[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

المحور الإيراني ومآلات التوافق مع الأميركيين

عاد رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي من نيويورك والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة بانتصاره علينا وعلى سائر العرب، لأن الأميركيين، وعلى رأسهم الرئيس أوباما، استقبلوه استقبال الفاتحين، وأثنوا على سياساته في النأي بالنفس، وتحقيق الاستقرار وسط تأجج الأزمة والمذابح في سوريا.

وبلغ من إحساسه بالنصر أنه استقبل السفيرة الأميركية لدى لبنان التي صرحت علنا على بابه بأن حكومته (التي شكلها حزب الله والأسد وجنبلاط وفيلتمان الذي كان مساعدا لوزيرة الخارجية الأميركية، وصار قبل شهور مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة) باقية لإجراء الانتخابات النيابية التي ستجرى في موعدها! وقد كان لسان حاله يقول: إذا كان الأميركيون راضين عن حكومتي وعن علاقتي المستمرة ببشار الأسد، فلماذا أنتم غاضبون أيها العرب والمسلمون؟!

لكن كان من سوء حظه أمران: بدء انكشاف هول الدور العسكري الذي يمارسه حزب الله في سوريا منذ أكثر من عام. والوثائق التي تنشرها فضائية «العربية» عن دور أو أدوار الحزب والأجهزة اللبنانية والنظام السوري في الاغتيالات وعمليات القتل بلبنان منذ سنوات وحتى الآن، وآخرها قتل الشيخ عبد الواحد وزميله على حاجز للجيش اللبناني بعكار قبل ثلاثة أشهر، واغتيال النائب جبران التويني رئيس تحرير جريدة «النهار» عام 2005. فمنذ عام على وجه التقريب، بدأت الأحاديث السرية والعلنية عن قتلى لحزب الله في سوريا في مواجهة الثوار، يؤتى بهم إلى البقاع ويدفنون سرا. لكن قبل أسبوعين تمكن الثوار السوريون من اصطياد أحد قادة كتائب الحزب في نواحي «القصير» بين حمص والحدود اللبنانية - السورية. وقد أنكر الحزب الواقعة يومها، ثم غير سياسته هذه فجأة عندما شيَّع علنا قتيلا آخر في جنازة حافلة بجنوب لبنان بحضور وكيل خامنئي، وقيل إن الرجل استشهد أثناء قيامه بواجبه الجهادي! والواضح من وراء ذلك أن الحزب واجه التذمر الذي شاع في أوساط الطائفة الشيعية، بالإعلان عن أن هناك «فتوى» من مرشد الثورة بضرورة «الجهاد» في سوريا، وعلى كل «المقلدين» للمرشد (ومن ضمنهم الجنرال عون وميقاتي فيما يبدو!) أن يخضعوا للفتوى ويسكتوا! وعندما كان الانكشاف القاهر يحدث كان ميقاتي ووزير خارجيته عدنان منصور يصمتان صمتا مطبقا فلا يقولان شيئا عن مآلات النأي بالنفس، وكيف يلاحق الجيش، وتلاحق الأجهزة العسكرية، هذا الشاب أو ذاك (ومن ضمنهم الشيخ عبد الواحد وشادي المولوي ومئات آخرون) بحجة أنهم يهربون السلاح إلى سوريا أو يؤوون الثوار السوريين! بينما يذهب ألوف من مقاتلي حزب الله إلى سوريا للقتال ويعودون أحياء وأمواتا دون أن يحرك أحد ساكنا، في حين يُلاحَق آخرون خطبوا أو تظاهروا أو أظهروا التضامن مع جريح أو نازح من سوريا! والطريف لكن غير الظريف أنه ولعدة أشهر ظل مدير الأمن العام اللبناني يفخر بأنه يتعاون مع المخابرات الأميركية والسورية في تتبع وملاحقة أفراد من «القاعدة» دخلوا من سوريا إلى لبنان، أو من لبنان إلى سوريا. وما ترك سفير غربي مناسبة يومها إلا وشهر لسانه علينا بحجة عدم تقدير سياسات الحكومة العتيدة في النأي بلبنان عن الحرب والثورة في سوريا؛ بينما لم يقل أحد منهم شيئا حتى الآن عن آلاف المقاتلين من حزب الله الماضين إلى سوريا للقتال إلى جانب الرئيس الأسد، وعن ثلاثين شابا وأكثر سقطوا على الحدود وفي مزارعهم برصاص الجيش السوري! وعن أكثر من ثمانين ألف نازح من سوريا نفخر نحن وحدنا بمقاسمتهم المأكل والمسكن والمدرسة والعلاج!

في عام 2010 كان الرئيس الأميركي أوباما قد بدأ تنفيذ وعده الانتخابي بالانسحاب من العراق. ووقتها انعقد الاتفاق بين الطرفين الأميركي والإيراني على عدم التعرض للقوات الأميركية أثناء انسحابها، في مقابل تعيين المالكي الموالي لإيران بالتجربة رئيسا للحكومة بالعراق. ووقتها أيضا أعيد السفير الأميركي إلى سوريا. ووقتها أيضا وأيضا جرى الانقلاب على حكومة سعد الحريري، وإقامة حكومة اللون الواحد بلبنان برعاية الأسد ونصر الله وفيلتمان. ما تغير شيء في هذا الاتفاق إلا بعد قيام ثورات الربيع العربي، ومن ضمنها الثورة السورية. وقد استمات الأميركيون للوفاء بتعهداتهم (تجاه إيران)، وتجاه أمن إسرائيل، وتجاه النظام السوري. لكن الأسد لم يصغ لشيء، لعتوه من جهة، وللدعم المطلق الذي تلقاه من روسيا وإيران ومحورها. وقد بدأ دعم المالكي للأسد قبل دعم حزب الله، وبالمال والرجال، وبعمل الجنرال سليماني قائد فيلق القدس. وأقبل ميقاتي على المعاونة بقدر ما استطاع، بالمال، وبغض النظر عن عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية في الضغط على أهل السنة من داعمي الثورة السورية بشمال لبنان من طريق القبض والمتابعة، ومن طريق إثارة الاضطراب من جديد بين بعل محسن وباب التبانة.

وعندما ما عاد ذلك ممكنا لظهور الفضيحة، واستنكار موقف لبنان بالجامعة العربية والأمم المتحدة، أعلن ميقاتي ووزير خارجيته عن سياسة النأي بالنفس التي ما كان لأحد اعتراض عليها لو أنها كانت حقيقية. فمن الطريف أنه عندما دعا رئيس الجمهورية للعودة للحوار الوطني، صدر عن أول اجتماعاته بيان يقول بالحياد وبعدم التبعية للمحاور. وهذا الذي كان الملك عبد الله بن عبد العزيز قد دعا اللبنانيين إليه في رسالته الشهيرة إلى رئيس الجمهورية التي ندَّدت بالضغوط التي تمارس على أهل السنة! إنما عندما كان ممثل حزب الله في الحوار يوقع على البيان الشهير، كان مئات المقاتلين من حزب الله (الذين صاروا ألوفا) يتدفقون على الجبهات بالداخل السوري بعد أن تجمعوا على الحدود بين البلدين عند سلسلة جبال لبنان الشرقية، ومن ناحية الهرمل!

ماذا كانت ردة فعل الأميركيين، وقد عرفوا كل ذلك من أول يوم بواسطة استخباراتهم وأقمارهم وجواسيسهم؟ ما قالوا شيئا باستثناء أحاديث غامضة عن تهريب الأموال وغسلها لصالح إيران والنظام السوري، ومن العراق ولبنان. وصرفوا انتباهنا أسابيع وأشهرا بالحملات على الإرهابيين و«القاعدة» والأسلحة الكيميائية... إلخ. وإذا كان السبب واضحا في العراق لأنهم لا يريدون زعزعة المالكي أكثر مما هو مزعزع؛ فلا تعليل للصمت الأميركي والإسرائيلي عن تدخل حزب الله العسكري في سوريا، إلا أنهم أرادوا إنهاك الحزب بهذه الطريقة واستنزافه، والمزيد من نشر النزاع بين الشيعة والسنة، بحيث يلتهون ببعضهم قبل سقوط النظام السوري وبعده، فلا يبقى خطر على إسرائيل في المدى المنظور - وتقوم الفتنة، والإنهاك الذي يصيب الجميع بالوظيفة نفسها التي كان يقوم بها النظام السوري تجاه إسرائيل في حقبة سيطرته واستتبابه!

لكن لماذا وقع حزب الله ووقعت إيران في هذا الفخ؟ لقد اعتقدوا أن المحور الذي أقاموه بمعونة الأميركيين سيكون خالدا، وما حسبوا هم ولا الأميركيون حسابا لإمكان الثورة واحتمالاتها. وعندما وقعت انتقل الأميركيون والإسرائيليون إلى مواقع الاستغلال، بينما سقط الإيرانيون والمالكي وحزب الله في شرك الحفاظ على السلطات والمكاسب. فالمحور مترابط بطريقة مصيرية، وإذا سقط الأسد ازداد المالكي تزعزعا وضاع حزب الله وسط الجمهور الحاشد.

ويختبر أهل المحور الآن إمكانياتهم القصوى لسحق الثورة قبل ظهور نتائج الانتخابات الأميركية؛ ولذا فهناك مذابح فظيعة أخرى متوقعة خلال هذا الشهر والشهر المقبل. ولن تخمد الثورة كما لن ينجح الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والعراقيون واللبنانيون بالطبع في إبادة الشعب السوري. لكن الحلفاء الموضوعيين لنظام الأسد، وهم الإسرائيليون، سيكونون الأكثر إفادة، لتعمق الحساسيات والمرارات والثارات، وربما انتشار الفوضى والتطرف. فهنيئا لميقاتي والمالكي رضا الإيرانيين والإسرائيليين.. والأميركيين والروس والصينيين عنهم، وغضبنا نحن العرب والمسلمين عليهم:

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى
وتبقى حزازات النفوس كما هيا

زر الذهاب إلى الأعلى