[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

تونس.. النظام ولعنة الدستور

لم يكن حرق التونسي محمد البوعزيزي لنفسه سببا رئيسيا في سقوط نظام الحكم في تونس، لكنه كان السبب المباشر لإشعال فتيل ثورة الجماهير المحتقنة على نظام لم يترك لنفسه مجالا للمناورة السياسية مع مواطنيه في مثل تلك الظروف. وبحسب توصيف عالم الاجتماع اليمني الأصل ابن خلدون المولود في تونس عام 1332م؛ فقد التصق مفهوم الدولة عند التونسيين بسلطة الأمير، أو السلطان، حيث كانت نظرة التونسي للدولة تعكس نظرته للحاكم، إذا كان عادلا أحبّها، وإذا كان متسلطا، خشاها وعاداها.

عرفت تونس النظام الجمهوري منذ 53 سنة رغم أنها تميزت بأقدم دستور عربي عام 1861م ، كما شهدت قبل ذلك وثيقة عهد الأمان التونسي لعام 1856م وغيرها من الوثائق التي حاولت استلهام بعض التشريعات الأوربية مع الحفاظ على طبيعة نظام الحكم القائم. وعلى الرغم من تلك الوثائق إلا أنها لم ترقى إلى مستوى دساتير نظام حكم حديث، بقدر ما كانت تسن أحكاما لإنشاء مؤسسات تعاون الحاكم في تسيير شون الدولة ، واستمر ذلك الوضع حتى بعدما دخلت تونس تحت الحماية الفرنسية عام 1881م .

ومع استقلال تونس عن فرنسا وقيام المجلس القومي التأسيسي التونسي عام 1956م بدأت تتشكل بوادر الحقبة الدستورية الفعلية ، آخذة ببعض الأحكام من تشريعات الجمهورية الفرنسية الخامسة. ففي 20 مارس من ذلك العام قاد الحزب الحرّ الدستوري التونسي حركة نشيطة لانتخاب مجلس قومي تأسيسي، حصل بموجبها على جميع المقاعد التي تنافس عليها مع الحزب الشيوعي التونسي وبعض المستقلين.

كان المجلس القومي التأسيسي في البداية يتجه نحو إقامة "ملكية دستورية". حيث دعا المصلحون إلى تقييد سلطة الملك، دون التنظير لسيادة الشعب ، إلا أن إعلان الجمهورية كان قاطعا إلى حدّ كبير ومخالفا للفكر المتحفظ على سلطة الملك فكان الدستور واضحًا في إعطاء "السيادة للشعب". ومع قبول الحزب الحر الدستوري التونسي دخول الحكومة، ترأسها الحبيب بورقيبة في 15أبريل 1956م الذي عمل على استبعاد الملكية من مشروع الدستور الجديد مبديا حرصه على إعادة السيادة للشعب وإقامة الجمهوريّة التونسية التي أعلن المجلس عن قيامها في 25 يوليو1957. لتقطع تونس بذلك دابر تاريخ سياسي ملكي دام أكثر من 15 قرنا.

ومنذ ذلك التاريخ حاولت دولة الاستقلال بقيادة بورقيبة على تغيير مفهوم الدولة الملتصق بسلطة الملك أو الحاكم ، ونجحت إلى حد ما. حيث صدر أول دستور تونسي حقيقي في 1يناير 1959. وبمقتضاه تأسست الجمهورية، وانتهى الحكم الوراثي، لتحلّ محلّه سيادة الشعب، وقد حرص الدستور على تحقيق التوازن بين (الحرية والاستقرار). حرية ضحّى من أجلها التونسيون كثيرا، واستقرار خشي التونسيون ضياعه في ظل بوادر بعض الخلافات الداخلية، فصيغ الدستور على أساس نظام رئاسي، يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، ويضمن الاستقرار للسلطة والاستمرار للدولة.

كغيرة من الدساتير العربية اللاحقة نص دستور تونس 1959 على صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية تشمل اختيار رئيس الوزراء، وتعيين أعضاء الحكومة، والحكم بالمراسيم أثناء عطلة السلطة التشريعية. ولرئيس الجمهورية بصفته رأس السلطة التنفيذية نفوذه الكبير على الحكومة ورئيس الوزراء وعلى القوات المسلحة. وهو الذي يعيّن كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين بناء على توصية الحكومة.

عدل ذلك الدستور التونسي مرّات عديدة، إلا أن أهمّ تعديل كان في 8 أبريل 1976.حيث تم إدراج بعض السلطات البرلمانية في النظام الرئاسي، كما أعطيت صلاحيات أوسع للوزير الأوّل (رئيس الوزراء) . لكن طبيعة النظام بقيت رئاسية، وبقي النظام قويّا، أحاديا بالنظر إلى كاريزمية الرئيس بورقيبة، وتسيد الحزب الواحد في مختلف مؤسسات النظام السياسي، وبموجب تعديل دستوري استثنائي اجري في 19مارس 1975 ازداد انغلاق النظام السياسي التونسي حيث علق ذلك التعديل الترشح لرئاسة الجمهورية وأعلن الحبيب بورقيبة بمقتضاه رئيسا للجمهورية مدى الحياة.

نص تعديل الدستور أيضا على تعيين رئيس الوزراء من قبل رئيس الجمهورية ويكون له الحق في تولي رئاسة الجمهورية في حال وفاة رئيس الجمهورية أو إصابته بعجز يمنعه من أداء مهامه. وهو ما أتاح لرئيس الوزراء زين العابدين بن علي تقلد رئاسة الدولة في انقلاب سلمي على بورقيبة عام 1987م بعد الحجر عليه. وذلك موجب توقيع عدد من الأطباء على تقرير يؤكد عدم قدرة بورقيبة صحيا وذهنيا على ممارسة شئون الحكم. وكسابقة بدأ بن علي متحمسا للديمقراطية فعمل تحت شعار دولة التغيير على زرع ثقافة المواطنة، والمشاركة، والتضامن، وغير أحكاما وقوانين عدة، وأنشأ مجلسا دستوريا يعمل على احترام الدستور وسيادة القانون، ونال إعجاب التونسيين بإلغاء مبدأ الرئاسة مدى الحياة، ليسمح لرئيس الجمهورية بتولي الحكم لثلاث دورات رئاسية مدة كل منها خمس سنوات.

وفي يناير 2002م جاء التعديل الدستوري الأخير ليكون بمثابة آخر مسمار يدقه بن علي في نعش حكمة الذي دام 23عام. حيث عدلت بموجبه 38 مادة من مواد الدستور البالغ عددها 78 مادة، فغير بذلك التعديل تنظيم السلطات، وأعطى إطارا لتفعيل الديمقراطية والتعددية. وأسس غرفة ثانية هي "مجلس المستشارين" ليتحول برلمان تونس إلى هيئة تشريعية من مجلسين. كما ادخل بعض الإصلاحات التي توسع نطاق الحريات المدنية. وأدرج في الدستور مبادئ جديدة وهي: ( حكم القانون، التعددية ، صون كرامة وحقوق الإنسان ، ترسيخ قيم التضامن، ترسيخ قيم التسامح).

غير أن واقع الأمر أكد بأن تلك التعديلات لم تكن هي المستهدفة بقدر ما حرص من خلالها الرئيس التونسي على أن يدرج مادة دستورية تسمح له بتمديد فترته الرئاسية التي كان من المفترض أن تنتهي عام 2004م، وهو ما تحقق فعلا بإلغاء مادة الثلاث الدورات الرئاسية واستبدالها بمادة دستورية أتاحت له استمرارية الترشح في منصبه كرئيس للجمهورية حتى يصل سن ال(75) عام، وهو ما جعل المعارضة التونسية تنظر إلى تلك الخطوة باعتبارها انقلابا على الدستور والديمقراطية واصفة تلك التعديلات الدستورية بالاستبدادية.

ولعل المواطن التونسي منذ تعديلات 2002 بوعيه وثقافته وانفتاحه على العالم، لم يجد بدا على مدى ثمان سنوات من الاحتقان بمشاعر الظلم والقمع والاضطهاد السياسي الناجم عن استبداد وديكتاتورية الرئيس واستئثاره بالثروة والسلطة مع وزوجته والعديد من أفراد أسرتيهما، ومصادرته للحريات والتعبير عن الرأي، لا سيما وان الخمسة العقود الماضية من حياة الشعب التونسي قد أكدت له أن التلميذ سار على خطى معلمه، وعلمته في ذات الوقت أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. فكانت حادثة البوعزيزي بالنسبة للشعب المتنفس الذي عبر تجاهه التونسيون عن غضبهم الكامن تجاه النظام السياسي الحاكم الذي لم يكن يدري بما يعتمل في أوساط المحكومين. فتداعى ذلك النظام ما بين عشية وضحاها، أمام مظاهرات ارتفع صوتها بعبارة " سنبكي من أبكاك .. يا محمد لن ننساك" وهي مؤمنة بما قاله شاعر تونس : إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر.

زر الذهاب إلى الأعلى