عقيدة العروبة إلى معتقد اسلاموي لا صلة بالاسلام، لان الكتلة الاساسية والفاعلة في القوات المسلحة عقائدية وغير قابلة للردة، الامر الذي يؤدي عمليا، وبغض النظر عن النوايا، إلى الموافقة على قرار بريمر بتسريح حوالي مليون عسكري والبدء ببناء قوات مسلحة جديدة وهي مهمة ماراثونية تتطلب عقودا من الزمن وليس بضعة سنوات، وتلك هي احدى تكتيكات الاحتلال المسماة (سرقة الزمن) اي اشغال العراقيين بواجبات لا تنتهي في زمن محدد وانتهاءها غير مضمون ابدا !
لقد اصبحت الصورة كالاتي : ضبع ينشب انيابه في الذراع اليمنى للقوات المسلحة باسم المهنية ويحاول جرها اليه لافتراسها، ومقابله ضبع اخر منافس له يعض اليد الاخرى ويريد جر القوات المسلحة إلى ما يسمى (الاسلمة)، الامر الذي جعل القوات المسلحة تتنبه لوجود من يريد تمزيق جسدها الاساسي واشغالها عن معركتها الحقيقية مع الاحتلال !
أذن فكرة الجيش المهني بالاصل من طروحات الاحتلال وضرورات تكريسه ببناء قوات مسلحة بديلة لا هوية وطنية أو ايديولوجية لها، ثم وبعد ان عزل الاحتلال وهزم مشروعه شرعت عناصر وقفت ضد الاحتلال بتبني نفس المشروع دون اي تغيير سوى ربطه باسماء مناهضة للاحتلال، مع وجود طرح استخدم كغطاء لتمرير فكرة الجيش المهني وهي ضرورة استبدال عقيدة القوات المسلحة العراقية الوطنية والقومية بالاسلام ! والسؤالان الرئيسيان هنا هما : هل يغير من تبنى فكرة الجيش المهني، أو اسلمة الجيش، الطبيعة التي قامت عليها اصلا دعوة بريمر؟ ولم هذا الاصرار على محاولة تمزيق القوات المسلحة في ظرف الاحتلال مع انها المصدر الرئيسي والحاضنة الاساسية لقوة المقاومة العراقية والامل الرئيسي في تحرير العراق وضمان امنه واستقراره بعد التحرير؟
حتميات الخصوصية العراقية
من المستحيل فهم المخاطر المميتة لأطروحة الجيش المهني ولاطروحة اسلمة الجيش وتحديد هل هما خطأ أو صواب من دون التذكير بالحتميات التي تفرضها الخصوصية العراقية، كما تبدت في دروس تجربة نصف قرن مضى كان حافلا بالمآسي التي نجمت عن تجاهل أو جهل الخصوصية العراقية. أذن علينا التعامل بجدية تامة مع السؤال التالي : ما هي اهم مظاهر تلك الخصوصية التي لا تسمح بقيام جيش مهني أو أغتيال الجيش بتربية اسلاموية طائفية في العراق؟
1 – الحقيقة الاولى التي يجب عدم اغفالها أبدا هي حقيقة جيوبولوتيكية : ان جغرافية العراق تحدد دوره وتركيبه العام، خصوصا العسكري، وتقرر المؤثرات التي تضغط لتحديد اتجاه تطوره. هذه حقيقة لابد من اخذها بنظر الاعتبار الان وليس غدا بعد ان اثبت غزو العراق انها حقيقة اكثر من خطرة لان وجود العراق وهويته يتعلقان بها، فالعراق يتسم جغرافيا بانه قطر تخوم وليس قطر قلب يقع في الداخل العربي المعزول عن التعامل مع بلدان اجنبية معادية أو طامعة بارضه وثرواته وموقعه الجيوبولتيكي ومعادية لهويته القومية والوطنية. انه يحتك، ويتفاعل ويتناقض ويتعارك، ببلدين غير عربيين كبيرين ونشطين في نزعتهما الامبراطورية هما إيران، التي تحكم علاقتها بالعراق نوازع امبراطورية فارسية توسعية معروفة وخاضت مع العراق بسببها حروبا عديدة عبر التاريخ، كانت آخرها الحرب التي فرضها نظام خميني على العراق ودامت ثمانية اعوام، وتركيا التي حكمت العراق 500 عاما وتداخلت (حدود الحقوق) بينهما من الاسكندرون العربية المحتلة من قبل تركيا إلى قضية كركوك والموصل، التي تطالب بهما قوى تركية ليست بالقليلة كلما تعرض العراق لضعف أو حصار أو ازمة خطيرة.
تلك هي احدى اهم مصادر الشك بين العراق وتركيا، وتلك هي احدى اهم مصادر العداء القوي بين العراق وإيران مع ما يخلقه هذا الوضع المتوتر من تفاعلات سلبية واثار تحرك المشاعر والنفوس دوريا، وهذه الحقيقة الجيوبولتيكية ينفرد بمواجهتها العراق من بين كل الاقطار العربية.
2 – والخطير جدا في سمة قطر التخوم هو ان المشاريع النهضوية القومية الثلاثة العربي والتركي والإيراني تصطدم بمسألة المجال الحيوي، اي الرقعة الجغرافية لهذه المشاريع الثلاثة. ان لإيران تطلعات، محمومة ومرضية ومتطرفة جدا طغت على ماعداها من تطلعات، لاحياء الامبراطورية الفارسية، التي دمرها الفتح الاسلامي فخلق ذلك نزعة ثار لدى الشوفينية الفارسية تجاه العرب، واصبح بناء امبراطورية فارسية هو النزعة الطاغية، بل (عقدة العقد) كما عبر عنها خميني وغيره بقوله : (لم من حق العرب والاتراك اقامة امبراطوية باسم الاسلام ولا يحق لإيران ذلك؟). وهذه العقدة التاريخية تشمل تاريخ إيران الحديثة كله منذ الشاه إلى خميني. وفي كلا الحالتين (الشاهنشاهية والخمينية) فان الامبراطورية الفارسية المطلوبة لا تقوم الا على انقاض الاقطار العربية وارضها، خصوصا على انقاض العراق، لان غرب إيران، وليس شرقها ولا شمالها ولا جنوبها، هو المجال الحيوي الوحيد الذي توجد فيه مقومات قيام إيران (العظمى).
ان افتقار إيران إلى المصادر الضرورية لقيام الامبراطورية يجعلها ملزمة بالاستيلاء على امكانات العرب، فإيران تواجه مشكلة نقص الماء الحادة جدا والخطيرة جدا، وصغر مساحة الارض الزراعية (لا تتجاوز نسبة الارض الصالحة للزراعة في إيران 13 % من مساحتها الكلية)، ولذلك فان التوجه التاريخي الثابت كان نحو الغرب، اي العراق حيث المياه الوفيرة والارض الصالحة للزراعة، وليس إلى اتجاه اخر. والان يوجد النفط في العراق ومنطقة الخليج العربي وهو ما تحتاج اليه إيران من اجل كيان امبراطوري، لان نفط إيران يتجه نحو النضوب ولا يكفي، لذلك لا مفر من احتلال العراق واقطار الخليج العربي اذا كان يجب قيام امبراطورية إيرانية عظمى.
وتلك ضرورة تفرض جعل الكيان الامبراطوري الفارسي الجديد قائما على اساس ديني (ظاهري) وليس قومي كما كان في زمن الشاه الذي فشل مشروعه التوسعي بسبب سمته القومية الصريحة التي جعلت العرب، وهم هدف الشاه، يتحصنون ضده بقلعة القومية العربية. ومما يزيد بل يفرض الحاجة لغطاء ديني أو طائفي مزيف حقيقة معروفة وهي ان الفرس في إيران لا تتجاوز نسبتهم السكانية 40 % من سكان إيران، من هنا فان الدين والطائفة غطاءان ضروريان جدا لقيام امبراطورية يسيطر عليها الفرس تحت غطاء الاسلام دون أثارة مسألة إن الفرس ليسوا قومية طاغية العدد بل هي قومية من بين قوميات.
بتعبير اخر إن إيران لا توجد فيها قومية رئيسية تشكل اكثر من 80 % من مجموع السكان كما هي حالة العراق. هنا نواجه حتمية غزو العراق واقطار الامة العربية من قبل إيران كمقدمة وشرط لابد منه لقيام امبراطورية فارسية، وهنا ايضا نواجه حتمية اصطدام مشروع النهضة العربية بمشروع نهضة قومية فارسية مجاله الحيوي الرئيسي هو ارض العرب.
اما تركيا فان العناصر الشوفينية التركية ايضا تستبطن في دواخلها، واحيانا تسفحها على وجوهها، نزعة ثأر تجاه العرب لانها تعتقد بان انهيار الامبراطورية العثمانية كان نتاج (خيانة العرب)، أضافة لفكرة مشابهة لفكرة إيران، ومختلفة عنها في نفس الوقت، وهي ان قيام امبراطورية تركية تضم كل الناطقين بالتركية في اواسط اسيا تستوجب احتلال جزء من العراق وهو الموصل وكركوك من اجل النفط، على الاقل، لان تركيا لديها مياه وفيرة وأراض زراعية ممتازة ولان نسبة الاتراك فيها اكثر من 80 % من مجموع سكان تركيا حاليا، فهم الاغلبية القادرة على السيطرة على الدولة، وليس مثل إيران التي تشكل فيها القومية الفارسية اقلية نسبتها كما قلنا 40 %، الامر الذي يجعل احتلال الاراضي العربية كلها غير ضروري لقيام الامبراطورية التركية، وهنا يختلف المشروع القومي التركي عن المشروع الإيراني، وما تحتاج اليه تركيا هو الطاقة لاكمال متطلبات الامبراطورية القومية، والسوق التجارية المفتوحة، ولذلك يكفي ان تصبح الاقطار العربية مجالا حيويا تجاريا لتركيا دون احتلالها.
وثمة حقيقة أساسية لابد من تذكرها دائما وهي ان تركيا تريد اقامة امبراطورية قومية صريحة تضم اتراك العالم وليس أمبراطورية دينية، لذلك لا ضرورة لضم العرب وأرضهم اليها، وهذا الهدف القومي الطبيعة اذا تحقق يضمن لتركيا وجودا فعالا في الاتحاد الاوربي ويمنحها دورا عالميا وليس دورا اقليميا فقط ! هنا نرى مشروع الامبراطورية التركية ايضا يصطدم بالمشروع القومي العربي من ناحيتين : ناحية احتلال مصادر طاقة في شمال العراق، وناحية مزاحمة المشروع القومي العربي في مسالة المجال الحيوي والسوق الواسع مادامت تركيا تريد تحويل السوق العربي إلى مصدر قوة لها، وهذا السوق لا يحتمل وجود قوتين نشطتين ومتنافستين فيه.
اذن ما يحكم العلاقات بين العراق وإيران وتركيا هو الماضي، المزدحم بنزعات الثأر والشك والمطامع، وكذلك النزعة الامبراطورية المستقبلية التي تفرض اخضاع العرب والاستيلاء على ثرواتهم ومميزاتهم الاخرى مثل موقعهم، وفي صلات الماضي وتطلعات المستقبل تتدخل مسائل الاحتلالات المتبادلة بين العرب والفرس والترك ووجود تيارات في تركيا وإيران تعمل على اعادة ضم اقطار عربية أو اجزاء منها اليهما، كما هو حال مطامع إيران في الاقطار العربية الخليجية والعراق، وهو ما اثبتته مرة اخرى تجربة احتلال العراق، أو مطامع تركيا في الموصل وكركوك وسعيها الستراتيجي لجعل السوق العربي تحت سيطرتها.
وخطورة هذه التناقضات بين اكبر الشعوب الاسلامية في الاقليم تكمن، كما راينا، في ان المشروعين القوميين الإيراني والتركي – التركي بصيغته الحالية - يتناقضان مع المشروع النهضوي القومي العربي بحدة ووضوح، لان المشروعين الإيراني والتركي لا يقومان الا على حساب العرب وباخضاعهم، اما المشروع النهضوي العربي فانه يقوم على الارض العربية والقدرات العربية وليست له اي مطامع في اراض تركية أو إيرانية لكنه لا يريد لمشروع اخر ان يزاحمه على ارضه القومية.
3 – وثمة حقيقة اخرى تعقد العلاقات بين العرب والاتراك والفرس وهي حقيقة ان إيران وتركيا ونزعاتهما الامبراطورية تعود إلى دورهما الحضاري البارز ووجود تأريخ طويل من الانجازات الحضارية والثقافية، فهما امتان عريقتان معروفتان في التاريخ العالمي، بعكس الدول الافريقية التي تجاور الاقطار العربية في افريقيا، والتي تعد دولا جديدة في التاريخ وبلا حضارات أو انجازات، ولم تحتل اقطارا عربية في السابق كما فعلت تركيا وإيران، وهي حالة تحرك النزعة التوسعية على حساب الاخرين، لذلك فان علاقة الافارقة بالعرب تتسم بنوع من الهدوء والمسالمة.
من هنا فان مجاورة العراق لإيران وتركيا تعد ظاهرة تنافسية خطيرة بين اقوام متحضرة ولها ثقافات عريقة ويعتز كل طرف منها بها، مما يشكل تهديدا دائما يقلقه ويساعد على عدم استقراره، خصوصا حينما تكون الحكومة في بغداد ضعيفة فيسمح ذلك بالتدخل في شئونه والمطالبة باجزاء منه، كما فعلت تركيا، أو اقتطاع اجزاء منه بالفعل كما فعلت إيران في زمني الشاه وخميني.
4 – ان مجاورة العراق لتركيا وإيران تنتج عنه تفاعلات ثقافية واجتماعية قوية تسمح بتحقيق انواع من الاختراقات الامنية والسياسية والعسكرية، فإيران وتركيا دولتان لديهما ارث حضاري وانجازات كبيرة عبر التاريخ لذلك فان بالامكان نقل مؤثراتها إلى العراق بطرق غير عدائية كالثقافية والاجتماعية – التزاوج – والدينية، حيث ان الاسلام يربط العرب بتركيا وإيران بقوة ونوعية وشائج تختلف جذريا عما يربط العرب بجيرانهم الافارقة المسلمين، فالسنغال مثلا، ورغم انها دولة اسلامية كتركيا وإيران، ليس لها عوامل تأثير ثقافي أو اجتماعي على جيرانها العرب في افريقيا تستطيع استغلاله لممارسة نفوذ كبير يصل حد تهديد الامن القومي العربي هناك، كما هو حال تركيا وإيران.
5 – ان العراق قطر فيه اقليات مهمة، فهو يتالف من العرب الذين يشكلون 85 % من السكان والبقية اكراد وتركمان، اضافة لذلك فان هناك اقليات دينية كالمسحيين والصابئة واليزيدية، وطوائف اسلامية كالسنة والشيعة، وهذه التركيبة تسمح بحصول تشابه أو صلات لاكراد العراق مع اكراد تركيا وإيران وصلات لتركمان العراق مع اتراك تركيا، أو اختلاق صلة ما بين شيعة العراق وشيعة إيران، مع ما يجره ذلك من تداخلات في الولاء واضطراب المفاهيم من حيث الاولويات، مثلا : هل الولاء للوطن والقومية ام للطائفة والاصل الاثني؟ ان هذا السؤال فرض نفسه بعد غزو العراق حينما استغلت أمريكا وإيران التنوع العراقي من اجل تقسيم العراق. والتنوع العراقي بهذا الشكل، وبهذا النوع، غير موجود في الاقطار العربية الاخرى حتى تلك التي فيها اقليات دينية، كما في مصر، أو تنوع كلبنان، حيث انها محكومة بقواعد داخلية غالبا والتأثير الخارجي نادر الا في اوقات تراجع العرب وضعفهم.
6– ان العراق يمثل عامل جذب للدولتين غير العربيتين عبر التاريخ، ولذلك كانت العلاقات معهما علاقات توتر وحروب وازمات وضعف الثقة.
7 – ان العراق يشكل عازلا طبيعيا لإيران وتركيا عن الوطن العربي مع انه المنطقة الاكثر اهمية بالنسبهة لهما اقتصاديا وسياسيا، لذلك فان من مصلحة البلدين المذكورين اضعاف العراق لتسهيل مرورهما إلى الاقطار العربية الاخرى دون عوائق، أو تحقيق هدف ستراتيجي خطير وهو عدم السماح ببناء عراق قوي يلغي ضرورة تدخل تركيا وإيران في الشئون العربية تحت بحجة دعم السلام في الاقليم أو ضمان وجود توازن اقليمي.
8 – ان تركيا وإيران تعانيان من نواقص جيوبولوتيكية تجبراهما على سدها من العراق أو عبره، فتركيا تفتقر إلى الموارد الطبيعية كالنفط مع انها دولة كبيرة، وإيران تفتقر إلى الماء والارض الصالحة للزراعة مع ان مشروعها الامبراطوري يحتاج لموارد كبيرة، والعراق فيه الماء والارض الزراعية والقوة البشرية والجزء الاعظم من موارد النفط، بالنسبة لإيران، وفيه موارد طبيعية كالنفط والسوق الكبير والمرور عبره لاقطار عربية اخرى، بالنسبة لتركيا، لذلك فان العراق بقي منطقة اغراء قوي للبلدين.
9 – رغم ان العراق عمره ثمانية الاف عام الا ان الكوارث التي حلت به عبر التاريخ حرمته من الديمومة والاستمرارية الحضارية وتعرض لفترات تراجع وتشرذم وفقر وتخلف، مع انه كان مهد اول حضارة بالاضافة لكونه صانع اربعة حضارات رئيسية، هي الحضارات السومرية والبابلية والاشورية والاسلامية، وهي ظاهرة غير مألوفة، وربما استثنائية، في مسار الحضارات. ان عدم التواصل وتقطع فترات الابداع والصعود الحضاري قد انتجت نقاط ضعف في بنية الكيان العراقي ابرزها واهمها عدم تبلور حالة تطغى فيها علاقات الامة والوطنية على ماعداها وماقبلها من علاقات، فعلاقات ما قبل الوطنية وما قبل الامة بقيت فاعلة ومؤثرة على خيارات العراقيين بدرجات مختلفة تحددها الظروف السائدة، لان الدولة المركزية القوية تزول وتحل محلها دولة اخرى قبل ان تكمل عملية ترسيخ المؤسسات وتقاليدها وجعلها هي القانون السائد بلا مزاحم.
ان العشائرية والطائفية والاثنية والعائلية والمناطقية – أو الجهوية - بقيت لها دور في التاثير على الانسان العراقي وتتقاسم عامل الدفع والتأثير مع العاملين الوطني والقومي. وحينما برز العراق الحديث وقامت الدولة الوطنية القوية في عهد البعث لاول مرة وانهت فترة تهميش العراق لعدة قرون وشرعت ببناء دولة وطنية الولاء الرئيسي فيها للرابطتين لوطنية والقومية وليس للعلاقات السابقة لها، ونجحت التجربة وعززت الوطنية والقومية واضعفت العشائرية والطائفية والعرقية وغيرها بدأت عمليات التأمر المتعدد الاطراف على هذه التجربة من اجل اجهاضها ومنع العراق من حسم مسألة طبيعة الولاء. وقدم لنا غزو العراق في عام 2003 وتدمير الدولة والمجتمع وفرض نظام محاصصات طائفية عرقية خطة مدروسة ( غربية - صهيونية - إيرانية مشتركة ) لاعادة العراق إلى الوقوع في فخ علاقات ما قبل الوطنية والامة. وبطبيعة الحال فان الجيش من بين من يتأثر بهذه الحالة الخطيرة بحكم انتماء منتسبيه إلى عشائر وطوائف واثنيات، فوجد فيه من يمثل كل تيار، وكانت الانقلابات العسكرية قبل حكم البعث في حالات معينة تعبر عن تلك الحالة، مادام الولاء ليس للوطنية والقومية فقط بل للعلاقات السابقة لهما ايضا.
10 – ان غياب دولة المؤسسات أو ضعفها نتيجة ما سبق ذكره انتج بصورة تلقائية بديلا سلبيا هو نظام الفرد الواحد أو نظام الفئة المتسلطة وخضعت الدولة كلها لتقاليد وثقافة الفرد والفئة، وهي تقاليد وثقافة ما قبل الوطنية والامة، وليس لتقاليد المؤسسة المستقرة والمتبلورة في بيئة وعي قومي ووطني راسخين، ولم يستثنى الجيش من ذلك بل بالعكس كان الجيش مسرحا للنزعات الفردية والفئوية ولاستغلال علاقات ماقبل الوطنية والامة في حسم الصراع على السلطة، وهذا مارايناه في الفترة بين عام 1958 و1968، حيث استخدم الجيش لحسم الصراعات السياسية بقيادة فرد أو فئة محدودة. اما بعد عام 1968 فقد بدأت عملية بناء دولة المؤسسات وكان المطلوب هو استقرارها وبلورة قواعدها وتقاليدها وإزاحة مؤثرات ما قبل الوطنية والامة، لكن حدة وتواتر التأمر الداخلي والخارجي منع اكتمال هذه التجربة وشابتها انحرافات عن مفهوم دولة المؤسسات.
11 – في قطر تحكمه الطبيعة القاسية – الحر الشديد والبرد الشديد نتيجة الطبيعة الصحراوية – فرضت فرضا طبيعة استبدادية في المجتمع العربي منذ ظهر اول تنظيم للدولة حتى بشكلها البدائي. ان الري ونظامه وتوفير الماء وزراعة الارض وحمايتها من الانواء الجوية المتقبلة والقاسية وشحة المياه مقارنة بحجم الارض قد انتج ما يسمى ب ( الاستبداد الشرقي )، الذي اقترن بقيام الدولة المركزية القوية جدا ونظام الفرد الواحد المطلق الصلاحيات. وبما ان الفرد ومهما كا عبقريا وميالا للديمقراطية يخضع لقوانين الطبيعة قبل قوانين السياسة في العصور القديمة فان النزعة الفردية في الحكم انتجت ظاهرة التقلب في الدولة وانظمتها وقوانينها ومؤسساتها، فالحاكم يغير ما يريد بين فترة واخرى دون عوائق، ويلغي غالبا ما فرضه الحاكم السابق تبعا لدرجة وعيه واحيانا مزاجه ومصالحه الشخصية.
وهكذا نشأت الدولة المركزية وصارت قوية بفضل قوة الاجبار وليس نتيجة التقاليد المؤسساتية. وتفسر هذه الحقيقة ظاهرة غياب الدولة عقب كارثة أو غزو ناجح، أو انتقال مركزها من مكان إلى اخر، فالحضارة السومرية قامت قي جنوب العراق بينما الحضارة البابلية قامت في الفرات الاوسط ومنه انتشرت، اما الحضارة الاشورية فقد قامت في الشمال، وقامت الحضارة الاسلامية في سامراء وبغداد ومنهما انتشرت في محيط اقليمي واسع جدا. ان عدم الاستمرارية والتنقل من مركز إلى اخر كان له دور سلبي واضح في عدم تبلور دولة المؤسسات التي لا تنشأ الا عبر الاستمرارية والتراكم لزمن طويل.
12 – بتأثير الطبيعة القاسية وتناثر اماكن السكن – مدن وقرى تعزلها الصحراء أو مناطق كبيرة – وعدم تبلور مفهوم دولة المؤسسات كان طبيعيا نشوء نظام ديكتاتوري مستبد يرأسه فرد واحد غالبا. ان المركزية الشديدة، بكافة اشكالها، هي ضرورة وحتمية لمجتمع تحكمه طبيعة قاسية ويتميز بتعدد مراكز التاثير على الناس وعدم تركزها في مكان واحد أو جهة واحدة، لذلك كان طبيعيا الاحتكام إلى السيف في حل المعضلات الكبرى. ودولة السيف ان صنعت امبراطورية الا انها لا تستطيع صنع دولة مؤسسات.
13 – كما ان تعدد مصادر التأثير والاحتفاظ بعلاقات ما قبل الوطنية والامة سمح بتبلور نزعات فردية قوية وتراجعت النزعة الجماعية. ان تقاليد العشيرة بشكل خاص تنمي النزعة الفردية لانها تقوم على فكرة المشيخة، فلكل عشيرة أو قبيلة شيخ أو مجموعة شيوخ يتدرجون في الاهمية وفق انساق تقليدية.
ونتيجة التناثر والتشرذم في العالم الاسلامي بظهور الطوائف والفرق اصبحت هناك مرجعيات دينية وطائفية متنوعة عززتها الخلافات المذهبية والدينية. وهكذا نشأت ظاهرة عراقية قوية وهي وجود نزوع لدى عدد ليس بالقليل من العراقيين للتزعم والانفراد بالزعامة باي ثمن، وعلى حساب اي قيمة ومصلحة عامة. ان قسما كبيرا من العراقيين، في فترات الاضطراب وتغييب الزعامة القوية أو غيابها، يتميز عن غيره من العرب بوجود حافز تزعم لديه حتى وان كان يفتقر إلى ابسط مقومات الزعامة، ان مرض الشعور المخادع بالعظمة موجود على نطاق واسع ليس في اوساط النخب المثقفة بل ايضا حتى في اوساط انصاف الاميين ! وقد برزت هذه الظاهرة في الجيش العراقي بوجود ضباط لا يتمتعون بالحد الادنى من التأهيل الثقافي والفكري ومع ذلك تزعموا انقلابات واحتلوا مواقع قيادية في الدولة فكان طبيعيا ان تتدهور الدولة ومعاييرها ! وهذا مرض خطير الحق افدح الاضرار بمسيرة الحضارة العراقية قديما، وساهم حديثا في اضعاف العراق والتمهيد لغزوه واطالة فترة الغزو، ولعل التسابق المقزز للمشاركة في الانتخابات في ظل الاحتلال وتصور كل مرشح بانه قائد العراق القادم صورة أنموذجية لهذه الحالة.
14 – ان إيران وتركيا دولتان متكونتان وعريقتان ولهما حضارات معروفة وقامت لهما امبراطوريتان مهمتان احتلتا اغلب الاقطار العربية نتيجة وجود نزعة امبراطورية عتيقة وقوية فيهما تدفعهما دفعا قويا لاعتبار العراق وغيره من الاقطار العربية منطقة نفوذ حيوية، اما جيران العرب في افريقيا فانهم يمثلون دول حديثة النشوء لكتل بشرية خرجت اغلبها حديثا من الغابة وهي وبلا حضارة أو ماض مهم يحفزها للعمل على استعادته أو توسيعه، وتلك حقيقة تحدد مسار هذه الدول الحديثة وهو العمل في الداخل على تحقيق ما يمكن تحقيقه لتحسين اوضاعها الخاصة والعثور على طريق يجنبها المشاكل أو يحلها، وهو همها الاول وربما الوحيد، اي انها ليس لديها تطلع للخارج الا لطلب المساعدة والعون، لذلك فان العراق كان ومازال يشعر بالقلق ويتحسب كثيرا لجيرانه الإيرانيين والاتراك في حين ان العرب المجاورين لافارقة لا يواجهون نفس المشكلة الكبيرة هذه، حتى لو كانت ثمة مشاكل مياه أو حدود تعد ثانوية وغير خطيرة.
15 – ان إيران وتركيا لا تعانيان من مشكلة التجزئة مثل العرب، بل انهما موحدتان ويتركز مشروعهما القومي على التوسع الخارجي، بالنسبة لإيران، أو تحقيق نفوذ خارجي بالنسبة لتركيا، اما العرب فهم شعب مقسم لذلك فانه يناضل من اجل الوحدة.
وهذه الحقيقة تجعل العراق يواجه مقاومة إيران وتركيا لاي خطوة توحيدية مع العرب الاخرين لانها تمنح العرب المتحدين خصوصا العراق منهم قوة هائلة ترجح كفته عليهما وتحد من قدرتهما على التوسع على حساب العرب. لذلك فان هوية من يحكم العراق تهم مباشرة كل من تركيا وإيران، فاذا كان قوميا عربيا وحدويا فانه سيواجه بالعداء من قبل إيران وتركيا وتجربة المرحومين عبدالناصر وصدام حسين تؤكدان هذه الحقيقة، في حين ان تجربة قاسم وغيره لم تواجه بالعداء المتجذر من قبل الجيران لانه كان قطريا اقليميا رفض الوحدة العربية وحاربها بقوة أو انه كان نظاما ضعيفا ومهمشا.
16 – ليس لإيران وتركيا مشاكل صراع تاريخي مع الغرب والصهيونية، لسببين رئيسيين الاول ان الغرب يجد في النفط العربي وبقية الثروات عامل اغراء قوي وستراتيجي للسيطرة على الامة العربية، والثاني هو ان اسرائيل اقيمت في ارض عربية وليس إيرانية أو تركية، لذلك ومهما حدثت خلافات بين الغرب والصهيونية من جهة وإيران وتركيا من جهة ثانية فانها تبقى خلافات غير ستراتيجية ويمكن السيطرة عليها من اجل تحقيق اهداف ستراتيجية مشتركة لهذه الاطراف الثلاثة .
وابرز مثالين هما عضوية تركيا في حلف الناتو وعلاقاتها القوية والتقليدية مع اسرائيل واعترافها بها مبكرا، وتعاون أمريكا وإيران ضد العراق وتقديم اسرائيل السلاح والدعم لإيران الخمينية لاستخدامه ضد عراق البعث منذ فرض خميني للحرب على العراق وحتى غزوه وتدميره، رغم ان لإيران مشاكل تنافس اقليمي مع أمريكا ومع اسرائيل. وهذه الحقيقة المعاشة تجعل إيران وتركيا لا تمارسان محاولات كسب موطأ قدم داخل العراق بقوتهما فقط بل هما ايضا تعتمدان في حالات الحسم على قوة الغرب والصهيونية في التنكيل بالعراق من منطلق ان تحييد العراق ما هو تمهيد ضروري لتركيع الامة العربية ومحو هويتها القومية، وتجربة غزو العراق اكدت هذه الحقيقة حيث ان الامة العربية فقدت القوة الستراتيجية العراقية الضاربة التي كانت تحيد إيران واسرائيل وتحد من تأثيرهما السلبي على العرب والذي اصبح قويا وخطيرا الان بعد التنكيل الشامل بالعراق. لقد اثبتت الاحداث التي اعقبت غزو العراق ان العراق هو حقا البوابة الشرقية للوطن العربي التي تحميه من تسلل سموم ريح الشوفينية الفارسية الحاقدة، وهو الوحيد الذي الذي نجح في تحقيق توازن رعب ستراتيجي مع اسرائيل.
17 – نتيجة كون العراق قطر تخوم وبصفته هذه خاض حروبا عديدة عبر التاريخ فان الشخصية العراقية تتميز بانها عسكرية الميل والطابع حتى بالنسبة للمدنيين العراقيين. فوجود التهديد الخارجي والتمدد الجاهز داخل العراق عند حصول اي ضعف فيه، ووجود اقليات وطوائف جزء منها جاهز لدعم اطراف خارجية، وتقاليد البداوة العريقة التي تمجد الفروسية انتجت شخصية حربية طاغية، حتى لو كمنت لفترة فانها تظهر بسرعة ما ان يبرز التهديد الخارجي.
ولم تكن صدفة ان اول واعظم امبراطورية عسكرية محترفة ومتقدمة في التاريخ وهي الامبراطورية الاشورية كانت عراقية، فهي نتاج عراق يتوسط اطراف معادية تقع في الشرق والشمال امتهنت الغزو والتوسع على حساب العراق، فكان طبيعيا ان ينشأ العراقي على حب القوة والعسكرة.
وهنا ولتقريب الصورة وتسليط الضوء على هذه الظاهرة يجب التذكير بحقيقة عشناها وهي ان العراق بمفرده كان لديه جيش من مليون عسكري في حين ان مصر وهي اكبر منه سكانيا حوالي اربعة مرات لم يتجاوز جيشها الـ150 الف عسكري، اضافة لذلك فان العراقيين المدربين على السلاح وحرب المدن بلغ قبل الغزو في عام 2003 عشرة ملايين عراقي من مجموع 27 مليون عراقي، وهذه نسبة غير مسبوقة وغير موجودة لدى اي شعب اخر، وهي تدل بلا ادنى شك على ان شعب العراق تأثر بقوة بالبيئة الاقليمية المجافية المحيطة به، وهي بيئة غير موجودة في حالة اي قطر عربي اخر.
يتبع
كتبت في تموز 2009 ونقحت يوم 16 / 10 / 2009 واجل نشرها لاسباب قاهرة
*كاتب وسياسي عراقي
[email protected]