[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

صعدة.. الوجه الآخر

تنقسم الثقافة في الدول النامية والمتخلفة إلى "مدنية متحركة" وأخرى "ريفية ساكنة" وهذا التقسيم يتجسد بقوة في اليمن.

ومن مهام الدولة التي تسعى للنهوض و التقدم الجماعي أن تقوم بتنظيم المتحرك وتنشيط الساكن.

وقد أثبت تراكم التجارب التاريخية أن هذا التقسيم واقعي وصحيح,وأن المنتمين لثقافة المدينة (المتحركة) يعتبرون ثقافة إخوانهم الريفيين جامدة وغير قابلة للتطور.

وعند ظهور أي حراك لدى الريف فإن الجميع يصنفه كحراك سياسي أو عقائدي أو عسكري(مسلح) ويستبعد وجود أي حراك ثقافي لدى الريف,وحتى أن أنواع الحراك السابقة والمتوقعة من الريف لا يمكن تصور أن تكون نشأت فيه بل يُجزَم بأن الريف مجرد أداة تتلقى وتنفذ ما تريده قوى ضمن الصراع داخل المدينة أوحتى قوى من خارج اليمن.

لكن الحقيقة أن ريف صعدة أثبت أن هذا التقسيم قد يخطئ ولو لمرة واحدة,فأبناء ريف صعدة –المعروفون خطأً بالحوثيين وسأستخدم مضطراً هذا الخطأ الشائع- أنتجوا ثقافة متحركة,حتى أن عجلة تحركه أسرع من ثقافة المدينة,وعلى السلطة والمجتمع في اليمن الإعتراف بهذا التحرك الثقافي الذي نشأ ويتطور في ريف صعدة وتشهد له مظاهره في كافة مجالات الحياة,فالثقافة –عموماً- هي المحرك الأول للنهضة والمكون الاساسي لحركة المجتمع والباعث نحو محاور التحرر والتطور والمحور الرئيسي للإبداع.

فعندما نجد في ريف صعدة أن هناك إختراعات علمية تكافح الحشرات الضارة بالمنتجات الزراعية وتساعد المزروعات على النمو وتحسن جودتها ومكونات هذه الإختراعات العلمية كلها طبيعية (عضوية) وليس فيها أي مكون كيماوي ضار,وعندما نجد أيضاً أن جماعة مقبل بن هادي السلفية (التي تُكَفِر الحوثيين) وجماعة محمد عبدالعظيم (التي تُفَسِق الحوثيين) جميعهم متواجدون في الأراضي الواقعة تحت سيطرة الحوثيين ويمارسون حياتهم وشعائرهم بحرية تامة وبحماية الحوثيين,حتى أن الزائر إلى منطقة الملاحيظ –يسيطر عليها الحوثيون- سيجد مقيماً هندياً يعبد جدياً(تيس) ويحميه الحوثيون حتى من تهكم وتجريح أبناء المنطقة, وعندما نستمع من بعض الجنود الذين تم أسرهم من قِبل الحوثيين أثناء الحروب ونعرف منهم الطريقة الأنسانية التي تمت معاملتهم بها من قِبل آسريهم,وعندما نجد أيضاً حرصهم على حماية الممتلكات العامة وحتى على معدات المقاولين العاملين في مناطقهم أثناء الحروب والسلم أيضا,وعندما تطلع على أسلوبهم في تقنين نفقاتهم وأستهجانهم للتبذير,وعندما نعلم أنه تم تحديد المهور بسقف لا يتجاوز المائة ألف ريال شاملة جميع النفقات,وعندما تراهم يتسابقون على قراءة أي كتاب تصطحبه معك إلى مناطقهم مهما كان نوع الكتاب أوتوجهه,وعندما يقول لك ضابط في الجيش السعودي أن الحوثيين يرفضون حتى قبول أغصان قات يود الضابط تقديمها إليهم أثناء عملياتهم المشتركة لنزع الألغام -مع أن أغلبهم يتعاطون القات- مبررين ذلك بأنهم لايقبلوا شيئاً من الأجانب إلا عبر الدولة و أنهم يقبلونه بطيب خاطر عندما يُعرض عليهم من اخوانهم ضباط الجيش والأمن اليمنيين,وعندما ترى أن إمكاناتهم المادية لاتتيح لمركزهم الأعلامي شراء كاميرا حديثة لاتتعدى قيمتها ثلاثمائة دولار,وعندما نجد كثيراً من المظاهر الأخرى المشابهه فعلينا أن نقر ونعترف بأن هناك ثقافة تحركت وأنتجت وأثرت,ولهذه الثقافة المتحركة لدى ريف صعدة الكثير من الايجابيات كما ان بها بعض السلبيات.

إن مجرد الأعتراف من قبل السلطة والمجتمع في اليمن بأن مايحدث في ريف صعدة هو نتاج لثقافة متحركة سيساهم هذا الأعتراف بحل جذري للأزمة,وجعل النسخة السادسة هي آخر الحروب بمشيئة الله,لأننا إذا لم نعترف بذلك وأصرينا على أن ثقافة الريف هي دائماً ساكنة ومن المستحيل أن تتحرك ومحاولتنا تأصيل الأزمة بأنها ناتجة لإحدى العوامل الأخرى المذكورة سابقاً(الدينية و السياسية و العسكرية) فلن نصل لنتيجة حقيقية ومطابقة للواقع ولن تكن الحلول ناجعة أبدا.

لا أدري ماهي الأسباب التي حركت ثقافة ريف صعدة بعد سكون طويل,وهناك باحثون أجتماعيون يمكنهم المساعدة في الوصول لهذه الأسباب,ولكن ما أنا متأكد منه أن لديهم ثقافة متحركة فعلاً,وأن هناك قادة فكر وآخرين ميدانيين هم من نشطوا هذا الحراك الثقافي.

إن مجرد الأستماع أوالمشاهدة أوالقراءة عبر وسائل الأعلام المختلفة لا يكفي لتكوين صورة كاملة عن المشهد هناك,فلابد لمن أراد أن يقيّم حقيقة وعمق وأبعاد المشكلة أن يزور ريف صعدة,ويلتقي بأبنائه ويسكن في منازلهم ويعيش حياتهم ويستمع إليهم عندما يحدثوه,وأن ينصت للنقاشات التي تدور بينهم بدون تدخل منه ليرى طريقتهم وإستناداتهم وردودهم العفوية.

إن الإعلام ظلم ذلك الريف,حتى أن القنوات التي تُظهِر أنها تقف بجانبهم(مثل العالم و المنار وأحياناً الجزيرة) تقوم بتسليط الضوء على ريف صعدة أثناء الحروب فقط,وتعتبره سبقاً إعلامياً عندما تقوم بتوضيح من يسيطر من اليمنيين على هذه المنطقة أو تلك من الأراضي اليمنية,أوعندما تحصر كم يمنياً قُتل على يد يمنياً آخر,وعند السلم فهي لاتحاول أن تنقل صورة عن حقيقة المنطقة أوحتى تلتفت إليها لأنها لم تعُد مهمة إعلامياً من وجهة نظر هذه القنوات,وكذلك هوالحال مع الإعلام المُضاد لهم (مثل قناة اليمن وقناة العربية وقناة السعودية) فهو لا يختلف عن السابق إلا بأعداد القتلى أو بالخرائط, كما أن المحللون الذين يدلون بأرآئهم عبر وسائل الاعلام المختلفة لم يقوموا بدراسة واقعية للموضوع ويحملون المشكلة أكثر مما تحتمل ويسيرون بسياق تحليلاتهم بعيداً عن صلب المشكلة,بما فيهم من يعتبر نفسه منحازاً إلى جانب أبناء ريف صعدة أومتعاطفاً معهم,حتى أن يحيى الحوثي الذي يدعي فهمه لحقيقة الوضع من داخل ألمانيا صور أن مشكلة صعدة هي ناتجة عن خلاف حصل قبل ألف وأربعمائة عام بين الصحابة وآل البيت!! ويعتقد بذلك أنه قد أدرك كُنه الأزمة.

كما أن السياسيين المعارضين للسلطة في اليمن يكيفون الموضوع على أنه قمع لحرية التعبير وحرية المعتقد من قِبل السلطات بالجمهورية اليمنية,وهم لا يدركون أن السلطة هي نتاج لمجتمع أصدر حكمه على ثقافة الريف بأن تسكُن وأنه إذا أراد ثقافةً متحركة فعليه أن يأتي بعجلته ليحركها في المدينة.

إن مايؤكد ما أشرت إليه سابقاً وبأن تحرك ثقافة الريف لابد أن يساء فهمها,قيام جميع الأطراف بتكييف المشكلة وفقاً لما يناسبها, فالتيار السلفي و الأخوان المسلمين أعتبروها محاولة شيعية لفرض المذهب الجعفري على اليمن,والتيار العسكري النافذ في السلطة كيفها على أنها محاولة للأستيلاء على السلطة,والحراك الجنوبي إفترض وجود إتفاق بين السلطة والحوثيين للقضاء على العسكريين الجنوبيين,كما نظر إليها بعض مشائخ القبائل أنها محاولة من الحوثيين للأستحواذ على المرتبات الكبيرة التي يتقاضونها من المملكة الشقيقة, وقبيلة حاشد أعتبرتها محاولة من قبيلة بكيل للنيل من مكانتها,وغيرها من التحليلات والتكييفات التي تتفق مع واقع من أصدرها ولا تتفق مع واقع ريف صعدة الذي يحتضن هذه الأزمة.

سهلٌ وممتنع هو التعامل مع مشكلة صعدة, فمن الممتنع حلها بلا فهمٍ لحقيقتها, فحتى أكبر جيوش العالم لن يستطيع ذلك وأنا أعذر العسكريين اليمنيين لكني لا أجد عذراً للسياسيين في اليمن –سلطة ومعارضة ومستقلين- إلا جهلهم بحقيقة الوضع,ومن السهل حلها عندما نستوعب أن مايشهده ريف صعدة هوحراك ثقافي سنستفيد منه جميعاً في اليمن, إن قامت السلطة والمجتمع بإقرار هذا التحرك وإحتوائه وتنظيمه وتبنيه من قبل الدولة والمجتمع,لأن ثقافة أي مجتمع هي نتاج لثقافات إقليمية محدودة تتجمع لتكوّن هوية وثقافة جماعية واحدة للدولة,ويتم الأستفادة من كل ايجابيات هذه التحركات الثقافية وتلافي السلبيات التي لابد أن تصاحب هذه التجارب,وبذلك سوف تكون الدولة هي الحاضن و الراعي ومن سيحتسب لها كل نجاح وإبداع ينتج عن مكوناتها الثقافية, وبدون ذلك سيبقى التحرك الثقافي موجود فليس بالإمكان ايقاف عجلة الثقافة إذا ما انطلقت ولكن لن تستفيد الدولة أوالمجتمع اليمني من المخرجات الايجابية لهذه التحركات الثقافية وستبقى ضمن إقليم ريف صعدة وستنسب كل هذه النجاحات لقياداتهم التي حركت فيهم روح الابداع والابتكار وسيبلغ ذلك إلى حد تقديس هذه القيادات لأنها الملهمة والراعية والحاضنة وبالتالي سنجد أن مجتمع ريف صعدة سينعزل تماماً عن محيطه اليمني لإختلاف الثقافة وهذا ما نخشاه لأننا في حينه سوف نضطر للأعتراف بدولة تختلف عنا ثقافياً تقع بين الجمهوية اليمنية والمملكة السعودية ولها من مقومات الوجود والبقاء ما لا تمتلكه بعض الدول العربية (مثل الاردن و فلسطين67).

لست متشائماً فالوضع لم يستفحل بعد,فريف صعدة مازال يمنياً وسكانه يمنيون,ومازالت الدولة وكذلك المجتمع قادرين على استيعاب التحرك الثقافي في ريف صعدة واحتوائه والاستفادة منه والتأثر به والتأثير فيه, لكن علينا ان نقيم الوضع هناك بصورة سليمة بلا احكام مسبقة وسندرك جميعاً أن لصعدة وجه آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى