آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

قراءة في تاريخ الهادوية: الحكام والمذهب (1)

(1)

على مدار التاريخ الإسلامي؛ لا يكاد يخطر بالبال أنموذج الحاكم وإمام مذهب مؤسس في وقت واحد إلا في حالة الإمام الهادي يحيى بن الحسين المنتسب ؛ هو وأتباعه فيما بعد؛ للإمام زيد بن علي، والمؤسس للدولة الهادوية والمذهب الهادوي في جزء من اليمن.

وفي ظننا أن هذا الامتزاج أو التوحد بين السلطان الحاكم وواضع مذهب ديني في شخصية واحدة قد أنتج إشكالية سياسية ودينية ونفسية عويصة؛ يمكن ملاحظتها في تلك القداسة المفرطة التي يضفيها أتباع الهادي عليه، وصار انتقاده ورفضه –كحاكم أو سلطان أو ملك- إساءة بل جريمة في حق المذهب وتطاولا على الهادي: الإمام العالم سليل آل البيت، وهو أيضا يصير إساءة لمشاعر أتباعه الدينية وهويتهم المذهبية! ولا شك في المقابل أن الخروج أو رفض فكر الهادي صاحب المذهب؛ أثناء سلطان أتباعه وهيمنتهم على جزء من اليمن ؛ كان يعني بالضرورة للدولة والأتباع مسا بالدولة وتهديدا لهويتها، وخاصة إن جاء ذلك من داخل الدائرة المذهبية.

إشكالية هذا التوحد بين الإمام المؤسس والأئمة/ الحكام والمذهب الهادوي يمكن ملاحظتها–أيضا- في حالات الانزعاج الشديد والغضب المذهبي الذي يسيطر على مجاميع من أتباع الهادي ؛وخاصة من كان منهم منتميا للسلالة العلوية وما يزالون يعتقدون بحقهم الإلهي في السلطة؛ مما تعرض له تاريخ النظام السياسي للأئمة بعد ثورة سبتمبر من نقد قاس ورفض شامل صدر من أبناء اليمن؛ بما فيها المناطق الجغرافية المعروفة تاريخيا باسم اليمن الزيدي.. ولعل كثيرين ما يزالون يتذكرون كيف كانت تنتفخ الأوداج وتلمع العيون شررا عند المشار إليهم ؛في نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات وحتى اليوم؛ كلما تناول الكتاب والباحثون بالنقد عهود الإمامة والفكرة المذهبية للسلطة الذي قامت على أساسها دولة الأئمة، والأضرار النفسية والاجتماعية والدمار الحضاري الذي ألحقوها باليمن واليمنيين طوال زمن حكمهم.. وهم لا يستثنون من غيرتهم حتى المشهورين من الأئمة بسفك الدماء واضطهاد مخالفيهم كفعل أمثالهم من الملوك الجبابرة الطغاة؛ كالإمام/ عبدالله بن حمزة والمطهر بن شرف الدين وأمثالهما من الذين كانوا وبالا على اليمن واليمنيين وحتى أتباع المذهب ذاته.. فهؤلاء المشار إليهم سرعان ما يصير نقد ورفض استبداد الأئمة وجرائمهم نقدا ورفضا للمذهب الزيدي والزيدية وأبناء البيت النبوي!

وللاحتراز الواجب؛ فليس كل أتباع المذهب الهادوي يرون في نقد ورفض عهود الأئمة والتنديد بها إساءة للمذهب؛ لكن الفئات التي ارتبط في فكرها وعقيدتها أن أئمة الدولة يجسدون المذهب والفكرة، وتجسد تقديسهم في النفوس.. هؤلاء هم الذين يجدون في ذلك إساءة للمذهب، ويجعلون منها مشكلة مجتمعية وسببا لتوتر طائفي وسياسي يتمترسون به خلف مقولات مذهبية ودغدغات لمشاعر البسطاء؛ دفاعا عن ممارسات سياسية، وأفعال سلاطين وملوك كانت السلطة والحكم محور حياتهم أكثر من الدين والمذهب! ويمكن القول أيضا إن صراع الأئمة الطويل مع الدول الأخرى؛ يمنية أو غير يمنية؛ قد اكتسب بذلك وبحرص منهم على سمة الحرب الدينية المقدسة التي يقاتل المؤمنون فيها كفار تأويل؛أو خارجين عن الدين ومعادين له أو متمردين على أحكامه رافضين لها؛ وليس خصوما سياسيين إن جاز التعبير؛ طالما أن الجميع ينتمون لدين واحد ولا طرف منهم يعلن غير ذلك.. تأسيا بالإمام علي بن أبي طالب الذي رفض وصم خصومه في حربي الجمل وصفين بأنهم كفار، وأصر على أنهم (إخواننا بغوا علينا)، وحتى الخوارج الذين كفروه رفض وصمهم بالكفر قائلا عنهم: (من الكفر فروا)!

هذه الثمرة المرة للتوحد بين الحكام والمذهب لا تبدو مضطردة في دول إسلامية كثيرة في التاريخ الإسلامي وخاصة في اليمن؛ فلا أحد يسحب أخطاء حكام الدولة الأموية على مذهب ما، ولا أحد يجد أن نقد أو رفض الدولة العباسية إساءة لمذهب ما.. ولا أحد في اليمن يغضب مذهبيا ويشعر بإهانة دينه وهويته إن تعرضت الدولتان الرسولية والطاهرية أو ما سبقهما من الدول؛ التي كان حكامها أتباعا لمذاهب سنية؛ إلى نقد أو تنديد بأخطائها أو جرائم رموزها ضد اليمنيين! وحتى عندما سقطت تلك الدول وزال سلطانها؛ لم يترسخ في الشعور الجمعي للناس أن ذلك مؤامرة على المذهب وإساءة للدين.. ولم يتعرض نفوذ المذهب في نفوس أتباعه إلى التضعضع أو انصرفوا عنه؛ رغم أن الحكام التالين كانوا أحيانا على مذهب آخر.. وبعض التالين حاولوا توسيع نفوذ مذهبهم، وفرضوا بعض شعائره وألزموا الرعية المخالفة لهم مذهبيا بأحكام مذهبهم؛ كما فعل الأئمة بدءا من فرض نظريتهم في الحكم وحصر الإمامة في البطنين على مناطق سنية لم تكن تؤمن بصوابية ذلك، ومثل فرض صيغ معينة من الشعائر والقوانين المتحاكم إليها!

(2)

وعلى العكس مما سبق؛ يمكن ملاحظة أن الدول التي توحد فيها الحكام بالمذهب، واستندوا لتنظيرات أو شروط مذهبية في توليهم السلطة، واجهت انحسارا هائلا في نفوذها المذهبي متزامنا مع ضياع ملكها (أنموذج: الدولة الصليحية) أو تقلص تأثيرها المذهبي(أنموذج الدولة الهادوية) الذي يعود جانب غير قليل منه ليس إلى الحرب المزعومة ضده بل إلى حالة الاهتراء الحضاري والتخلف والجهل التي صارت عليه الدولة بدءا من عهد الفوضى ؛ قبل عودة العثمانيين في القرن التاسع عشر؛ وحتى عهد بيت حميد الدين الذي سقط بقيام ثورة سبتمبر. وربما كان ذلك المصير ضريبة لازمة لتوحد الدولة بالمذهب، وتبادلا للسلبيات والمنافع بين الطرفين: السلطة والمذهب. فكما استفاد المذهب من كون الحكام هم أئمة المذهب في الظهور والتوسع والبقاء؛ فكذلك كان طبيعيا أن تنعكس بقدر أو بآخر ممارساتهم السلبية وأخطاؤهم وجرائمهم في حق الرعية على المذهب وتؤثر على نفوذه وتعلق الناس به. ومن نافلة القول إن المذهب الهادوي دخل اليمن مع قدوم الهادي: حاكما ومؤسسا لمشروع سياسي ودولة تحكم وفق مذهبية عقائدية معينة، ولم يدخل -أي المذهب- كرؤية علمية ومذهب فقهي لا علاقة له بمن يتولى السلطة. ولأن الامر كذلك فقد ارتبط دخول المذهب الهادوي بالسلطان والسيف؛ بل لم تقم له قائمة حقيقية إلا بعد فترات زمنية طويلة من الصراعات الدموية لفرض سلطة الإمام، وتجسد وجوده في البداية في رجل وأهل بيته: حكاما لكيان سياسي جديد في اليمن يمتد نفوذه ويتقلص بين الحين والآخر، ويخوض حكامه حروبا طاحنة دامية مع منافسيهم من داخل البيت العلوي، ومع الحكام الآخرين المنافسين لهم في سائر اليمن؛ حتى صار عامة تاريخ اليمن بالأئمة الهادويين؛ وأمثالهم من السلاطين والملوك، والآخرين القادمين من الخارج كالأيوبيين والمماليك والعثمانيين؛ تاريخا ملطخا بالدماء والقتل والدمار والتآمر: صراعا على السلطان والنفوذ عانى منه اليمنيون كما لم يعان شعب آخر!

(3)

من اللازم التنبيه إلى أن هناك فارقا بين توحد الحكام بالدين والمذهب بحيث يصير الطرفان شيئا واحدا في القداسة والحصانة، وبين أن يكون هناك انتماء ديني أو سمة دينية للدولة، ففي الحالة الثانية لا يستلزم الأمر أن يكون الحاكم ذا قداسة دينية خاصة، ويكون الحكام في نظر الرعية مجرد سلاطين وملوكا يحكمون بالقوة، ولا يجد الناس لهم حقوقا إلهية لحكمهم ترتبط بنصوص دينية تغرس في النفوس تلك الحقوق وتجعلها جزءا من واجبات التدين والشروط الموجبة لرضا الله أو عقابه.

وأما في الحالة الأولى فيصير الحاكم مقدسا دينيا، ومعارضته إثما وخطيئة ولو كانت في قرارة النفس! ومثال ذلك كان موجودا في الدول الدينية النصرانية، وفي الدول الشيعية الغالية كالدولة الفاطمية.. لكن الدولة الهادوية في اليمن رغم توحد الحاكم بالمذهب وفرض طاعته التامة ظاهرا وباطنا؛ إلا أن هناك فوارق كبيرة مقارنة بالدول المذكورة.. فالحاكم/ الإمام في المذهب الهادوي لا يكتسب –نظريا- السلطان فقط بالانتماء السلالي ولا بد له من توافر شروط مشددة منها الدعوة لنفسه بالإمامة، كما أن الخروج عليه –نظريا- جائز إن انحرف عن الجادة، لكن كل ذلك ظل في معظم العهود أمرا نظريا لا يعترف به إمام ولا أتباع مما أقحم المتنافسين والرعية في حروب مستمرة. وربما كان السبب؛ بالإضافة إلى الطبيعة البشرية؛ إلى أن النظرية السياسية للإمامة الهادوية–كغيرها من النظريات القديمة - لم تقدم آليات عملية لتحقيق ذلك يلتزم بها الجميع بتأثير الزمان وواقع التطور البشري يومها؛ الذي احتاجت الإنسانية إلى مدى طويل جدا لتنجح في توفير الآليات والضمانات الموجودة الآن في النظم الديمقراطية الراسخة التي تنظم عملية الوصول إلى السلطة والخروج منها سلميا، وتجعل إزاحة الحاكم؛ أو إجباره على التنحي؛ عند مخالفته للقوانين أو فشله أمرا لا يحتاج إلى حروب دموية أو مؤامرات أو ثورات شعبية.

وبصورة عامة ورغم القداسة الدينية التي كان الأئمة يتلبسون بها، ويتوسلون لذلك بالمذهب؛ إلا أنها تكاد تنحصر في العامة والمتعصبين مذهبيا من غير المؤهلين للإمامة؛ بدليل أن الثورات ضد الأئمة جاءت في أحيان كثيرة من داخل البيت العلوي نفسه وبدعاوى من المذهب نفسه، وأخفقت النظرية الهادوية في جعل المتنافسين على الحكم يلتزمون ببنودها، وصارت القوة والقدرة على الحشد المادي والمالي وتجنيد المقاتلين هي العامل الحاسم في تحديد اسم الإمام، وفشلت شخصية مثل أحمد بن يحيى المرتضى في تولي الإمامة رغم أنه يمكن القول إنه المؤسس الثاني للمذهب الهادوي!

(4)

من المهم أن نعرف أن الأفكار وخاصة الدينية لا تموت وإن خفت صوتها ووجودها المادي، ولأن الإمامة فكرة دينية ؛بصرف النظر عن صوابها أو عدم صوابها؛فحالها كحال أي فكرة أخرى فضلا عن أنها تستمد حياتها من معين ديني يستحيل محوه من الوجود. وكل الدول المذهبية التي ظهرت في تاريخ الإسلام ماتزال موجودة في الرؤوس والأطماع والكتب؛ فالدولة الفاطمية العبيدية وأشكالها التي ظهرت بها في التاريخ الإسلامي (كالقرامطة في اليمن والبحرين) ما تزال تتجلى في طوائف وتجمعات بشرية منظمة قد لا تكون قادرةعلى أن تظهر أهدافها الحقيقية؛ إلا أنها في الأخير لن تتردد في إعادة إحياء دولتها المقدسة إن سنحت لها الفرصة! والدولة الهادوية التي سقطت في سبتمبر 1992 انتهت ككيان سياسي حاكم؛ لكن أساسها الديني والمذهبي والفكري بقي موجودا في الكتب والمؤلفات وفي النفوس والعقول التي تؤمن بأنها دين تُسأل عنه، ولا بد أن تعمل لإعادتها إلى حياتها بأي طريقة!

والحركة الحوثية ليست بعيدة عن هذا، وليس من المعقول أن نصدق أن كل هذا الذي يحدث في صعدة وغيرها هو مجرد افتتان بشعار الموت لأمريكا وإسرائيل واليهود ثم العودة لتناول القات ومشاهدة قنوات آل البيت.. الأمر أكبر من ذلك بالتأكيد فهو ببساطة فكرة الحق الإلهي أو فئة من الناس تؤمن أن حكم المسلمين هو حق إلهي لها ومقصور عليها، والإيمان به من أساسيات الدين!

ولأننا معنيون بتطورات الظاهرة الحوثية التي تسعى لحكمنا بمفاهيمها المشهورة عنها؛ فمن حقنا أن نقول رأينا ونبصر إخواننا في الوطن بتاريخ فكرة الإمامة وتاريخها ورموزها، وحتى يكون كل شيء واضحا للجميع!

زر الذهاب إلى الأعلى