رسالة تاريخية من الأستاذ النعمان إلى الرئيس الإرياني: غادروا السلطة اختياراً (نص الرسالة)
هذه رسالة فريدة للأستاذ أحمد محمد نعمان وجهها إلى القاضي عبدالرحمن الارياني في يونيو 1970م يشخص فيها الأوضاع اليمنية في لحظة ملتبسة شديدة التعقيد.
فرادة الرسالة في مكانة صاحبها، وفي هوية الطرف الذي وجهت إليه، وأولاً وأساساً في الرؤية الثاقبة المتماسكة التي يعرضها استاذ أمسك باللحظة الملتبسة، وقدَّر إمكان تحويلها إلى لحظة فارقة بين حقبة الحرب الأهلية التي أفرزت صيغة الحد الأدنى لمعسكر الثورة، وبين حقبة قادمة أرادها صاحبنا حقبة بناء دولة المواطنة، وحكم القانون.
النعمان إذ يخاطب مجايله القاضي الرئيس، وتلاميذه الذين وثبوا إلى الحكم، ثم أغمضوا أعينهم وأصموا آذانهم، يجهد في تفصيل رؤيته، وبيان دافعه من طرحها وتبيين سُبل تحقيقها.
ولسوف نلحظ، إذْ نتملّى المعاني ونستغور الأفكار، منطقاً غاية في التماسك، يترفع فيه صاحبه على الخصومات، متعالياً على مراراته ومصائبه، مُسدياً دروساً في تجاوز عبء الماضي، لاجتياز خط المستقبل، وإنجاز متطلبات مرحلة الانتقال، وأولاها استيعاب، وليس صد وامتصاص، قوة اندفاع جيل من الشباب الثائر، عبر ابتداع صيغة حوار تتيح انتقال المسؤولية الوطنية من جيل إلى آخر،
دونما انسحاب سريع مرتجل، أو إدعاء المن والاحسان تجاه شباب لم يعد يقبل بقاء الشيوخ في السلطة إلا مجاملة أو رعاية لحق الأبوة، أو شعوراً بالعجز عن تنحيتهم كما يذهب الاستاذ.
نيوزيمن ينشر هذه الرسالة الوثيقة خدمة للقارئ أولاً لما تحفل به من ايماضات علّها تنفع الناس في مرحلة انتقال أخرى يعيشها اليمن، وثانياً احتفاء بذكرى رحيل النعمان التي تصادف الـ27 من سبتمبر، والاحتفاء بالشخصيات التاريخية أجمل ما يكون بنشر تراثهم.
بسم الله
فخامة الأخ رئيس المجلس الجمهوري*
الإخوة الزملاء أعضاء المجلس**
تحياتي الأخوية، وتمنياتي الطيبة راجياً من الله التوفيق والعون للجميع على مواجهة المشاكل التي خلفتها العهود الغابرة، والحروب الطاحنة من الداخل والخارج من قبل الإسلام وبعده، من قبل 26 سبتمبر 62 وبعدها.
فخامة الرئيس.. الإخوة الزملاء
إنني رغم البعد اضطراراً كما تعرفون لإكمال العلاج علم الله ما تركت فرصة لتأدية ما يجب علي من مساندة لكم وتأييد لمواقفكم وتقديم ما أملك من رأي يبدو لي صوابه ليكون تحت درسكم وأنا في ذلك على مذهب المتنبي:
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني ظهور جري فلي فيهن تصهال ولا يهمني أن يقبل الرأي أو يترك تحت رحمة أخي وزميلي الفريق فيسجل عليه خطأً الأغاني المحببة إلى نفسه يغفر الله له.
فخامة الرئيس.. الإخوة الزملاء
لقد انتهت الحرب المشؤومة وإلى غير رجعة إن شاء الله تاركة وراءها الخرائب والأنقاض والفقر والجوع والأرامل واليتامى والمرضى والجرحى والمشوهين..
فلنستقبل عهد السلام والبناء والتعمير والرخاء والازدهار، ونتعاون على إصلاح ما أفسد الدهر وإذا كان من دعاء السلف: اللهم ارزقني رأي الشيوخ وقوة الشباب، فإن الرأي الذي أتقدم به اليوم لم يكن جديداً بل هو مكرر ومعاد، إلا أنني مؤمن به وواقف دونه، لأنه حصيلة التجربة الطويلة والمريرة، وحصيلة الدرس والتأمل.
كما أنه لا يخرج عن السعي لتحقيق ما ذهبت في سبيله أرواح الشهداء والطلائع والرواد، وما كنا جميعاً نطالب به ونناضل من أجله، وننشده لبلادنا: قيام دولة حديثة تنقل اليمن من القرون المظلمة السحيقة إلى القرن العشرين بوسائل العصر الحديث وأفكاره ولغته وعلومه ورجاله مع الاحتفاظ بتقاليده الكريمة ودينه القويم وشريعته السمحة البيضاء النقية، فلا تنقضي السنون ونحن نعلن عن تطور اليمن وتقدمه مجرد إعلان وهي متخلفة تخلفاً رهيباً شائناً ويصدق علينا قول شهيدنا:
يبهرون الدنيا بزورة موسكو وعليهم غبار دنيا ثمود
أو قول الآخر:
ترى عليهم قشرة الحضارة والروح جاهلية
فخامة الرئيس.. الإخوة الزملاء
ينبغي أن نملك الشجاعة والصدق مع أنفسنا ومع جيلنا ومع الأجيال القادمة فنقولها بإخلاص وأمانة؛ إننا لسنا من بناة الدولة الحديثة من قريب أو بعيد وإن كنا في طليعة الداعين إليها والمطالبين بها والحريصين عليها.
وإذا كان لكل مقام مقال ولكل زمان دولة ورجال، فإن الذي يبني الدولة الحديثة في هذا العصر هم الطليعة الواعية المتحررة من الغرور والإدعاء، المدركة إدراكاً حقيقياً أن كل من حولنا لم يكن لهم يد ولا حول ولا طول في بناء دولة حديثة في بلادهم أو جهاز من الأجهزة أو تنظيم أو إدارة..
وإنما بناها أساتذتهم (وبعبارة أصرح) بناها حكامهم في وقت من الأوقات، بناها أساتذة الحضارة العصرية وصناعها وخبراؤها وعلماؤها..
هذه هي الحقيقة مهما بالغنا في نفخ أوداجنا وارتفاع أصواتنا بشتمهم ولعنهم من نفس الأجهزة التي اخترعوها وصنعوها وقدموها إلينا وعلمونا طريقة استخدامها والتحدث منها.
إن الحصول على هؤلاء الأساتذة لم يعد صعباً ولا عسيراً، فإنهم متوفرون لدى الدول الصديقة ولدى الأمم المتحدة ومن جد وجد.. وليست هناك عقبة تحول دون الحصول عليهم سوى الخوف من شن الحملات الدعائية من قبل أولئك الذين يريدوننا أن ننتظرهم قرناً آخر، وألا نتعامل مع غيرهم حتى يتخلصوا من مشاكلهم التي لها أول وليس لها آخر ليتفرغوا للتنكيل بنا والقضاء علينا أو تهذيبنا وتأديبنا وإصلاحنا في العهد المعروف لليمنيين وغيرهم (السجون الحربية.. للتأديب والتهذيب والإصلاح).
كما انتظرناهم من قبل وركضنا وراءهم ببراءة وسذاجة وطفولة وغباء، وتطلعنا إليهم كمنقذين وكإخوة أشقاء لن نلقى أية صعوبة في الاستفادة منهم والتطور على أيديهم، لأن اللغة العربية التي لا نحسن سواها كانت تشدنا إليهم وتقربنا منهم..
كما كانت لغة العلم الحديث والحضارة الحديثة غريبة علينا وعقبة تحول دون الاستفادة من الآخرين والتعاون معهم والاتصال بهم..
ولقد أضعنا ثلث قرن من حياتنا وحياة شعبنا جرياً وراء السراب..
وكانت النتيجة ما علمتم وذقتم.
لقد انتظرنا الأشقاء ليعلمونا ويأخذوا بأيدينا أربعين عاماً من أعقاب الحرب العالمية الأولى..
انتظرناهم حتى يتخلصوا من الاستعمار ومن عملاء وأذناب الاستعمار، ومن الرجعية والإمبريالية والرأسمالية، ويحققوا الوحدة العربية غير أننا استيقظنا بعد طول الانتظار وهم يزدادون تمزقاً وانقساماً ويلعن بعضهم بعضاً، ويتخذون بلادنا المسكينة البائسة ميداناً للصراع والقتال فيما بينهم ويجعلون منا وقوداً لحروبهم وأحقادهم ويمزقوننا شر ممزق.
وها هم مع بالغ الحسرة والأسف والألم الذي يعتصر قلوبنا عادوا تحت أبشع استعمار واحتلال والحرب تحصد أرواحهم وتخرب مدنهم وقراهم. فهل ننتظرهم قرناً آخر..
أم نحاول تحرير بلادنا من التخلف وننشد العون من الأصدقاء، ونستفيد من حيث استفاد الأشقاء، ونطلب الحكمة حيث وجدناها سيما وقد وجد من شبابنا من يستطيع التفاهم بلغة العصر وحضارته ومنطقه.
فخامة الرئيس.. الإخوة الزملاء
إننا ولله الحمد بدأنا نسترجع أملنا في شبابنا بعد أن تبادلنا الشكوك والقطيعة حيناً من الدهر، وبعد أن بدأوا هم أنفسهم يدركون ما أدركناه قبلهم.
ولقد كانوا معذورين وغير ملومين فإن منسوب الذكاء عندنا معشر العرب لم يصل بعد إلى المستوى الذي يستفيد فيه المتأخر من تجربة من سبقوه.
ولقد أصبح الولد محسن العيني*** في طليعة هذا الشباب الواعي المدرك، وعلينا أن نعينه بما نملك من رأي وتجربة، ونعمل جاهدين لمساعدته على اختيار من يطمئن إليهم من الشباب الذي لا يخاف في سبيل مصلحة بلاده لومة لائم ليعملوا صفاً واحداً في ظل الوحدة الوطنية، وعهد الحب والأخوة الذي يجب ألا يكون فيه مكان لحاقد أو عابث أو مفرق أو دساس.
وعلينا أن نؤيدهم في استقدام الخبراء والفنيين والاختصاصيين والعلماء في كل مجال وأولاً وقبل كل شيء خبراء في تنظيم الأداة الحكومية فما لم تنظم هذه الأداة تنظيماً حقيقياً فإننا سنظل حيث نحن ولن نزداد إلا تخلفا..
ولنا أسوة بمصر المتقدمة فإن الرئيس عبدالناصر استقدم منذ ثمان سنوات أي عام 1962م خبراء من أمريكا لتنظيم الأداة الحكومية بمصر التي عرفت التنظيم في عهد محمد علي باشا وفي 72 عاماً من بقاء الانجليز فيها.. وفيها الجامعات والمعاهد والمصانع والألوف من العلماء وأساتذة الحقوق والاختصاصيين في مختلف العلوم والفنون.
فهل نحن أقل حاجة من مصر لتنظيم الأداة الحكومية على يد خبراء من الخارج؟
وهل يجوز لنا ما جاز لغيرنا أم أن اللعنة ستحيق بنا وستلصق بنا تهمة الإمبريالية والرجعية وخيانة العروبة؟
فخامة الرئيس الإخوة الزملاء
إنني أرى مخلصاً أن نتفاهم مع طليعة شبابنا على إفساح المجال للجيل الجديد ليستعد ويهيئ نفسه لتحمل المسؤولية كاملة وعلينا أن نمهد بحكمة وبصيرة وتفاهم تام طريقة الانسحاب المنظم من مركز القيادة اختياراً لا اضطراراً، وأن نسن للحكام من بعدنا سنة حسنة، ونجعلهم يعرفون جيداً أن السلطة ليست غنيمة ولا ميراثاًَ، ولا سلعة تباع وتشترى وتوهب، ولكنها مسؤولية وأمانة يتحملها القادرون ويتخلى عنها العاجزون..
ولعل فخامة الأخ الرئيس يذكر أني تقدمت بمثل هذا الرأي عام 65م بعد اتفاقية جدة بين عبدالناصر وفيصل، فاعترض السلال زاعماً أننا نريد خديعته فقط ليشترك معنا في الانسحاب ثم نخلفه على السلطة. إنني لا أدعو للانسحاب المرتجل السريع حتى لا يعتبر ذلك خذلاناً لشبابنا وأبنائنا، أو تخلياً عن المسؤولية وتهرباً منها ولكن ينبغي أن نتدارس الأمر بهدوء مع الخاصة من ذوي الرأي والتأثير، والذين يدركون روح العصر وروح شباب العصر الذي لم يعد قابلاًَ لسلفه في السلطة إلا مجاملة أو رعاية لحق الأبوة، أو شعوراً بالعجز عن تنحيتهم.
وغاية ما نريده من شبابنا هو أن يقيم بيننا وبينه جسراً للتفاهم وتبادل الرأي والمشورة، إذ ربما كان يعترف لنا بالسبق في المطالبة بالتطور والإصلاح والتغيير، وفي قرع أبواب الحضارة وتحطيم أسوار العزلة التي فرضت على الشعب قروناً وأجيالاً حتى تمكن الشباب من الانطلاق والخروج إلى العالم الجديد يتعلم ويدرس، ويتأمل ويرى ويسمع ليرجع إلى قومه يعلمهم وينذرهم، ويبني وطنه كما تعلم ودرس ورأى كيف يبني الناس أوطانهم.
ولما كنا أكثر فهماً لروح الشعب المنعزل عن العالم فإنا نحرص على أن نظل همزة الوصل التأريخية بينه وبين شبابنا وكم يسعدنا ألا يقع شبابنا فيما وقع فيه شباب آخرون في أوطان أخرى قد بلغت أوطانهم أعلى مراحل التقدم، وألا يقلدهم في التخريب والهدم فقط، أو يضيع وقته في لعن السابقين والآباء والأجداد، فإن الشتائم واللعنات كما أثبتت التجربة لم تبن وطناً ولم تصلح أمة (لا تلعنوا الظلام ولكن اوقدوا الشموع..).
إن اليمن في أشد الحاجة لكل دقيقة وثانية من حياة شبابها ومن تفكيرهم وجهدهم ونشاطهم لمكافحة الأمية بكل صورها وأشكالها في القرية والمدينة والسهل والجبل.. إنها محرومة ……..
فخامة الرئيس.. الإخوة الزملاء
لم يبق لنا عذر في التمسك بالسلطة والاستمرار بمركز القيادة السياسية وتحمل المسؤولية بعد أن وقف شبابنا الموقف الوطني الرائع وحققوا الوحدة الوطنية والسلام وأثبتوا أنهم جديرون بتحمل المسؤولية.
إن علينا أن نكون عوناً لهم وسنداً، وأن نقدم لهم آراءنا المستخلصة من تجاربنا، ونشعرهم بمعنى الأبوة حتى نستعيد ثقتهم وحسن ظنهم ونعيش معهم في سلام واطمئنان، ونقضي على أسباب القطيعة والجفوة التي زرعها في نفوسهم أعداء اليمن، وأثاروا شكوكهم ليمزقوا شمل الشعب ويتمكنوا من إذلاله والقضاء على استقلاله.
واجبنا ألا نتجاهل ما عبأ به أعداؤنا مشاعر شبابنا وأثاروا سخطهم وملأوا أعصابهم بالتوتر..
إن سبيلنا لإحباط كيد الحاقدين على شعبنا وعلى استقلاله أن نتفاهم بصدق وصراحة مع شبابنا وأبنائنا طليعة الأجيال القادمة وتبديد كل ما في نفوسهم من شكوك، وإفساح الطريق أمامهم ليأخذوا مكانهم في مراكز القيادة السياسية باقتناع وهدوء وسلام.
كما أن الأمانة تحتم علينا أن نضع قاعدة سليمة للحكم في بلادنا تقوم على مبدأ انتقال السلطة بطريقة سلمية لا يراق على جوانبها الدم، ولا يلجأ الطامحون إليها والراغبون فيها إلى تدبير المؤامرات والاغتيالات والقيام بالانقلابات فتصبح اليمن من جديد مسرحاً لحروب جديدة وصراع على السلطة، كما عاشت في العهود القديمة وكما تعيش في الحاضر بعض الشعوب التي كثر فيها الصراع حول السلطة وانصرف الناس فيها عن البناء والتعمير إلى التخريب والتدمير..
فلا يسجل التاريخ علينا أننا لم نقدم لليمن في العصر الحديث سوى الحرب والدمار بأسلوب حديث وسلاح حديث.
والذكي من انتفع بتجارب غيره.
والله يوفقكم وسلام الله عليكم..
أخوكم
أحمد محمد نعمان
بون - في 17/6/1970م
* رئيس المجلس الجمهوري (67-1974م) القاضي عبدالرحمن الإرياني
** أعضاء المجلس الجمهوري؛ الفريق حسن العمري، الشيخ محمد علي عثمان، السيد أحمد الشامي.
*** محسن العيني: رئيس الوزراء.