إذا كانت الحياة الأدبية في كثير من الأقطار العربية تعاني من خلل خطير يهدد نسيج العلاقات القائمة على الوفاء، فإن بلادنا- والحمدلله- ماتزال في منأى عن هذا الخلل الخطير، وأرجو ان تبقى كذلك، وان يستمر وفاء الاجيال الجديدة للأجيال السابقة، وان يظل هذا الامتنان رمزاً للتواصل الصحيح والسليم حتى تجد الأجيال الجديدة من الاجيال التي ستأتي بعدها التقدير نفسه والعناية ذاتها، فالحياة تقوم على قاعدة الجميل ورد الجميل، وحين تخلو الحياة بعامة من تلك القاعدة تبدو موحشة وكئيبة، ولا مكان فيها للإبداع الجدير بأن يدعي كذلك، والذين يتساءلون عن ضمور الابداع في الوطن العربي، وغياب الاسماء الكبيرة لايدركون ان السبب راجع إلى ذلك الخلل الخطير المتمثل في غياب الوفاء وانعدام التواصل العميق بين الأجيال.
لهذا، فانني أحيي كل العاملين على إحياء ذكرى الغائب الحاضر شاعر اليمن الكبير الاستاذ عبدالله البردوني، الذي نشعر جميعاً انه لم يغب عنا يوماً واحداً، وانه مقيم معنا بانجازاته الشعرية وبماتركه من روائع ابداعية ورؤى مستقبلية، وهكذا هو الشاعر الكبير في كل زمان ومكان لايكون عابر سبيل، بل شاهد عصره الذي يؤهله للانتقال عبر العصور، وتلك هي جائزته الكبرى على ما اجترحه من إبداع وما واجهه في حياته من آلام ومعاناة، وأعني بها المعاناة الابداعية التي تفوق كل أشكال المعاناة الاخرى، تلك التي قد لاتكون بالنسبة له ذات أهمية مهما قست، إزاء معاناة الإبداع الذي لايأتي مجاناً ودون عناء واحتراق.
لقد كان الصديق والزميل والأستاذ عبدالله البردوني أسطورةً في شعرنا المعاصر، والمبدعون الذين يتحولون في تاريخ شعوبهم إلى أسطورة لايأتون من فراغ، ولايتكونون بين يوم وليلة، وتحضرني في هذه اللحظة عبارة لم يجف حبرها بعد للشاعر اللبناني الصديق شوقي بزيغ وردت في رثائه للشاعر العربي الأسطورة محمود درويش يقول فيها: ان المبدع الأسطورة ليس هدية مجانية وانما يتم تكوينه يوماً بعد يوم وانجازاً بعد انجاز، تماماً كما هو الحال مع الهوية، وثبت أن الحب يمنحه الناس للشعراء الكبار ليس ضرباً من ضروب المصادفة بقدر ماهو استحقاق باهظ يدفع المبدع ثمنه من شغاف القلب ووجع العيش وحطام الأعمار.
ولاينبغي في هذا الصدد أن ننسى ان الموت بالنسبة للمبدعين هو طريق إلى حياة جديدة، حياة أطول وأحفل بالمحبة والمتابعات القرائية الجادة والدراسات العميقة التي تتكفل بها الأجيال اللاحقة لإظهار المزيد مما انطوت عليه أعمال المبدعين وآثارهم الخالدة، وكم يبدو المتنبي الذي غمطه أبناء عصره، كم يبدو في عصرنا سامقاً وعظيماً، والأمر لايختلف كثيراً مع أدباء وشعراء قدامى ومعاصرين، كانوا ومايزالون ملء السمع والبصر، شأن شاعرنا الكبير الأستاذ البردوني الذي سيظل كذلك إلى مايشاء الله هامةً سامقةً ورمزاً خالداً وشمساً لاتكف عن الإشعاع.