قليل هم أولئك الفنانون المبدعون، سواء في بلادنا أو في الوطن العربي الذين يستحقون لقب "فنان الشعب" وفقيد الوطن الفنان الكبير محمد مرشد ناجي واحد من هؤلاء القلائل الذين يستحقون هذا اللقب بجدارة ليس لدوره في تهذيب الوجدان اليمني، وتجديد الأغنية اليمنية والكتابة عن مشاهير الغناء في هذا البلد، وحضوره البارز في الحياة الفنية والثقافية على مدى ستين عاماً فحسب؛ وإنما بوصفه كذلك واحداً من المناضلين الوطنيين الذين تصدوا للاحتلال الأجنبي وللطغيان المحلي، وأسهم في الحياة السياسية بدور مشهود، وكان بحق مدرسة في الفن والوطنية ونبذ التعصب. وقد زاده الفن الرفيع الذي ملك عليه مشاعره منذ صباه تسامحاً ومحبة للآخرين.
في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات بدأت أستمع إلى أغاني المرشدي، كانت مختلفة، صوت جميل وطريقة أداء مختلفة واهتمام باختيار الكلمات ولا يتردد في غناء القصائد الفصحى خلافاً عن الفنانين الآخرين الذين كانوا يرون في قراءتها وفي غنائها قدراً من الصعوبة، فضلاً عن اعتقادهم أنها لا تصل إلى الجمهور.
ومنذ البداية أحسست وأنا أتابع أغانيه أنني أمام فنان باذخ الموهبة، يؤلف ويلحن ويغني ويشارك في القضايا الوطنية بالأفعال لا بالأقوال فقط، وكان لكتابه الأول (أغانينا الشعبية ) أثر كبير في توضيح صورته الأخرى كمثقف وكاتب يعنى بشؤون الفن كما يعنى بالقضايا العامة. وقد التقيته وجهاً لوجه بعد قيام الثورة (سبتمبر وأكتوبر) وتكررت لقاءاتنا إلى أن تحولت إلى صداقة عميقة وشعور تام بوحدة الرؤية تجاه كثير من القضايا الوطنية والفنية. وقد حمل إليّ ذات يوم بتواضع جم كتابه (أغانينا الشعبية) لكي أراجعه وأكتب مقدمته وقد أذهلني بالإضافة إلى تواضعه حبه العميق للمعرفة وشغفه في الاستزادة من ينابيع الثقافة الأدبية والفكرية والفنية. وعندما تجلس إليه تشعر أنك أمام موسوعة ليس الفن سوى واحد من مكوناتها المتعددة.
ومن العيوب التي تلتصق عادة بالفنانين أنهم أنانيون، وأن علاقتهم ببعضهم ليست على ما يرام لكن المرشدي بمواقفه وعلاقته الحميمة بالوسط الفني والأدبي يؤكد ويرسخ عكس ذلك التصور، فقد كان مثالاً للإيثار والترفع عن الصغائر لذلك فقد كان محبوباً من الجميع وإذا وجد من يشذ عن هذه القاعدة فما هو إلاّ من (سقط المتاع) حسب العبارة التي تتساوى مع عبارة أخرى هي (لا في العير ولا في النفير)، وقد حافظ المرشدي على هذه الصفات النبيلة، صفة الإيثار والابتعاد عن المشاحنات والمنافسات التي تسود المناخ الفني عموماً وتأخذ كثيراً من أوقات الموهوبين وتقلل من مكانتهم في المجتمع، ولا مكان هنا للمقارنة أو الخوض في أمور يعرفها كل من هو على صلة وثيقة بالوسط الفني المحلي والعربي.
وفي آخر مرة رأيت المرشدي فيها لفترة قصيرة أدركت أنه يعاني، ويشعر وفي الفترة الأخيرة بالذات أنه لم يجد ما كان يستحقه من عناية وإنصاف. وإذا كان ذلك قد حدث في حياته فأتمنى أن لا يحدث بعد مماته، فالمرشدي بالإجماع علم من أعلامنا الوطنية والأدبية والفنية، وسيمر وقت طويل قبل أن تحظى البلاد بمن يساويه في موهبته الفنية، وثقافته وخلقه، وأهم ما ينبغي اتخاذه عاجلاً إطلاق اسمه على أحد الشوارع المهمة في العاصمة وإطلاق اسمه أيضاً على قاعتين كبيرتين في كل من جامعة عدن وجامعة صنعاء. أما آجلاً فالعناية بآثاره الأدبية والفنية وتسمية أحد المعاهد الموسيقية بمعهد المرشدي للموسيقى وأتمنى أن يكون مقره في العاصمة صنعاء، إلى ما يمكن أن يقترحه آخرون من تلاميذه ومحبيه وهم كثر يتوزعون على مستوى اليمن كله.
الشاعر مروان كمال في "ثغثغة دامية":
هذا هو ديوانه الثاني بعد "ضجيج عزلة". ومروان كمال شاعر مشاكس بكل ما للكلمة من معانٍ إيجابية تتجلى في مشاكسة الواقع الراكد الذي لا يتحرك إلاّ لكي يعود إلى الركود، ومشاكسة اللغة التي ظلت تمضغ ذاتها وتكرر تعابيرها دون جديد، وهو يوزع الكثير من مشاكساته على نفسه وأصدقائه، ويشاكس الشعر والنثر. وهذه المشاكسات هي التي منحت شعره التدفق وأعطته المستوى الحار من الحيوية. فتحت الديوان صدفة فقابلتني العبارة الآتية: "كيف أقرب الصلاة وأنا سكران بحزني 24 ساعة؟!" للديوان إهداء طويل ومثير، ومقدمة بديعة بقلم أستاذ الشعراء المشاكسين ورائدهم فتحي أبو النصر. والديوان من إصدارات دار سنابل القاهرة.
تأملات شعرية:
صمتت آلات الموسيقى
وتجرّح آخر لحنٍ في شفةِ العود
بكتْ الريشةُ حزناً
وتحولت الكلمات عيوناً دامعة
وصلاة خاشعة
ووداعاً مغموراً بالآهات.
يا هذا:
لا تأنس لحياة مهما طالتْ
وابتسمتْ.
ما دام الموت المتربص
آتٍ آتْ.