قبل 50 عاماً كان الظلام المادي والمعنوي يجثم على جزء مهم من اليمن الذي كان سعيداً.. والظلام المقصود كان بأنواع متعددة مثل ظلام الجهل.. وظلام العصبية والتعصب.. وظلام الروح التي سلبت منها مشاعر الإحساس بالإنسانية، وكرست بدلاً منها مشاعر الدونية حتى صار (اليمني) أنموذجاً للتخلف والجهل والمرض.
وعندما كسرت ثورة سبتمبر 1962 حواجز الزمان الإمامي جاء كثيرون إلى اليمن وفوجئوا بما رأوه.. فقد كان فوق ما يتصورون ويتخيلون.. حتى قال (رالف بانش) –مساعد السكرتير العام للأمم المتحدة- بعد أن زار اليمن لمتابعة مساعي إحلال السلام فيه (لقد كنت حتى الآن أتصور أنني رأيت أسوأ صور التخلف في الكونغو، لكن ما رأيته هنا في اليمن أقنعني بأن هناك ما هو أسوأ من التخلف في الكونغو.. يا إلهي؛ في الكونغو رأيت جريمة الاستعمار لكن عندما وصلت اليمن آمنت بأن من سوء حظها أنها لم تعرف ولو قدراً ضئيلاً من الاستعمار!).
الرئيس الجزائري السابق (هواري بومدين) زار اليمن بعيد الثورة، وعندما رأى حالة التخلف العميق قال متألماً إن الاستعمار الفرنسي رغم جرائمه في الجزائر إلا أنه يستحق أن يصنع له الذين ثاروا ضده تماثيل! قال ذلك رغم أنه كان أحد قادة الثورة الجزائرية والقائد الميداني الأول لها!
حكاية فرض الانغلاق على اليمن التي حكمها (الإمام) روجوا لها بأنها للمحافظة على الاستقلال.. وما يزال بعضهم يتباهى بذلك حتى أن أحد أحفاد الإمام ؛في حوار صحفي قبل سنتين؛ أعاد التباهي بهذا الأمر واصفاً ذلك بأنه من حسنات (الإمام) رغم أنه في الحوار نفسه امتدح التقدم والتطور والنظام في بعض دول الخليج مقارنة بحاضر اليمن ونكاية في بلده؛ متجاهلاً أن حكام تلك لو كانوا صنعوا مثل جده الإمام لما وجد فرصة لامتداحهم ، فمعظم تلك الدول عرفت حقبة من الاستعمار أو الوصاية الأجنبية.. وفتح حكامها أبوابها ولم يغلقوها بحجة الحفاظ على الاستقلال.. الموهوم!
يملكون الأرض و..البشر!
طبقات الجهل العميق التي فرضتها الإمامة على رعاياها من اليمنيين استندت إلى استغلال مشين للعاطفة الدينية والجهل بالدين لدى العامة.. حتى كان الواحد منهم من فرط تقديسه للإمام وأهل بيته لا يتردد أن يقول عن الإمام أو سيوف الإسلام (ظلمني صلوات الله عليه.. ونهب مالي سلام الله عليه)! وكان منطق أبناء الإمام مع اليمنيين يقوم على قاعدة (هل أنتم إلا عبيد لأبي؟) بل كانوا يبدأون رسائلهم لرؤساء العشائر بعبارة (إلى خدامنا آل فلان)!
ويروى أن الإمام يحيى عندما خرج من صنعاء للمرة الأولى وسافر إلى (دمت) أدهشته المناظر الطبيعية الخلابة في مناطق (خبان) و(عمار) و(دمت) فقال لبعض أولاده (ما عرفنا ما مع الناس إلا اليوم) فأجابوه بأن هناك في (إب) و(تعز) ما هو أوسع وأكثر جمالاً فقال (الله يريح الأولاد)! وهو نفس منطق وفعل الأئمة من آل القاسم الذين حكموا البلاد بعد خروج العثمانيين من اليمن فقد تقاسموها فيما بينهم، وكان الأعلى سلطة يمنح مناطق شاسعة من البلاد لفلان من الأمراء لتكون تحت تصرفه وليكفي بها حاجته وحاجة جنوده!
وفي القرن العشرين؛ كان أولاد الإمام هم أمراء المناطق والوزراء والمبعوثين إلى الخارج والسفراء.. وفي بعض الحالات كان الواحد منهم –مثل سيف الإسلام عبدالله- حاكماً للواء الحديدة.. ووزيراً.. وسفيراً في وقت واحد! وعلى الرغم من أن (الوزارة) يومها كان اسماً على غير مسمى إلا أن أبناء الإمام كانوا يتداولونها فيما بينهم.. ولأن شر البلية ما يضحك فقد كان هناك في عهد الإمام (وزارة للمواصلات) رغم عدم وجود طريق واحد يصلح لسير الحيوانات فضلاً عن الإنسان والسيارات.. وكان هناك (وزارة للمعارف) رغم الجهل المطبق على كل شيء في البلاد.. وكان هناك (وزارة للصحة) رغم أن يمن الإمام والمرض كانا وجهين لعملة واحدة؛ حتى قيل إن (اليمني) يعرف في الخارج من جسده الهزيل ومظاهر المرض في وجهه!.. وكان هناك (وزارة للزراعة) رغم أن علاقة الإمام ودولته بالزراعة كانت مقصورة على نهب المواطنين باسم الزكاة. هذه المهزلة كانت تشكل عقدة كما يبدو في عقول الأئمة.. فبعد ثورة سبتمبر شكل الإمام المخلوع (البدر) وعمه (الحسن) حكومة في المنفى كان فيها للسخرية: وزير للمواصلات ووزير للداخلية!!
قارب يا.. محسنين!
في أواخر سنوات الإمام أحمد وقعت حادثة مضحكة مبكية في آن واحد تفضح عمق التخلف الذي فرضه الأئمة على البلاد باسم الحفاظ على الدين، والاستقلال.. فعندما عاد الإمام أحمد من رحلته العلاجية إلى إيطاليا (لاحظوا فائدة الاستقلال الذي جعله يذهب لمعالجة نفسه في أوربا تاركاً الشعب في جحيم الأمراض المستقل) ووصل إلى ميناء الحديدة القديم لم تكن هناك قوارب متوافرة لتحمله هو والوفد المرافق له من الباخرة إلى الشاطئ كما كان يحدث في العادةبسبب عدم وجود مرسى صالح لرسو السفن؛ فانتظروا وطال الانتظار، وعجز الإمام ملك المملكة المتوكلية اليمنية عن النزول إلى بلاده وشعبه العزيز، وظل محبوساً في الباخرة حتى ضاق القبطان الأجنبي وهدد بالسفر إلى (عدن) وإنزال الإمام والوفد هناك.. ومع اشتداد الأزمة كان الحل هو استخدام قوارب النجاة الخاصة بالباخرة لإنزال الإمام مع جزء من الوفد (كان يضم نساء وأطفال) إلى الشاطئ!
وتخيلوا المشهد: أمير المؤمنين الإمام (أحمد يا جناه) هو وبعض نسائه وأطفاله ووزرائه يهبطون في قوارب النجاة؛ لأن البلاد كلها لم يكن فيها (ميناء واحد) صالح لاستقبال البواخر الحديثة!
عصر.. الحطب!
رغم كل تراث التخلف والانحدار الحضاري الذي كانت عليه البلاد في عهود الأئمة.. إلا أنهم كانوا يخدعون أنفسهم قبل الشعب بأن البلاد متطورة ومتقدمة.. والدين في أمان في حراسة الإمام؛ وعندما كان ولي العهد (البدر) في مصر عام 1955بعد انقلاب الثلايا أطلق تصريحات صحفية بأن (الإمام) سيعمل على تطوير اليمن والخروج بها من العزلة؛ فاستفزت تلك التصريحات الإمام واتهم الأستاذ/ النعمان بأنه وراء ذلك فقال لأحد أصدقاء الأستاذ/ أحمد النعمان وهو القاضي الإرياني (ألا ترى إلى صاحبك يزعم أن اليمن منعزلة وغير متطورة؟).. كما يروي النعمان في مذكراته أنه عندما عاد من مصر خشي من الدس عليه عند أحمد يا جناه الذي كان يرتاب بمن يعود متعلما من الخارج؛ فقام خطيبا وراح يمتدح –بدهاء-نظام الإمام المحافظ على الإسلام والاخلاق والاستقلال، ومستنكرا في الوقت نفسه حالة الفساد والانحلال الأخلاقي والنساء السافرات في مصر.. ويقال إن قوة كلام النعمان جعلت أحمد يا جناه يبكي حرقة على أرض الكنانة!
وبعد أن انقشعت غمة الإمامة راجت عدد من القصص والروايات التي كشفت عمق حالة التخلف الحضاري التي دفن (الإمام) فيها بلاده وشعبه.. وقرأت مرة للأستاذ/ علي الواسعي ذكرياته عن يوم الثورة.. وفي صباح ذلك اليوم كان قد ذهب مثل كثيرين غيره ليستطلع الوضع الذي انفجر في الليل.. ولما عاد إلى المنزل بادرته سيدة من الجيران تسأله عما يحدث فرد قائلاً: (ثورة.. ثورة) فكان أول رد فعل للمرأة اليمانية أن قالت: يعني خلاص سنستخدم الحطب في الطبخ!
كان ذلك في سبتمبر 1962.. بعد أن غزا الإنسان الفضاء.. وصعدت الكلبة (لايكا) على مركبة فضاء روسية لتدور حول الأرض.. لكن شعب الإمام كان يحلم بأن يستخدم الحطب بدلاً من روث البقر لطهي الطعام! وفي نهاية الخمسينيات انتشرت أجهزة الراديو حتى بلغ عددها كما قيل خمسة أجهزة.. وتطوع مالكوها وكان الناس يتجمعون في الطرقات بجوار منازل المحظوظين إعلاميا ليستمعوا إلى الإذاعات من النوافذ المفتوحة!
طغاة و.. أحرار!
طغيان الإمام على شعبه لم يكن إلا تعبيراً أميناً عن نفسيته التي تعدهم أملاكاً وعبيداً له ولأسرته.. فالسجون كانت أشبه بالبيارات يوضع فيها المعارضون من العلماء والمفكرين والأدباء والشباب الواعد.. فإذا اعتقل مجموعة منهم –كما حدث في عام 1944 مع أعضاء جمعية الإصلاح في إب- سيق الرجال الأفذاذ كالماشية من (إب) إلى (حجة) مشياً على الأقدام.. وفي حالات عديدة كان الحكام يطلقون السفهاء ليتطاولوا بالشتائم واللعنات على أفضل عقول اليمن وأشرفها.. ويورد القاضي الإرياني حكاية مؤلمة عن الشاعر عقيل عثمان الذي كان مع الإرياني وعدد من الأحرار الذين سيقوا إلى (تعز) بعد فشل الثورة، وقد استبد بهم الجوع والعطش.. وعند وصولهم إلى (تعز) كان بعض المتعصبين السفهاء يشتمونهم ويبصقون في وجوههم فكان الشاعر الأديب/ عقيل يفتح فمه ليبل لسانه ببصاقهم من شدة عطشه!
وفي سجن نافع الرهيب بحجة رأى الشاعر/ إبراهيم الحضراني السجان يدق (السك) على قدمي القاضي العلامة عبدالرحمن الإرياني فتثور عاطفة الشاعر الثائر فينشد قصيدة مطلعها:
الآن آن لمقلتي أن تدمعا
ولقلبي المحزون أن يتصدعا
حتى يصل إلى وصف ما رآه فيقول:
ويجر رجلاً لو يقاس نعالها
بجبين سيده لكانت أرفعا
بداية وليست نهاية
السطور السابقة كانت مقدمة ضرورية لما نعتزم بإذن الله تع إلى أن نبسطه أمام القراء في الأسابيع القادمة.. وهي قراءات نقدية في تاريخ الإمامة الهادوية ومذهبها وأئمتها وسيرتهم السوداء. والمناسبة ليست فقط الذكرى الخمسين لسقوط دولة الإمامة ولكن ما يبدو أنه مقدمة لإعادة بناء مشروعها من جديد.. وللأسف الشديد فإن ذلك يجري بصمت وتواطؤ من جزء مهم من القوى الوطنية ليس حباً في (علي) ولكن نكاية في غيره..
وطالما أن (دولة الإمامة الجديدة) صارت مشروعاً سلطوياً ومجتمعياً قادماً، ويحق له حتى أن يضع أجندته على المائدة في مؤتمر الحوار الوطني.. فتقليب صفحات تاريخ الأئمة ومناهجهم صار واجباً ضرورياً؛ فسنوات الأئمة الجمهوريين طغت على عهود الأئمة الملكيين حتى كاد الناس ينسون القديم.. وحتى طغت الأكاذيب والتزويرات التي تتعمد تزيين باطل الأئمة الملكيين وظلمهم وترديد الأكاذيب عن عهدهم لتمرير مشروعهم الجديد..
فانتظرونا.. وادعوا لنا بالتوفيق..