أرشيف الرأي

سطور في رحيل عوض بانجار

طرح قرآني فذ وقوة روحية واسلوب علمي رصين مع دعابة لماحة متزنة وانتماء تنظيمي بيّن خمس سمات ميزت خطاب وسلوك الشيخ عوض بانجار الذي غادر دنيانا الأحد السابع من ابريل 2013م بعد معاناة طويلة مع المرض،حياة حافلة بالإيجابية المجتمعية . شرفت بإجراء ثلاثة حوارات صحفية معه في فترات متباعدة ،من خلالها ومن خلال معرفتي به اسجل هذه الوقفات العشر عرفاناً بجميل هذا الرجل الاستثنائي ونشراً لمناقبه الحسنة التي هي مثال للإقتداء :

الميلاد والنشأة :
ولد الشيخ عوض محمد بانجار في مدينة العلم الساحلية غيل باوزير بساحل حضرموت في جماد الآخر من سنة 1366ه الموافقة لسنة 1946م .كانت نزعة التدين ترافقه منذ صغره وكان يرافق ابيه الحافظ للقرآن في غدوه للمسجد وفي رواحه .تلقى تعليمه في مدارس بلدته غيل باوزير حيث درس بها الأساسية والوسطى والثانوية ،وكان تخرجه من الثانوية سنة 1967م وكان يؤم الناس بمسجد الثانوية في صلاة التراويح ،درس بالمدرسة الوسطى الشهيرة بالغيل،((حتى و أنا في الوسطى كتاباتي الانشائية لها طابع ديني حتى كان المدير محمد سعيد مديحي لا زال مديراً للمدرسة حتى اليوم ولو تسأله يعطيك خبر)) يُحدثني ،درس الفقه على المذهب الشافعي على يد الشيخ سعيد عمر باوزير بالمكلا ودرس في حلقات الشيخ سعيد محمد بالرعية في الفقه وعلوم أخرى .وبعد سنوات في التدريس التحق بكلية التربية التابعة لجامعة عدن الكائنة بمدينة المكلا وتخرج منها بشهادة دبلوم عالي بمعدل نهائي 98% تخصص لغة عربية وكان الأول على شعبته ، وحُرم من مواصلة الدراسة لنيل البكلاريوس من قبل سدنة النظام الحاكم حينها ،قال لي رحمه الله :(( حتى اذا جاء موعد البكلاريوس عام 1981 كان لنا حق الأولوية بحكم انتهاء فترة الخدمة (14 عام) في ذلك الوقت وترتيبي في الشعبة لكن الحكم الشمولي في ذلك الوقت منع المواصلة على لسان .... مدير عام التربية في ذلك الوقت الذي قال نحن نؤهل مدرسين يدرسون كما نريد وأنت لا تدرس كما نريد،ولكن الحمد لله بالاجتهاد الذاتي بلغنا عطاء أكثر من البكلاريوس،برغم العناد الشيوعي ))كان بانجار قد عُرف باسلوبه في التدريس لا بل وتعرض للاعتقال بسبب خطابه وسنأتي لهذا .

حكى لي رحمه الله قائلاً : ((ساعدني في تعليمي ملكة اللغة والاطلاع والتدقيق وكان لي بحمد الله لسان سؤول وقلب عقول ،فكنت أجالس العلماء و أسألهم عن ما خُفي علي،فالعلم هو وهبي وكسبي ((و أتيناه من لدنا علما)) ..ويضيف (( إلى جانب النزعة لتعلم العلوم الشرعية والثقافة الإسلامية ،وجدت الموهبة والحمد لله والذاكرة مع توفيق من الله سبحانه وتع إلى لأنالانسان يحس أن الله سبحانه وتع إلى له عطاءات في العلم وعطاءات في القوة وعطاءات في الذكاء ،يظن بعض الناس أن عطاء الله سبحانه وتع إلى يقتصر على الناحية المادية ،ولكن الله سبحانه وتع إلى يقول ((فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)) ويقول ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا )).

تزوج في سن مبكرة ورزقه الله من الاولاد عشرة،سبع بنات وثلاثة ذكور،رحل أكبرهم محمد غرقاً في البحر،رحمه الله،وقد ناهز الأربعين عاماً .

العابد القانت :
روحانية لافتة يلمسها المستمع ويجد أثرها في خطاب الشيخ عوض بانجار وهذا توفيق من الله اولاً ثم إقبال منه على العبادة بأنواعها صلاة وصيام وتدبّر وتلاوة لكتاب الله مع مثابرته في حقل الدعوة ما وسعته الحيلة وتوفرت له الصحة.أسر لي في آخر مرة جلستُ فيها إليه في بيته العامربمدينة غيل باوزير،كان السر غير قابل للنشر وهو على قيد الحياة،أما وقد غادرنا إلى الدار الآخرة عن ثمان وستين عاماً زاخرة بالعطاء الدعوي والمجد الروحي ،غادر بنفس مؤمنة طيبة مطمئنة بإذن الله ،فرحة بلقاء ربها ومولاها الكريم ذي الفضل والإنعام ، فإنّ من المهم أن اقدم هذه المعلومة من باب ذكر محاسن موتانا وكمعلم مهم غائب في حياة معظمنا وهو شرفنا في الواقع كمؤمنين إن حزناه،إنّه قيام الليل،لقد كان رحمه الله يقوم معظم الليل ويجد في النهار فرصة لينال جسمه قسط من النوم،دأب على هذا منذ نهاية الدورة البرلمانية في ابريل 2003م حيث تفرغ للدعوة وللعبادة الصِرفة.

القرآني الإنبعاث :
كان ابيه يحفظ القرآن ،وكان لهذا تأثير حاسم في شخصيته،لقد حفظ القرآن الكريم حفظاً متقناٌ تلمسه من خلال سرده لنصوصه وكأنه مفتوح امامه .حينما تسمعه يرتله في الصلاة يقرأه وكأنه مُفسّر،كان يتفاعل معه ايما تفاعل ،وقد كان يقوم به الليل،كان طرحه في محاضراته وكتاباته يستند إلى نصوص القرآن ويرتبه ويسلسله على هذا الأساس.كان خلقه الخلق القرآني الرفيع .كان دستوره القرآن والقرآن دستوره .اهتم بشرحه وتفسيره في درسه بمسجد باحميد بمدينة غيل باوزير ودرسه بعد الفجر لزملائه في كتلة الاصلاح بمجلس النواب القادمة من حضرموت .

الأستاذ المثابر :
بعد تخرجه من الثانوية عام 1967 عمل مدرساً ست سنوات في المدرسة الوسطى قلعة العلم الشهيرة بغيل باوزير .وعاد للتدريس بعد دراسته في كلية التربية بالمكلا،وكان حريصاً على ان تكون المادة التي يدرسها مادة الدين أو التربية الغسلامية وكان يدرسها بحرارة .وفي عام 1981م اراد الشيوعيون منعه من التدريس فجعلوا نقلته وعمله في مكتب الإشراف على الوسائل الإيضاحية للتلاميذ (( فكانت فرصة ثمينة للإطلاع )).وبعد الوحدة زاول العمل في التدريس بثانوية غيل باوزير .

الداعية المُؤثر:
يتحدث بانجار فيشدك إلى طرحه ،ويجتذبك تسلسل طرحه وانسيابه كجدول ،أسلوب علمي منطقي،يوشي حديثه بآيات القرآن الكريم البينات واضعاً اياها في أفضل سياق حديث ،يبهرك بروعة انتقائه للآية في موقعها المناسب تماماً ،ينظم طرحه ويجعل له عناوين فرعية يعلنها في مبتدئه لتكون على بينة وحضور واهتمام يزيد ،انك لا تستطيع الا ان ترتشف من اشراقاته الروحانية الزاكية على طريق الربانية والسمو الروحي ،وهو مع هذا لا ينسى حديثه من دعابة لطيفة في مكانها يكسر ما قد يتسلل إلى البعض من ملل و يرسخ بها من فهم ويقرّبه الذهن من صورة راسخة. لم يتحقق هذا المستوى الاستثنائي للشيخ ،حكى لي كيف كانت البداية ((في رباط بن سلم بالغيل في حفل ختام صحيح البخاري ألقيت كلمة مكتوبة من ورقة وكانت تهتز الورقة بيدي سبحان الله )) ويضيف (( البداية تكون صعبة والممارسة يكون لها دور وبعد ذلك الفتوح مع الجهد والله يقول : ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ))فتجد أحياناً أنك تقوم للحديث و اثناء حديثك يحضرك شيئ لم تُحضّره من قبل .. وقضية النجاح تعود إلى توفيق الله ((وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ))

اقترن عمله بالتدريس بعمله الدعوي،لقد كان التدريس عنده بمعنى آخر عمل دعوي،ففيه يجد الفرصة للقاء بالناشئة والحديث اليهم ،ومما ييسر له امر الجمع بين السنيين انه يختار مادة الدين ليدرسها وكان يرسها بحرارة كما روى لي .((اما الخروج للناس فكان من عام 1970 و1971 وما فوق ،وبعد سجني الأول سنة 1979 ازداد انشغالي بالدعوة وكنا قبلها نعلم في مسجد النور بمدينة المكلا في فترة عز الاشتراكية وهم غافلين عنا وذلك لمدة سنة ولما علموا بذلك نقلوني إلى منطقة حوره (التابعة لمديرية القطن بوادي حضرموت حينها)وحدث ذلك في عام 1979ومن هناك تم اخذه للسجن أوّل مرة بسبب توجهه الدعوي .ولكن لم يكن سجنه الذي تكرر بعد ذلك ليحد من تحركه الدعوي حتى انتهى ذلك العهد بتحقيق الوحدة اليمنية في مايو1990 .

كانت الدعوة معلم حياته الأبرزمنذ يفاعته ومطلع شبابه وحتى وفاته وقد تولى بعد تحقيق الوحدة الخطابه في مسجد باحميد المجاور لبيته في غيل باوزير وكانت له دروسه العلمية فيه خاصة دروسه وتأملاته في كتاب الله المجيد، كما انه كان داعية متنقل بين المساجد والمناطق في ساحل و وادي حضرموت ،وحاضر في أمانة العاصمة صنعاء خاصة حينما كان عضواً في مجلس النواب خلال الفترة من ابريل 1997وحتى ابريل 2003م،

القيادي الإصلاحي :
كان الشيخ عوض بانجار في طليعة مؤسسي التجمع اليمني للإصلاح بمحافظة حضرموت ،ففي 13 مارس من عام 1991م تشكلت اللجنة التحضيرية لفرع التجمع اليمني للإصلاح بمحافظة حضرموت من سبعة عشر عضواً برئاسة الشيخ عبدالرحمن عبدالله بكير وكان الشيخ عوض بانجار نائب لرئيس اللجنة التحضيرية ، وفي الخامس عشر من مارس 1991م تم الإعلان عن تأسيس فرع التجمع اليمني للإصلاح بمحافظة حضرموت وذلك في مهرجان حاشد كبير احتضنته قاعة سينما بن كوير (سينما 14 أكتوبر ) .

يقول الداعية المجاهد عوض بانجار عن هذا التنظيم الذي كان مثله امنية عند بانجار الداعية العامل في تناغم مع منهجيته الدعوية ،جاء انضمامه للإصلاح : ((ما نقوم به في مجلس النواب من انكار للمنكر سواء كان مخالفات شرعية أو ما يقع على الشعب من معاناة انما هو في هذا السبيل ،وكذا ما تقوم به قياداته من نشر للعلم وأمور أخرى على طريق تحكيم شرع الله ))

(( إننا نحسب أن نوايا قادة الاصلاح ونشطائه صالحة ،وانهم يريدون الوصول بالإسلام إلى مركز القوة والحكم لكن الذي يعمل يُخطئ و لكن المطلوب الفهم الشمولي للإسلام ..الإسلام الحركي ..الجدية مطلوبة في القاعدة والقمّة وكذلك مطلوب أن يكون للدعوة نصيب سواء في صفوف الاصلاحيين أنفسهم أو صفوف عامة الناس ،وأنا أعتبر الإصلاح وعلى رأسه الصالحين والعلماء هم مضلة للآخرين ولهم من الاعمال ما يُحمدون عليه،...،ولولاء الله ثم هم لكانت الحالة أسواء بكثير ))

وقال لي في مقابلة أخرى((تأسيس الاصلاح جاء لتجميع الجهود في سبيل العمل من أجل تحكيم شرع الله )) ، ويُضيف بانجار متطلعاً إلى التمام ((وان كانت بعض الأمور ليست بحسب المطلوب لكن نسأل الله ان يجبر الخلل وان يوفق القادة والمنظمين إلى ان يصلوا بالإسلام إلى الحكم وان شاء الله لا نموت حتى نرى شريعة الله تُطبق )). وفي المؤتمر التأسيسي للإصلاح في سبتمبر 1994 انتخب بانجار عضواً في مجلس شورى الاصلاح (اللجنة المركزية) و بقي مؤتمر الاصلاح العام يجدد عضويته في مجلس الشورى وتوفي وهو عضو لمجلس شورى الاصلاح.
كان بانجار مرشح الاصلاح بغيل باوزير في انتخابات ابريل 1997 وقد حالفه النجاح ليخوض تجربة البرلمان .

من هذا المنطلق الاصلاحي فإنّه حينما اندلعت الثورة الشبابية الشعبية السلمية اليمنية المجيدة في 11 فبراير2011م ضمن الربيع العربي المتدفق زار الشيخ بانجار الشباب المعتصمين في ساحة التغيير بكورنيش المكلا مغرب الأحد 20 مارس 2011و حاضر فيهم وحثهم على الرباط وقال((لقد اتت الفرصة لإنهاء ظلم علي صالح ولامجال للتراجع أو الخنوع مرة أخرى )).

البرلماني الرسالي:
من قيود السجون انتقل بانجار إلى مقعد السلطة التشريعية والرقابية وان لم يكن برغبة منه ولا تطلّع بل العكس ،قال لي : ((حقيقة حينما عرض عليّ الأخوة في قيادة الاصلاح بالغيل ان أكون مرشح الاصلاح في دائرة مركز الغيل (149) رفضتً رفضاً باتاً لأنني اريد ان اتفرغ للدعوة،ولكن بعد الحاح وافقت على ذلك )) ويُقيم مشاركته في مجلس النواب فيقول : ((من خلال تجربتي في الفترة السابقة اقول أنه حتى المبادئ الأرضية ما قام عليها أهلها فالديمقراطية مثلاً اخترقوها،نظم الانتخابات تجاوزوها،مجلس النواب لا يعطونه ما ورد بشأنه في الدستور ولا يعملون بما جاء في لائحته الداخلية،ونحن هدفنا الاسلام نصل إلى تطبيقه ولو صدقوا في اقوالهم انها انتخابات حرة لقامت دولة الاسلام ولو صدقوا حتى في المشورة و أخذ الرأي والعمل بالدستور وقولهم انهم متمسكين بالكتاب والسنة وقد حلفوا على ذلك،لو صدقوا ستكون الأمور أهون مما هي عليه الآن،لكن الانسان اذا تنكر لمبادئه يفقد الهوية ويُصبح مُذبذب ولا يقف على أرضيه فهو في امر مريج كما قال الله تعالى: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ))وحدثني عن مجلس النواب في مقابلة أخرى فقال((المجلس عبارة عن مؤسسة حكومية تمرر ما تريده الدولة فالاغلبية المريحة تمرر أي قرار وتصوت عليه ولو كان ضد الشرع ،الأغلبية جاهزة ،هم لا يحضرون لكن يوم التصويت يتنادون فتجد المكان مزدحم،واذا انتهى التصويت عاد المجلس خاوياً على عروشه،وبالتالي صار دور (الاصلاح) والناصحين داخل المجلس ملغي وصاروا مهمشين ))

مدرسة يوسف
السجن هو مدرسة يوسف عليه السلام ،كان مشوار بانجار الدعوي في مرحلة الاشتراكية مفضي به ولا شك للسجن ،كان بانجار في كل مراحل حياته الدعوية حنجرة صادعة بالحق لا يخشى في الله لومة لائم،ولم يحد عن منهجه رغم السجن ورغم العذاب ،لسان حاله :
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى*** أبدا وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي *** بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة *** أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي *** وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي *** وأموت مبتسماً ليحيا ديني
كم كان نموذجاً حياً لرائعة و وصف الدكتور يوسف القرضاوي في رائعته تلك التي ستبقى مدوية مُلهمة ..لقد قالها يوسف وهو في مدرسة يوسف فجاءت حارة في كلماتها صادقة في معانيها...

كان الاعتقال الأول لبانجار في سجن مدينة سيئون عام 1979وأمضى رهنة شهرين متتابعين،وقد تم اعتقاله وهو مدرس في منطقة حوره بوادي حضرموت ((سجنت في آخر أيام شعبان ودخل عليّ رمضان فسألت الحارس : هل تصومون هنا؟ فقال : نحن نجزّعه (أي نأكله)فهل با تجزّعه معنا؟ ،اصريت على الصيام وكانوا يأتون لي بافطار على قدر الحال وصبرنا وصمنا الشهر كله الحمد لله ،وكانوا يفطرون عياناً نهاراً ويأكلون في حالة تحدي )) استمر سجنه الاول هذا شهران،وفيه جاشت مشاعره فكتب محاولة شعرية قال في مطلعها :
يارب يارحمان فرّج على عوض
فأنه من سجن الجهاز مُصاب
يذكر الأهل في ليل وفي صُبحٍ
فما أكثر الدمع على الخدين ينسابُ
ويذكر الاخوان في حلق وفي ذكرٍ
يدعون يا رب يا الله يا وهاب
وختمها بقوله :
يارب فرجها نلتقي بعد فُرقة
فيأنس المهوم ويخنس العيّابُ
سألتك يا إلاهي حياة كريمة
أعيش حراً وأكفى المشاغل
يارب صل على النبي المختار
محمد ابن عبداللاه الناسك الأوّابُ

وكان سجنه الثاني عام 1981 بسجن البقرين الكائن بالقرب من حصن الغويزي بديس المكلا،واستمر عشرة اشهر وسبعة عشر يوماً .في سجن البقرين كان التعذيب على اشده حكى لي من دون ان اسأله عن التفاصيل: ((كان السجن على أشده :إيذاءً وتحقيق وتعذيب واستمر قرابة سنة ولكن الشدة كانت في رمضان والقصيدة جاءت تعبر عن الحالة التي نعيشها وهي ابتهال وتضرّع وتصور الحالة النفسية التي كنت عليها ))،فاضت قريحته لتعبر عن حاله،

وهذا بعض ما كتب :
يا رب إنّ دولة تقف ضد بانجار
فمن لبانجار رب غيرك ينصره
ذهب الجميع وكأن شيئاً لم يكن
وبقي القليل فيه يدعو ويذكره
فمن دعاء يا رب استجب دعوته
ومنْ ذكر فاجمع به الشملُ فلا يتعسّرُ
اين اسلامكم ايها الناس اين دينكم
أما تنصرون مغلوباً من الأذى يجئرُ
أما تفكون اسيراً الا تطعمون جائعاً
أما ترحمون مظلوماً من الأذى يجئر
لو كان اعتمادي عليكم لكان الهلاك
لكن عُمدتي ربٌ عزيزٌ مُتكبرُ
شهدت رعايته بل عنايته
فكم كان لطيفاً وللكسر يجبرُ
ضاقت بي الدنيا وضاقت بي زنزانتي
وضاقت على نفسي فضاق بها الصبرُ
يا رب فرجها من قريب عاجلٍ
واملئ القلوب سروراً فقد مُلئت كدر
لا رب لي سواك فأنت حيلتي ووسيلتي
وأنت ركني الشديدُ وانت فوق الكل قادرُ
رب إني اشكو إليك ظلم الطواغيت
فانتقم منهم فانت المُهيمن الجبارُ

حكاية بانجار مع السجن لم تنتهي بعد ،لعلنا الىن فقط في منتصفها ،في عام 1987 تم اعتقاله من جديد واودع سجن الفتح بمدينة عدن عاصمة الدولة حينها ،وضمته الزنزانة مع ثلاثة معتقلين آخرين ،وجاء رمضان ثم رمضان وهو لا يزال بين جدران الزنزانة ،روى لي عن زملائه في السجن: ((العجيب أنّ هؤلاء الثلاثة كانوا لا يصلون ولا يصومون،فقلت لهم لماذا؟احدهم قال ان ثيابي نجسة و آخر قال مرت علي عشرين سنة لا أصلي ولا أصوم ودعوناهم للصلاة والصيام ونجحت في اثنين منهم والثالث قال انا لن اصلي حتى لا يُقال لي رجعي لكن اذا عدت إلى بلادي عليّ عهد الله اصلي واصوم .))ويصف حاله في زنزانة رمضان (( مع قسوة الحياة في السجن كان رمضان في غاية الروحانية والله سبحانه وتع إلى يعوّض عباده فيمن بالراحة والطمأنينة ))،ومر رمضان وجاءت عيد الفطر ثم عيد الاضحى وهو مسجوناً،لا بل وعاد رمضان الآخر وهو في سجن الفتح حتى منتصف الشهر،وهنا يخرج من هذا السجن الاشهر لا ليتخلص من معاناة الاعتقال ومآسيه ولكن فقط ليت تحويله إلى سجن آخر في المدينة نفسها انه سجن ثالث يلج زنازينه ..

انه السجن المركزي بمدينة المنصورة كان الشيخ على موعد معه هذه المرة ... وجاءت العيد ثم العيد وهو رهين بين جدرانه القاسية ..وتمر الأيام ثقيلة ..ولا يعود بانجار إلى اسرته ولكن ليعود رمضان بانجار في السجن مرة رابعة ولكن هناك ثمة روعة في السجن ..وهذه المرة ثمة رفاق على درب الدعوة يلتحقون سوياً في مدرسة يوسف... ((التقينا وعددنا احد عشر في آخر فترة السجن وكان من اروع الرماضين فكل واحد منا تولى درس وخطبة جمعة فصار هذا السجن الأخير معهد،ففيه اخوة حفظوا القرآن الكريم وكان فيه تخصصان احدنا كان جيداً في اللغة الانجليزية وثان كان مُتقن لفن التجويد ،وكانت عندنا مزرعة نتعهدها ...)) يفسر سبب هذه الاريحية في هذا السجن فيقول رحمه الله ((كان العسكر فيه موظفين ولكن القائمين على سجون :سيؤن،البقرين بالمكلا،الفتح ،كانوا مجرمين بحق ،وحتى في وقت الاشتراكي كانت بيننا علاقات مع العسكر فيسربوا لنا المصاحف بالسر)) وينقضي عهد الاشتراكي والاشتراكية وبانجار معتقلاً غير ان الوحدة التي دنى تحققها قد جاءت بفرقها إلى السجن،كان تأثير انسام الوحدة العليلة بعد توقيع اتفاقية 30 نوفمبر في عدن 1989،((لما جاءت الوحدة تضاعفت الحرية حتى ادخلوا التلفاز وتركوا لنا فرصة لنرى المكتبة ودخل المصحف بحرية وكذلك الكتب ولكن بعد شهرين أو شهر ونصف خرجنا بسبب الوحدة ،بعد فضل الله تبارك وتعالى)) لقد امضى هذه المرة اطول فترة اعتقال :سنتين وثلاثة أشهر.

و يُجمل درس مدرسة يوسف فيقول : ((إنّ كل من يدعو إلى الله أو يعمل في حقل الدين بوضوح وصراحة و إحقاق حق سواء كان داعية في مجلة أو إذاعة أو تلفزيون والدعوة وسائلها كثيرة على عدد حبات الرمل المهم أنه داعية يقول كلمة الحق ويصدع بكلمة الحق فلابد أن يوطن نفسه على الإيذاء بشتى أنواعه ،والسجن من المحن الشديدة العصيبة التي لا يستطيع وصفها الا من ذاقها ،إذا وقع الانسان فعليه أن يوطن نفسه على الصبر ويستعين بالله ولا يفقد الأمل ولا ييأس ويدعو الله ويشكوا إليه ويتخذ الأسباب ولا يتهور..(( وَلْيَتَلَطَّفْ)) ..أسواء ما في السجن ان تُسجن انفرادياً ،ولكن كما قال ابن تيمية شيخ الاسلام احمد بن عبدالحليم : ((سجني خلوة)) خلوة مع الله سبحانه وتع إلى :ذكر ودعاء وابتهال وتضرع...هناك تحلو المناجاة وتسعد بلقاء الله وبالكلام مع الله))

المُبتلى الأوّاب :
لم اعرف أحد في حياتي أُبتلي بمثل ما أبتلي به الشيخ عوض بانجار:إبتلاء السجون المتكررة والتعذيب فيها،إبتلاء الإبعاد من منطقته و أهله،إبتلاء الحرمان من مواصلة تعليمه الجامعي،ابتلاء الامراض المتعددة والمتنوعة ،ابتلاء وفاة كبير ابنائه (محمد ) غرقاً في البحر وقد ناهز الأربعين وقد كان يكنى به،إبتلاء الوجود في مجلس النواب،إبتلاء عدم محالفته للنجاح حينما ترشح المرة الثانية عام 2003م رغم انه قد كان يتمنى ذلك في حقيقة الامر وقد سمعت انه قد سجد شكراً لله لعدم نجاحه ولكن تخلي الناس ابتلاء في حد ذاته وخصوصاً حينما يكونون ناسك وأهل حيك ولصالح خصم غير مكافئ. و يُبتلى المرء على قدر دينه كما ورد في الحديث الذي صححه الإمام الالباني ((عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً؟ قَالَ :« النَّبِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِىَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا تَبْرَحُ الْبَلاَيَا عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى تَدَعَهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ )).

تراث بانجار:
لقد مضى الشيخ الرباني عوض بن محمد بانجار إلى ربه الكريم الجليل اللطيف المُتعال ،وترك معظم علمه مبثوثاً في عشرات المحاضرات القيّمة والخصبة بالهدى والخير والرشاد مسجلة على اشرطة الفيديو واشرطة الكاسيت،نشر طرفاً من علمه وجهده العلمي في سلسلة كتيبات (سلسلة الدعوة) التي اصدرتها الجمعية الخيرية لتعليم القرآن الكريم فرع حضرموت المكلا وعلى نفقة فاعل خير عبر مؤسسة طيبة الخيرية المكلا،و هناك مقالات له نشرها في بعض الصحف المحلية مثل صحيفة الريان وصحيفة الرُشد ومجلة الدعوية ...

هناك مقابلات مع صحف ومجلات تحوي مواعظ حسنة ودرر وعبر.. وتبقى مهمة محبي الشيخ ومقدري علمه أن يسهموا في جمع هذا الميراث تعميماً له وتحقيقاً لميد فائدة منه وأجر للراحل الحبيب ،وفي ذات الوقت حفظاً لهذا العلم وتلك المعارف القرآنية والايمانية والروحية ..وهنا أقترح ان تصدر كل صحيفة كتب فيها الشيخ مقالاته ملفاً خاصاً يحوي جميع ما كتبه فيها ،وهذا كما هو عرفان له وتخليد لذكراه الطيبة،إسهام بديع في حفظ وتوثيق تراث الشيخ الداعية المجاهد الجليل .

زر الذهاب إلى الأعلى