أرشيف الرأي

الثابت والمتحول في العلاقة الإيرانية الإسرائيلية

في منطقة لا يزال تاريخها يقبع خلف سياساتها، كرؤيا من جهة وكديماغوجيا ومحرّض تجيش به الشعوب من جهة ثانية، تجلس إيران وإسرائيل على كراسٍ متجاورة، تعملان من أجل المنظور الاستراتيجي للمجموعات الحاكمة في البلدين.

فإسرائيل تستحضر من التاريخ أساطير ممالكها وأنبيائها وما وعد الله اليهود في التوراة المقدسة من أجل اغتصاب فلسطين وإنشاء الدولة الصهيونية على حساب شعبها وأرضها، تستحضر أيضاً العلاقة الفارسية‒اليهودية من أعماق التاريخ لتُسقطها على استراتيجيتها المقررة للعلاقة الإسرائيلية‒الإيرانية اليوم، فصحفها وكتابها كثيراً ما تحدثوا وما زالوا عن الإمبراطور «قورش» الذي هزم البابليين وخلّص اليهود، بعد أن هدم البابليون (أجداد العراقيين الحاليين بحسب معتقدات الإسرائيليين) هيكلهم وساقوهم أسرى إلى برجهم المشهور، كما يذكرون إحدى أبطال الأساطير اليهودية قدّيستهم «استر» ملكة فارس اليهودية وزوج الملك «هامان» التي أنقذتهم من تصفية كان أعداؤهم قد خططوها لهم، وما يزال يُعتقد أن قبرها موجود هناك. تلك الحكايات التاريخية وغيرها التي أطلت من تصريحات حديثة، أمثال ألكسندر إدلر، المؤرخ الصهيوني المحافظ والصحافي الفرنسي، حين قال في حوار متلفز مع «المركز الملي العلماني اليهودي»: «الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصّن ضد العداء للسامية فهو إيران». أما الإيرانيون فهم لا يزالون يتحدثون عن العصور التي حكم الأباطرة فيها من ليبيا غرباً إلى إثيوبيا واليمن جنوباً إلى بلغاريا وأواسط آسيا شمالاً، حتى دقّوا أبواب الهند، ومن يتابعهم يشعر بارتباطهم الوثيق بالماضي الزرادشتي، فالدولة تعطل رسمياً أطول عطلة في مناسبة السنة الفارسية الجديدة وعيد النيروز، كما كانوا قبل ثلاثة آلاف سنة، متجاوزةً في مدتها عطل الأعياد الدينية الإسلامية والثورية جميعاً، ثم إن من يقرأ ما كتبه مفكرو الطرفين وساستهم يلاحظ بوضوح التشابه في نظرتهما الاستعلائية لمحيطهما العربي، فهما ورثة الحضارات التي صنعت فيما بعد ما يسمى ‒بحسب آرائهم‒ بالحضارة العربية، والتي ليس لها من الحضارة إلا اللغة بفضل الغلبة التي حققها العرب المسلمون الأوائل باسم الرسالة الدينية التي حملوها. كما يتفقان بالقناعة بأن أرض المشرق العربي قسمة بينهما، فعلى واجهة الكنيست الإسرائيلي كُتب «أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، وحلينجي ميرزا رئيس وزراء إيران قال في مذكرة وجهها إلى وزير خارجية بريطانيا لابردين عام 1840 محتجّاً على المعاهدة البريطانية مع البحرين: «إن الشعور السائد لدى جميع الحكومات الفارسية المتعاقبة أن الخليج الفارسي من بداية شط العرب إلى مسقط بجميع جزائره وموانئه وبدون استثناء ينتهي إلى فارس، بدليل أنه خليج فارسي وليس عربياً». ثم تأتي الثورة الإسلامية الإيرانية لتكرّس تلك القسمة باسم الدين والإيمان: ينقل أمير طاهري عن رئيس تحرير صحيفة كيهان عام 1982 قوله «إن الحكومة الإيرانية هي المصدر الوحيد للشرعية والقانون وإدارة شؤون المؤمنين، وإن جميع الحكومات الأخرى هي شيطانية، وإن الحكام الذين يرفضون الاستسلام للإمام يجب أن يعاملوا بالسيف وأن يرسلوا إلى الجحيم حيث يُشوون». ومن المعروف أن تلك الصحيفة المقرّبة من النظام الحاكم في إيران لا تزال تشن حملات عداء شنيعة ضد الثورة السورية.

في هذا الموضوع لا بدّ أن نرصد عوامل أربعة رئيسة توجّه العلاقة الإيرانية‒الإسرائيلية: (1) الطرفان (إيران وإسرائيل)، (2) الولايات المتحدة صاحبة الهيمنة على المنطقة وذات المصالح الاستراتيجية فيها، (3) ثم بالطبع العامل العربي صاحب الأرض، (4) وعمود الميزان والذي هو في نظر الثلاثة الآخرين الرجل المريض الذي يلفظ أنفاسه والذي لا يعارض الشرق والغرب إعلان وفاته إلا بحالة واحدة هي حفظ ما تبقى من المصالح التي لم يُحسب لها حساب في تسويات تقاسم النفوذ. تلك العوامل اضطربت وتنوعت صعوداً وهبوطاً، تحالفاً وتناقضاً، حسب المصالح السياسية لكلٍ منها، ومن خلالها ماجت العلاقة الإيرانية‒الإسرائيلية بين مصالح ثابتة وأخرى متحولة ‒ بعيدة عن الأيديولوجيا الدينية التي تختبئ سلطة الملالي خلفها.
في عهد الشاه

كانت الاستراتيجية الإسرائيلية تعتمد على تجاوز المحيط العربي المعادي لها بإقامة تحالفات مع المحيط الأبعد الذي يعادي أيضاً المحيط العربي نفسه، أو بأسوأ الأحوال لا يقيم صداقة معه: إيران، تركيا، إثيوبيا. وقد وجدت أن موقع إيران في هذا المحيط شديد الأهمية لمصالحها بسبب اختلافها المذهبي ومنازعة العرب على الخليج وشط العرب، وكان الشاه يحاول أن يقيم توازناً دقيقاً بين علاقاته العربية ‒إذ كان على قناعة بأنه لم يكن من مصلحته الصدام معها وبخاصة مع العراق‒ وبين علاقته مع إسرائيل، التي كان يعتبر وجودها كدولة غير عربية موالية للغرب يعزز أمنه.

في المرحلة الأولى كانت العلاقة سرّية بين الشاه وإسرائيل، وكان حريصاً على أن يبقي العلاقة بينه شخصياً وبين مسؤولين إسرائيليين غير مباشرين خارج نطاق وزارة الخارجية الإيرانية، مع أن إسرائيل ضغطت بشدة عليه للاعتراف بها وتحويل العلاقة إلى علنية وسرّبت من أجل ذلك أخباراً إلى الصحافة، إلا أنه رفض رفضاً قاطعاً الاعتراف بوجودها كدولة، مؤْثراً عدم استفزاز جيرانه العرب. لكن العلاقة ما لبثت أن تطورت بسبب نشاط الطائفة اليهودية الإيرانية، التي تعتبر من أعرق الطوائف اليهودية في المنطقة وأكثرها عدداً ونفوذاً في الدولة. في تلك المرحلة قدّم الشاه لإسرائيل خدمات من خلال تسهيل هجرة اليهود الإيرانيين والعراقيين إليها عبر الخط التركي، في الوقت الذي كانت فيه بأشد الحاجة إلى تعديل الميزان الديموغرافي المائل بوضوح إلى الجانب الفلسطيني، وبالمقابل دعمته –كما كان يأمل– في الأوساط السياسية الأمريكية والغربية عامة.

تطورت العلاقة شيئاً فشيئاً، وقويت أكثر أواخر الستينات وأوائل السبعينات عندما نشب النزاع بينه وبين العراق حول شط العرب، فاستفاد الشاه من التقدم التقني والعسكري الإسرائيلي، وتوصلت إسرائيل إلى إيجاد بعثة إسرائيلية غير معلنة في طهران تشرف على بعثات الضباط الإيرانيين إليها للتدريب العسكري، واستقبال الضباط الإسرائيليين لتدريب أجهزة الأمن الإيرانية (السافاك) على كيفية استجواب المعارضين لحكم الشاه والمتهمين… جرى كل ذلك بسرية، حتى إن الشاه أبقى زيارات مسؤوليه طي الكتمان، وكانت إسرائيل تراعي عدم إحراجه فلا تختم جوازاتهم عند دخولهم إليها أو خروجهم تاركة الختم التركي وحده عليها (وإلى اليوم ومع حكومة الملالي فإن اليهود الإيرانيين يتبعون الطريق نفسه). أما البعثة الإيرانية في إسرائيل ف، كمثيلتها الإسرائيلية، مثّلت سفارة غير رسمية حملت اسماً رمزياً للتمويه وإبعاد النظرعن إيرانيتها.

لكنّ أزمة غير متوقعة نشبت بين الشاه ومصر عبد الناصر، بسبب تصريحٍ للشاه يعلن فيه اعترافه بإسرائيل، اشتدّ بعدها توتر العلاقات بينه وبين الدول العربية ولا سيما الخليجية منها. وخاف الشاه من هجوم عراقي بدعم مصري تسهّله دول الخليج، فمتّن التحالف مع إسرائيل ونسّق معها عسكرياً، ولم يهدأ التوتر إلا بعد مجيء السادات وبروز علاقته الغربية وابتعاده عن السوفييت وارساله إشارات إيجابية إلى الشاه. وبعد توقيع معاهدة الجزائر مع العراق لتقاسم مياه شط العرب، شعر الشاه بأهمية علاقته مع جيرانه العرب فبدأت علاقته بإسرائيل تفتر وتقتصر على تنمية ترسانته العسكرية والاعتماد عليها في تحقيق الطموح الإيراني للسيطرة على المنطقة.
ملاحظات على مرحلة الشاه

1) حاولت المعارضة الإيرانية –ولاسيما اليسارية منها– الاستفادة مما عُرف عن علاقة الشاه بإسرائيل لفتح قنوات مع منظمة التحرير الفلسطينية، واحتضنت منظمة «فتح» مجموعات منها في الجنوب اللبناني ودرّبتها في معسكراتها كأصدقاء عالميين مساهمين في النضال ضد الإمبريالية وعميلتها إسرائيل. ترك ذلك تأثيراً على العلاقة الخمينية بمنظمة التحرير مستقبلاً.

2) بعد مجيء السادات وتراجع الخطر المصري، شعر الشاه أنه في موقع يسمح له بامتلاك القول الفصل في القرارات الإقليمية والعالمية، معتمداً على تغيُر موازين القوى، فقد ازداد النمو الاقتصادي الإيراني بفضل عائدات البترول، واكتسب جيشه أوائل السبعينات تطوراً ملحوظاً جراء صفقات الأسلحة الأمريكية الضخمة له، والتي كانت مؤشراً واضحاً على تحقق علاقة قوية بالولايات المتحدة أغنته عن الحاجة لإسرائيل. فتحوّلت العلاقة إلى منافسة للسيطرة على الخليج وشرق المتوسط، ومال الشاه إلى التقرب من موقف العرب في صراعهم مع إسرائيل وحاول جاهداً إخفاء التعاون العسكري الإيراني‒الإسرائيلي. وبعد وقت قصير من انتهاء حرب 1973 طرحت مصر وإيران في الأمم المتجدة مشروع قراراً مشتركاً بجعل المنطقة خالية من الأسلحة النووية، وبوضوح كان الهدف إسرائيل.

3) لكنّ الخطر العراقي ظهر من جديد، خصوصاً بعد اتفاقيات بغداد مع الاتحاد السوفييتي وتسليح الجيش العراقي، وبروزه في دفاعه عن دمشق في حرب 73 كمارد، يهدد إيران وإسرائيل معاً ويعيدهما إلى مقاعد اتفاق المصالح، ويحجّم طموحات الشاه بالهيمنة.

4) بسرعة انتهزت إسرائيل فرصة التوتر الإيراني‒العراقي وعرضت على الشاه دعم الأكراد العراقيين لاستنزاف الجيش العراقي من خلال الصدام مع البشمركة التي كانت تدربها. لكنّ الشاه تردد، خوفاً من تداعيات المسألة الكردية على إيران. إلا أن الموساد الإسرائيلي كان يرى مصلحته مع الأكراد أكثر منفعة من مصلحته مع إيران، مظهراً دعمهم المطلق وبدون شروط حرباً أو سلماً، ولذا سعى جاهداً ليوجد قاسماً مشتركاً بين أكراد العراق وإيران، وهكذا قادت إسرائيل معارك البشمركة منسّقةً عملها مع كتيبة دفاع جوي وأخرى مدفعية إيرانية.

5) توقّف الدعم الإيراني للأكراد، وسُحبت الكتائب الإيرانية فجأة بعد اتفاقية الجزائر عام 1975 حول تقاسم مياه شط العرب بمسعىً من الرئيس بو مدين، مما أثار الإسرائيليين الذين اعتبروا موقف الشاه في ذلك جنونياً وغير مبرر.

6) تباعدت المصالح بين إيران وإسرائيل، فقد اكتسبت إيران بين عامي 1972‒1977 قوّة عسكرية كبيرة، مكّنت الشاه من اتباع سياسة مستقلة دعمت شكوك واشنطن وتل أبيب بطموحات إيران الخطرة للهيمنة. فتحوّلت العلاقة بينهما من التحالف إلى تعاملات حذرة يحكمها الطموح الإيراني لقيادة المنطقة.

7) استمرّ الشاه في محاولة بناء قوة إيرانية مستقلة، احتاج من أجلها إلى صواريخ أرض‒أرض لدعم ترسانته العسكرية ولمواجهة صواريخ سكود العراقية. لكنّ إدارة كارتر رفضت طلبه، فاقترحت تل أبيب تعاوناً يوظّف الأموال الإيرانية والمعرفة التكنولوجية الإسرائيلية في تطوير الصواريخ. ووقّع الطرفان على مشروع «الزهرة» في نيسان 1977، إلى جانب خمسة عقود أخرى لشراء النفط مقابل السلاح (بلغ مجموعها مليار دولار) وستضخه إيران من جزيرة خرج الخليجية. كما بنت إسرائيل منشأة لتجميع الصواريخ وسط إيران الجنوبي. وللحفاظ على العلاقة الإيرانية مع العرب طلب الشاه تطمينات بعدم استعمالها اسرائيلياً ضد أية دولة عربية، ووافق بيغن على طلبه معللاً بسعيه الجاد لسلام معهم.

8) وهكذا جاءت الثورة الخمينية ونهر العلاقة الإيرانية‒الإسرائيلية يتهادى لمصبّه دون أية عوائق.
مرحلة الخميني

بدأ العهد الجديد بسياسات مناقضة تماماً لسياسة الشاه، ولا سيما علاقته بالغرب وإسرائيل. فأُجليت البعثة الإسرائيلية من طهران واقتحم الثوار مكتبها وأحرقوه، وقطعت حكومة بازركان كافة العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك مبيعات النفط والرحلات الجوية، ورأى الثوريون المتدينون بأن إسرائيل مغتصبة لأرض إسلامية والواجب الديني يفرض على كل مسلم محاربتها، أمّا الثوريون اليساريون فكان موقفهم مشابهاً للمتدينين من خلال رؤيتهم لإسرائيل على أنها المخفر الأمامي للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط. ولأن الخميني تبنّى نظرية الولي الفقيه فقد حافظ على البعد الديني للقضية الفلسطينية، ولم يهتم بالبعد الفلسطيني ومأساته كثيراً، فإسرائيل في نظره عدوة الإسلام، والمصلحة الوطنية الفلسطينية تستوعبها الأفكار الدينية ولا تحظى بأهمية خاصة عنده. بسبب ذلك لم يرحّب كثيراً بأبي عمّار (ياسر عرفات) الذي فاجأه بزيارة لم يُدع إليها بعد أسبوع من انتصار الخميني مصطحباً عدداً من مسؤولي منظمة التحرير فاق الخمسين عضواً (وهم الذين تربطهم صداقات خاصة مع الإيرانيين الذين كانوا معهم في جنوب لبنان)، ثم أمر الخميني بإغلاق المكاتب التي افتتحتها منظمة التحرير بالمحافظات الإيرانية جميعها بسبب خلافه الأيديولوجي مع عرفات بعد مقابلة طويلة بينهما (لأن هذا الخلاف لا يسمح بسيطرة الخميني على منظمة التحرير).

استبدل الخميني النضال الفعلي ضد إسرائيل بنظرية تصدير الثورة، ورأى الإستراتيجيون الإيرانيون أن إسقاط صدام وإقامة جمهورية إسلامية تستلهم نظرية الخميني (عالمية الإسلام بحسب المذهب الشيعي) سيضمن الهيمنة على الشرق الأوسط بأكمله، لأن مرجعيات الأنظمة ستكون في طهران وزعيمها الولي الفقيه، وبذا يخدم الفكر الديني المصالح السياسية، وتنتهي خلافات الإيرانيين الداخلية من خلال توجههم لتحقيق الحلم الإمبراطوري.

سارعت السلطة الإيرانية الجديدة لاستفزاز نظام صدام من خلال تسليط قنوات إذاعية وتلفزيونية متعددة تخاطب الشيعة العراقيين بخاصة، تحثّهم على الثورة ضد نظامه، كذلك أرسل الخميني رسائل بالمعنى نفسه لرجال الدين الشيعة الموجودين في العتبات العراقية المقدسة الذين كانت للخميني علاقات معهم عندما كان مقيماً في النجف. وبما أن صدام كان معتدّاً بقوة الجيش العراقي فقد أعلن البدء بحرب استباقية تُجهض الطموحات الإيرانية‒الخمينية بالهيمنة على المنطقة، وشجّعه موقف الولايات المتحدة المعادي للسلطة الخمينية كرد فعل على اعتبارها «الشيطان الأكبر» بسبب دعم السياسة الأمريكية للشاه. أيضاً لم يمانع الاتحاد السوفييتي ذلك الإعلان لأنه الحليف التاريخي للعراق وتاجر سلاح جيشه شبه الوحيد، إضافة إلى الحالة غير الصديقة بينهما بسبب الاختلاف الأيديولوجي من جهة ومن جهة أخرى لاحتلاله لأفغانستان واقتناصه جزءاً من أرض فارس التاريخية، كما يعتقد الإيرانيون.

كان الجيش الإيراني –الذي حقق تفوقاً ملموساً أيام الشاه بسبب امتلاكه السلاح الهام جداً ونتيجة البذخ في شرائه والعمل على تطويره‒ في حالة فوضى وتفكك واضطراب. أما الجيش العراقي فكان في حالة تضخم ملحوظ حتى فاق الجيش الإيراني عدداً وتسليحاً.

وهكذا بدأت الحرب العراقية‒الإيرانية واستمرت ثماني سنوات، حدثت فيها تغيرات كثيرة في التحالفات وخطط النفوذ الإقليمية والدولية.

كانت إيران محاصرة بدول معادية أو غير صديقة من جهاتها جميعاً، ففي الشمال والشمال الشرقي قوة عظمى (الاتحاد السوفييتي) يبغضها الخميني (للأسباب السابقة) ولأنها ‒كما يعتقد‒ تحاول الوصول إلى مياه الخليج الدافئة على حساب إيران، وباكستان الحليف التقليدي للشيطان الأكبر، وفي الغرب العدو العراقي، أما الجنوب فدوله (دول الخليج العربي) بحالة ترقب وخشية، والدولة العربية الأهم في نظر الخميني (مصر) رفض مدّ اليد إليها بسبب توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل.

أدرك سياسيو الثورة الخمينية أن وضعهم الجيوسياسي يضعهم في أزمة خانقة، ويفرض عليهم التفتيش عن مخرج مشّرف، وبخاصة أن الجيش الإيراني بات بحاجة إلى أسلحة سوقها الوحيد الولايات المتحدة، وكانت إسرائيل حريصة كلّ الحرص –على الرغم من الأيديولوجيا الجديدة الإيرانية– على علاقاتها معها، لتُعيد ما وصلت إليه أيام الشاه من مراتب متقدّمة، ولأنّ سياسييّها مازالوا يؤمنون بالمبدأ المحيطي كاستراتيجية حامية لها من العداء العربي. وساعدتها العزلة المفروضة على إيران بعد احتجاز الدبلوماسيين الأمريكان كرهائن في طهران وتجميد أرصدتها المالية، فاستغلت الحاجة الإيرانية وتجاهلت الخطاب الإيراني العنيف تجاهها، فإيران ‒بالنسبة لإسرائيل وقتئذ‒ شريك طبيعي في مواجهة التهديد العراقي. في هذه الظروف أرسلت إسرائيل رسالة لسياسي الثورة الإيرانية تفيد بإمكانية مساعدتها في تحسين علاقتها بالأمريكيين ودعمها عسكرياً وفك العزلة الدولية عنها. ردّت إيران بترحيب حذر. وهكذا أعيد فتح القنوات الإسرائيلية‒الإيرانية مجدداً. في الوقت نفسه رفض العراق بشخص طارق عزيز ‒وزير الخارجية آنذاك‒ استلام رسالة مماثلة حملها رامسفيلد إلى صدام حسين.

عادت القنوات الدبلوماسية عن طريق وسطاء وعن طريق شخصيات إما إسرائيلية من يهود إيران وإما غربية مقرّبة من الجانبين. وبُحثت إمكانية بيع إسرائيل الأسلحة لإيران، وأخبر ابن الخميني أباه بالصفقات الموعودة فلم يعترض عليها. وهكذا تحققت نظرية الإسرائيليين في صحّة القوانين الجيوسياسية، عبّر عن ذلك مسؤول إسرائيلي لصحيفة مانشستر غارديان عام 1986 بأن «تلك القوانين أثبتت صحّتها منذ أيام سيروس وحتى وقتنا الحاضر… كلٌ من إسرائيل وإيران بحاجة إلى الآخر، لطالما كان الأمر على هذا النحو وسيبقى على هذا النحو… المصالح الجيوسياسية الأساسية التي أملت في الأصل وجود رابط إسرائيلي‒إيراني كانت أبعد ما يكون عن مجرد نزوة لدى الشاه… وستبقى هذه المصالح موجودة…». كما كُلّف السيد عدنان خاشقجي (تاجر السلاح والملياردير السعودي) بأن يعمل مع الإسرائيليين لصالح الانفتاح الإيراني من أجل التوصل إلى التسليح الأمريكي للجيش الإيراني. وهكذا توصّل الإسرائيليون إلى عقد اجتماع في جنيف عام 1985 بين كرّوبي1 وكيمشي2 للحديث عن المصالح المشتركة بينهما عام 1987. وتوسّعت قنوات الاتصال الإيراني–الأمريكي، فاستقبل الساسة الإيرانيون الثوريون في طهران وفداً أمريكياً رافقه مستشار السيد بيريز لشؤون الإرهاب أميرام نير، وتتالت التصريحات الإيجابية للمسؤولين الإسرائيليين مرحّبة بالتوجه الجديد، واضعة الاختلاف الإيديولوجي جانباً (كما قال بيريز)، بل إن اسحق رابين اعتبر في تصريح له عام 1987 أن «إيران هي أفضل صديق لإسرائيل»، وقال «نحن لا ننوي تغيير موقفنا فيما يتعلق بطهران». وكان رابين (وزير الدفاع الإسرائيلي) يذكّر بالخطر العراقي لتبرير الحاجة إلى مدّ اليد لطهران. في تلك الأجواء تسرّبت أخبار فضيحة الكونترا «إيران‒غيت» (صفقة الأسلحة الأمريكية لإيران بمسعى إسرائيلي)، وقد حاول الخميني التغطية عليها بالهجوم على منظمة التحرير الفلسطينية لاعترافها بإسرائيل وقبولها التفاوض معها.
ما بعد الخميني

توفي الخميني عام 1989 والعلاقة الإيرانية‒الإسرائيلية مستمرة على حالها: علاقة مصالح متبادلة معادية للمحيط العربي سرّاً، وصوت عالٍ (مقاوم وممانع) علناً. من الجهة الإسرائيلية، أشار يوسي ألفير مستشار رابين في مقابلة تلفزيونية بعد بضعة أيام من وفاة الخميني إلى أن العدو الحقيقي لإسرائيل «هو العراق والدول العربية الأخرى، في حين يوجد لدى إيران كافة الأسباب التي تجعلها صديقة لإسرائيل… هي تملك النفط وتضم يهوداً، وهي أسباب جيدة لتجديد الاتصالات مع إيران بغض النظر عن النظام الحاكم فيها». وبالفعل فقد أبلغت وزارة الخارجية الإسرائيلية نظيرتها الأمريكية بأن إسرائيل استأنفت مشترياتها من النفط الإيراني، في الوقت الذي كان فيه حزب الله يحتجز ثلاثة من أسرى الحرب الإسرائيليين.
مرحلة رفسنجاني

علي أكبر هاشمي رفسنجاني رجل دين من الحلقة الأولى للثورة الخمينية، شغل منصب رئاسة الجمهورية لدورتين متتاليتين، وجاء بنهج سياسي مختلف داخلياً وخارجياً: فداخلياً نادى بإعطاء السنة دوراً أكبر في الحياة العامة، وخارجياً أراد الانفتاح أكثر على العالم الغربي ودول الخليج العربي بخاصة، وصرّح بأن تحسين السياسة الخارجية الإيرانية هو مفتاح حلّ المشاكل الإيرانية. ثمّ وجّه الإعلاميين والمسؤولين لتخفيض لغة العداء تجاههم، وتجاوب الخليجيون مع نهجه الجديد إلى درجة أنهم أقروا بحق إيران بالمشاركة في أي نظام أمني إقليمي في المستقبل.

لكنّ حادثين جديدين مهمّين غيّرا المعادلة الدولية المحيطة بإيران باتجاه تحقيق طموحاتها ومصالحها، الأول هو انهيار الاتحادالسوفييتي، الداعم التاريخي للعراق، والثاني فخّ الكويت الذي وقع صدّام فيه ودفع ثمنه العراقيون شعباً ودولة ومجتمعاً، وما زالوا كذلك إلى وقتنا هذا. هذا إضافة إلى خروج مصر من الحلبة بسبب كامب ديفيد وتوقيع منظمة التحرير على اتفاقية أوسلو. هذا التحوًل في المعطيات الدولية والإقليمية أزاح عدو إسرائيل المخيف (العراق) من خارطة العداوة والقوة، وأضعف الجبهة الشرقية بحيث لم تعد إسرائيل تحسب حساباً جدّياً لها، وسمح ببروز إيران كقوة منافسة على النظام الإقليمي المستقبلي، متباهيةً بالنصر المعنوي الذي أحرزته، وبخاصة تحول الولايات المتحدة من حليف لصدام إلى قيادة تحالف دولي وجّه ضربة عسكرية قصمت ظهره.

كان اهتمام السياسة الإيرانية في انتفاضة الشيعة العراقيين محدوداً بعد هزيمة صدام، مع أنها بذلت جهداً كبيراً في تحريضهم قبل الانتفاضة. لكنها اتجهت لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة، من جهة، وللمطالبة بعدم تفرّد الأمريكيين بالوجود العسكري في مياه الخليج من جهة أخرى. ونتيجة تخوف الخليجيين من الإلحاح الإيراني على أن يكون الخليج تحت حماية إقليمية فقط (مما يعني إيرانية) أسرعت دول التعاون الخليجي لمحاولة موازنة القوّة الإيرانية بقوة عربية مؤلّفة من مصر وسورية. لكنّ سياسة الابتزاز التي يجيدها النظامان المصري والسوري، وبالتأكيد أمور أخرى ترتبط بالقوى العظمى المرابطة بالخليج، أفشلت تلك المحاولة (وضيّع العرب فرصة نادرة لن تتكرر للإمساك بقرارهم الوجودي المستقل).

أما حزب العمل الإسرائيلي الحاكم وقتذاك فقد رأى أن طهران يمكن ان تلعب دور المهيمن الإقليمي بعد خروجها منتصرة من حرب الخليج، وهو الدور الذي تتطلّع إليه إسرائيل. وهكذا تحوّلت الأمور بينهما، وأصبح كل مكسب إيراني خسارةً لإسرائيل، وتحوّل عمل الساسة الإسرائيليين وعلى رأسهم بيريز ورابين من العمل على تحسين العلاقة الإيرانية‒الأمريكية إلى اعتبار إيران الخطر الجديد في المنطقة. وقد عبّر كتاب «الشرق الأوسط الجديد» لبيريز عن ذلك التحول عندما اقترح الهيمنة الاقتصادية بدلاً من الهيمنة العسكرية. ودفعت إسرائيل الإعلام العالمي ‒بما تمتلكه من نفوذ فيه‒ إلى شنّ حملات شديدة اللهجة تحذّر الولايات المتحدة وأوروبا من الخطر الإيراني. وفي كلمة لرابين ألقاها في الكنيست عام 1992 قال: «إن إيران تعاني من جنون العظمة، وهي تسعى لتكون القوّة الرائدة في المنطقة»، وأضاف بيريز في موضع آخر: «إن إيران مجنونة، والخمينية هي الأيديولوجيا الوحيدة المتبقية التي تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة (…) و ان إيران وإسرائيل دولتان تتمتّعان بالقوة الكافية لصياغة النظام الجديد للشرق الأوسط، وهذا في حدّ ذاته يضع هاتين الدولتين غير العربيتين القويتين على مسار تصادم».

على الرغم من تلك الهجمات الإسرائيلية اللاذعة، فقد وُجد في إسرائيل من حاول التهدئة، إذ صرّح أوري سافاي رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية علناً: «إن إيران لا تشكل تهديداً لأن برنامجها العسكري يستهدف جيرانها المباشرين وليس إسرائيل». كذلك استبعد مفكرون إسرائيليون ضرب إسرائيل بالصواريخ الإيرانية، فقد قال يوسي ألفير، الضابط السابق في الموساد ومستشار باراك المفضل، «إن الإيرانيين ربما يتحدثون عنا، ولكننا لسنا همّهم الاستراتيجي الأول ولا حتى الثاني، كما أننا لسنا سبباً يدفعهم إلى تطوير أسلحة نووية». كما ظهرت مشاعر الإحباط في الصحف الإسرائيلية بسبب التعاون السابق بين إيران وإسرائيل، ففي مقابلة نشرتها «هآرتس» عام 2004 قال سيكيف (وهو من أبرز المؤرخين الإسرائيليين، ويوصف بالاعتدال) «بالنسبة إلى إيران لم تكن إسرائيل رصيداً في حدّ ذاتها، وإنما سلعة قابلة للاستهلاك، فالعلاقة بينهما تكتيكية قصيرة الأمد يمكن أن تقلل من الخطر الذي يحيق بإيران فيما تعمل على حماية هدفها الاستراتيجي الحقيقي، وهو تولي القيادة الإقليمية».
إيران ومعاهدة أوسلو الفلسطينية

كان لإيران مصلحة جيوسياسية في معارضة الجهود الرامية للوصول إلى معاهدات سلام مع الفلسطينيين والسوريين، لأن تلك المعاهدات تسحب من اليد الإيرانية مبرر وجودها في لبنان وسوريا وبالتالي تقلص نفوذها في المنطقة. من هذا المنطلق عارضت إيران بشدّة اتفاقية أوسلو، ودعمت الجهاد الإسلامي وحماس من بعده، وزادت معوناتها لحزب الله ودفعته لتوتير الأجواء الاسرائيلية اللبنانية، وأعلنت الصحف شبه الرسمية الإيرانية الفرحة والابتهاج بمقتل رابين قائد جناح الحمائم في إسرائيل. ومما يلفت النظر في هذه المرحلة التقارب بالتفكير بين سياسة حزب الليكود الإسرائيلي المعادية للعملية السلمية والسياسة الإيرانية، فقبيل الانتخابات الإسرائيلية عام 1996 أعاد الليكوديّون الدفء للعلاقة بين البلدين وهدأت أصوات الانفجارات والتهديد المتبادل بين الطرفين، ذلك الدفء لم يكن مستقراً، فكان يتراجع حيناً ويتقدّم أحياناً، فقد تبنّى نتنياهو بعد نجاحه سياسة تخفيف التوترات مع إيران. لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ لم تنل إيران فيه ما تطمح اليه، وبدأت إسرائيل تشعر بخطر الصواريخ الإيرانية التي قد تصل إليها في يوم ما، وأخذت مسألة احتمال امتلاك إيران للأسلحة النووية والصواريخ البالستية الأهمية الأولى التي استندت إليها إسرائيل في إقناع الغرب بالخطر الإيراني ودفعه لتنفيذ ضربات استباقية تُضعف طموحها ذاك. وقد صرّح بيريز بوضوح بأن رابين يضغط على كلنتون للقيام بعمل ضد إيران، وكانت إسرائيل تكرر رسالتها «إيران ليست خطراً على إسرائيل وحدها وإنما على العالم الغربي بأكمله».

والسؤال: لم لّم تعمد إسرائيل بقواها الذاتية للقيام بضرب المفاعل الإيراني، كما فعلت مع المفاعل النووي العراقي سابقاً، وكما فعلت وتفعل مع سوريا!؟ والإجابة عند السياسيين الإسرائيليين أنفسهم والذين يتفقون في هذا مع السياسة الأمريكية، فحسب قولهم هم لا يريدون توحيد العالم الإسلامي وتحويل الصراع إلى إسلامي‒إسرائيلي.

و سؤال آخر أيضاً، تستدرجه الحالة: هل يمكن أن يتغير الموقف الإسرائيلي الآن، فتقوم منفردةً بعمل ما ضد إيران، بعد الشرخ الكبير الذي حدث بين إيران والشعوب العربية والإسلامية بسبب مواقفها من قضايا الخليج ومن الثورة السورية؟! أم أن تطور الأسلحة الإيرانية والشكوك الإسرائيلية في أنها أوشكت أو وصلت إلى القنبلة النووية التي قد تدفع الصلف والغرور الإيرانيين إلى الفعل، يمنعانها من ذلك؟
مرحلة خاتمي

عام 1997 انتخب الإيرانيون محمد خاتمي رئيساً، لهم بعد انتهاء ولاية هاشمي رفسنجاني، فكان الرئيس الخامس للجمهورية ومن أبرز وجوه التيار الإصلاحي، فمن أهم بنود برنامجه الانتخابي: نظام سياسي منفتح وتحسين العلاقات مع العالم الخارجي، كما فعل رفسنجاني قبله. ولتحقيق ذلك حدث تقارب ملموس بين إيران والدول العربية بخاصة، بعد فشل عملية السلام، ففي بيان مشترك لوزيري الخارجية السعودي‒الإيراني، قيل: «هناك توافق على أن السياسات الإسرائيلية تعيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط». رحّب العرب ولا سيما دول الخليج بإعلان إيران التراجع عن سياسة تصدير الثورة، التي سببت الحروب مع الجيران العرب، وأعلن خاتمي عام 1998 عدم تنفيذ فتوى الخميني بقتل سلمان رشدي، مما أزال عقبة كبيرة من أمام العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. وهكذا ظهرت المصلحة القومية سافرة الوجه منتصرة على العقيدة الدينية، بعد عقدين تقريباً من السنوات، حيث كانت متخفّية وراءها. وقد سعى نتنياهو في هذه الفترة إلى تفاهم مع إيران من خلال تشجيع اللقاءات بينهما في المنظمات الدولية والمنتديات الفكرية الأوروبية واتحاد البرلمانيين. أما الإيرانيون فقد أنكروا تلك الصلات بعد افتضاحها، بل مضى نتنياهو أكثر من ذلك بمحاولة توسيط الكازاخستانيين والروس لتحسين العلاقة بينهما. كما لقي انتصار الليكود في الانتخابات الإسرائيلية ترحيباً في الأوساط الإيرانية، وكما في السابق ظلّا متقاربين في الموقف من أوسلو، كلٌّ يعارضها من جهة مصالحه. بل إنّ نتنياهو فضّل العلاقة مع إيران على العلاقة مع عرفات غير الموثوق به، والذي يسعى في النهاية لتدمير إسرائيل، ثم ترجم نظرته الاستراتيجية تلك بموقفين: أحدهما حثّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا لمنع إيران من تطوير برامج أسلحة نووية؛ وباليد الأخرى كان يرى أن التحالف مع إيران محبّذ على الاستراتيجية التي تعمل لسلام مع القيادة الفلسطينية، ولذلك عمل جاهداً على إفشال أوسلو وإنهاء صيغة الأرض مقابل السلام. إيران من جهتها ردّت على ذلك الموقف بتخفيض التوتر مع إسرائيل، وضغطت على حزب الله لكي يوافق على وقف إطلاق النار بعد عملية عناقيد الغضب عام 1996 وقاد علي أكبر ولايتي وزير الخارجية الإيرانية الأسبق حملة ديبلوماسية مكثّفة للتوصل إلى هدنة بين حزب الله وإسرائيل، كما قدّم عدداً من الاقتراحات منها التقليل من دعم حزب الله في مقابل رفع الضغط الإسرائيلي على روسيا والذي يهدف إلى وقف تعاونها النووي مع إيران، كما أبدت الأخيرة استعدادها للتعاون في البحث عن الطيار الإسرائيلي المفقود رون آراد، كذلك ساعدت في إنجاز صفقة تبادل الأسرى وإعادة رفات الجنود الإسرائيليين مما جعل إسرائيل تثني علناً بلسان وزير دفاعها موردخاي: «أود أن أشكر كلّ جهة قامت بهذا العمل الإنساني، بلبنان وسورية وإيران». وبهذا، توصل الطرفان بالتعاون مع رفيق الحريري إلى ما عُرف بتفاهم نيسان بين حزب الله وإسرائيل.

وضّحت إيران لقنوات اتصالها مع إسرائيل أنها تريد من تحسين علاقتها معها واشنطن، ولا تهدف إلى إقامة تحالف استراتيجي معها كما كان نتنياهو يعتقد، فإيران لا تريد حصتها من الكعكة المتوسطية كلاماً وإنما تريدها أكلاً، وهي جائعة وفي عجلة من أمرها، لكنها بالوقت نفسه حريصة على إبقاء ركوبها لعربة معاداة إسرائيل أمام الرأي العام العربي فهي أكثر ربحاً في تجارة سياستها الدولية.

أعلنت إيران في وسائل إعلامها بأشكال مختلفة رغبتها في إقامة أفضل العلاقات مع أمريكا، وأّسِف خاتمي بنفسه لحادث الاستيلاء على السفارة الأمريكية بطهران وحرق العلم الأمريكي (كتقليد في المظاهرات الإيرانية). ردّ الأمريكان على التحية بأحسن منها وأسفت أولبرايت وزيرة خارجية كلينتون للانقلاب الذي دبّرته CIA ضد محمد مصدق عام 1953، واقترحت خريطة طريق لتقارب أمريكي‒إيراني، كما عبّر كلينتون نفسه في أحد مؤتمراته الصحفية عن «الاعتراف بأن إيران تتعرّض بحكم أهميتها الجيوسياسية الفائقة للكثير من الإساءات من جانب الدول الغربية»، كما بثّ كلمة قبيل بدء مباراة كرة القدم بين فريق إيراني وآخر أمريكي، أظهر فيها سروره بتلك المباراة وبالعمل مع الرئيس خاتمي «لمساعدة مواطنينا على فهم أفضل للحضارة الغنية للشعب الآخر». كانت أبرز النتائج لهذه المرحلة تخفيف القيود على إصدار تأشيرات السفر.

جُنّ جنون إسرائيل لهذا التقارب، ودفعت بمنظمة «الإيباك» الأمريكية اليهودية إلى حشد الدعم ضدّ الشروع في حوار مع إيران، وأمرت ديبلوماسييها بمقاطعة المؤتمرات التي يعقدها مسؤولون إيرانيون بالولايات المتحدة، وأرسلت بطرق مختلفة رسائل شديدة اللهجة لواشنطن تتضمن استياءها من ذلك التقارب. فالسياسة الإسرائيلية لا تقبل أبداً بأي تقارب بين الأمريكيين وبين دول الشرق الأوسط، إلا عبرها وبعد أن تقبض ثمنها.

عندما أدركت السياسة الإسرائيلية أن إيران تخطط للسيطرة على المنطقة والتحول إلى قوة عالمية، رسمت طريقاً جديدة لنفسها واتجهت إلى الإحاطة بالعرب وإيران معاً من خلال إقامة صداقات مع تركيا والهند ودول أواسط آسيا، واعتبرت أن العلاقة الإيرانية الإسرائيلية أصبحت علاقة عدائية في ظل البرنامج النووي الذي قد يتحول إلى برنامج مسلح ينتج قنبلة تغيّر ميزان القوى بالمنطقة، إذ ستقوّي حزب الله وتحدّد المناورات الإسرائيلية، وقد تجبر إسرائيل على تقديم تنازلات لا تقبلها في ظرف آخر.

مع كل ما سبق، لم تفقد إسرائيل الأمل بحوار منتج مع إيران، فقد اعتبر يهوشو أميري رئيس جمعية الصداقة الإسرائيلية الإيرانية (والعربية!) لصحيفة جيروزاليم بوست «إذا كانت إسرائيل ستعطي إيران منزلة قوة إقليمية فيمكن أن تحدث تكاملاً في المصالح». ومما يلفت النظر أن إسرائيل، التي مارست ضغطاً هائلاً على الإدارة الأمريكية لمنعها من إقامة علاقات مع إيران، أمضت شركاتُها عقوداً متعددة لشراء الفستق الإيراني وموادّ كيماوية ومعدات عسكرية وسلع تجارية أخرى.

في تلك الأثناء صرّح خاتمي بقبول حل الدولتين وقبول الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، وتحوّلت النظرة الإيرانية إلى القضية الفلسطينية إلى «ما يقبله الفلسطينيون»، كغيرهم من الحكام العرب. بل إن خاتمي نفسه لم يشكك في حق إسرائيل في الوجود. ونشرت صحيفة بديعوت أحرنوت أن جلالي (سفير إيران باليونسكو) قال لباكشيدورون، وهو كبير الحاخامات الإسرائيليين، عندما التقاه في إحدى المؤتمرات إن «إيران ليست العراق وهي لن تهاجم إسرائيل أبداً»، كان ذلك عام 1998. كذلك صرّحت معصومة ابتكار نائبة الرئيس الإيراني للصحيفة السابقة أن إيران سترحب بالدخول في حوار مع إسرائيل، وأنها عاكفة على مراجعة سياستها تجاه إسرائيل. لكنها أنكرت الحديث في وقت لاحق. كما أنكر الساسة الإيرانيون ما نشرته «هآرتس» بأنهم طلبوا التفاوض مع الإسرائيليين على معاهدة حول الصواريخ، وأكّدوا بالوقت نفسه أن بناء ترسانتهم العسكرية ليس موجّهاً إلى إسرائيل. وكانوا ينتهزون المقابلات العامة لإيصال السياسة الجديدة للمسؤولين الإسرائيليين، فقد قال جواد ظريف مندوب إيران بالأمم المتحدة «إن إيران لا تعترف رسمياً بإسرائيل لكنّ ذلك لا يعني القيام بأي عمل ضدّها، وأن أي حل يتوصل إليه الفلسطينيون سيرحب الجميع به».

نتيجة للضغط الصهيوني على واشنطن، وبالرغم من السياسة الإيرانية المرنة مع إسرائيل، فإن واشنطن لم تقابلها بالتساهل نفسه، مما سبب الإحباط للرئيس خاتمي وطاقم عمله. أما حزب العمل الإسرائيلي الذي عاد إلى السلطة فقد أبعد إيران نهائياً من برنامجه وفضّل الاهتمام بالفلسطينيين والسوريين باعتبارهم أصل استراتيجيات دول المنطقة. وترجمةً لتلك الرؤيا انسحب باراك من جنوب لبنان عام 2000 انسحاباً دون اتفاق من جانب واحد، وكان هدفه إبعاد إيران عن العملية السلمية الجارية مع الفلسطينيين بجدول أعمال الوضع النهائي، إضافة للكلفة العالية للاحتفاظ بالجنوب وكذلك مطالبة الناخبين الإسرائيليين بالانسحاب. وكان هدف باراك واضحاً، فقد صرّح بن عامي «بفك الارتباط مع حزب الله تركْنا الإيرانيين بدون قاعدة تؤهلهم للاستمرار بتلك السياسة». وقد اعترف الإيرانيون بالتأثير السلبي لهذا الانسحاب على خططهم، تماماً كما قدّر باراك، وموّهوا ذلك بالمبالغة بالاحتفالات والتكبير والتهليل للمقاومة. وتأكيداً لذلك نصح خاتمي حافظ الأسد بعدم الخوف من فقدان ورقة حزب الله والعمل على إبعاد حزب الله عن الأضواء «حتى لا يُلحق ضرراً بالمكانة الأخلاقية العالية التي بلغها».

نأى خاتمي بسياسته الفلسطينية عن المحادثات الفلسطينية‒الإسرائيلية في كامب ديفيد (2) واكتفى بانتقادها المعتدل إعلامياً. لكنّ الموقف من انتفاضة الأقصى أظهر التأثر الإيراني بالاعتبارات الجيوسياسية أكثر من تأثره بالعقيدة الدينية. ولم يُخفِ الإعلام سعادته بفشل المحادثات، وتحدّث الخامنئي كثيراً عن تحرير فلسطين لكنهم عملياً لم ينفذوا شيئاً من وعودهم، لا بالمال ولا بالأسلحة، مما سبب خيبة أمل واضحة على تنظيمَي حماس والجهاد الإسلامي.
الحادي عشر من أيلول وأفغانستان

استغلت إيران خاتمي أحداث الحادي عشر من أيلول لإعادة العلاقة مع أمريكا، وقدّمت عروضاً سخية للتعاون معها، وكان لها دور حاسم بتشكيل حكومة أفغانستان وتوقيع معاهدة بون مع الوجوه الأفغانية المعادية لطالبان. لكن بالرغم من تحقيق أمريكا فوائد كبيرة من هذا التعاون، إلا أن اللوبي الموالي لإسرائيل قابل المساعدة الإيرانية بالتجاهل والتهميش، واشترط لتحسين العلاقة الأمريكية‒الإيرانية أن تمرّ أولاً عبر إسرائيل، كما حدث سابقاً، حتى لو كانت مصلحة أمريكا تقتضي العكس. كان التوتر متصاعداً قبل 11 أيلول بين شارون وكولن باول والرئيس بوش، وبخاصة عندما قدّم باول اقتراحاً لحل القضية الفلسطينية، بإنشاء دولة فلسطينية على أن تكون القدس عاصمة مشتركة، مما أثار الإسرائيليين الذين شنّوا هجوماً لاذعاً على الرئيس بوش دفع صحافة البيت الأبيض للتصريح بأنه عمل غير مقبول.

هل يمكن استنتاج أن هذه التوترات شكلت بيئة صالحة لأحداث 11 أيلول؟

ارتفع الخط البياني للعداء الإيراني–الإسرائيلي بعد المكيدة الإسرائيلية التي حاكتها حول السفينة «كارين إيه»، فقد أعلنت عن اكتشافها بالبحر الأحمر وادّعت أنها محمّلة بأسلحة إيرانية متجهة إلى المجموعات الإرهابية الفلسطينية، مما دفع بوش الابن إلى إدخال إيران في محور الشر عندما ألقى خطابه المشهور الذي صنّف فيه العالم إلى فسطاطين خير وشر. وصل التوتر حينها للتهديد بضرب المنشآت النووية، وبالطبع ردّ الإيرانيون بتحريك حزب الله وبالتهديد بالمثل.

استراحت اسرائيل من إمكانية تطوّر العلاقة الإيرانية‒الأمريكية بعيداً عنها، لكنّ الأمريكان الذين يفهمون السياسة الإسرائيلية جيداً طلبوا من شارون في الشهر الثاني 2006 التخفيف من حدّة التوتر ومن اللهجة حيال إيران، فاستجابت السياسة الاسرائيلية وصرّح عوزي دايان، الجنرال المتقاعد ورئيس مجلس الأمن القومي سابقاً والعضو المؤثر في حزب الليكود، «أنّ إيران ليست عدواً، ولكن علينا التأكد من عدم تمكين إيران من اقتناء أسلحة دمار شامل».

هل لهذا علاقة بحرب 2006 التي زعم حزب الله أنها لتحرير الأسرى؟ وهل الرد الإسرائيلي‒الأمريكي كان متناسباً مع فهمهم للرسالة الإيرانية؟ وهل كان بإمكان إيران الرد في أفغانستان لكنها لم تفعل لعلمها أن من دبّر المكيدة هي اسرائيل ولذلك عليها أن تدرك أن إيران تطالها مباشرة من رأسها الشمالي بواسطة تنظيم حزب الله الذي أنشأته من أجل ذلك؟

واصلت إيران إحياء العلاقة مع أمريكا، وبخاصة بعد ما برهنت على حرصها عليها من خلال التعاون المهم الذي قدمته في غزو العراق وخوفها من وصول الغزو إلى أراضيها، كما كان شارون يتخيل عندما حثّ شارون بوش الابن على غزو العراق ووظف «الإيباك» (المنظمة الصهيونية‒الأمريكية) لتضغط عليه من أجل ذلك. كان يرى أنّ غزو العراق خطوة ضرورية لمواصلة الحرب ضدّ إيران، ويبدو أنّ إيران كانت تحسب لذلك حسابها، فكثّفت الاتصالات مع الأمريكان، وانتهى الأمر إلى لعبها دوراً شديد الأهمية في غزو العراق، إذ أمرت أتباعها من الجماعات الشيعية بالتعاون مع الاحتلال الأمريكي والمشاركة في ما اصطلح عليه «إعادة الإعمار»، الذي كان الطريق الأوسع لنهب الثروات العراقية كما صرّح عدد من الباحثين والسياسيين الأمريكان، تماماً كما فعلت بأفغانستان (الأيديولوجيا الآن في خدمة المصالح الجيوسياسية).

فهم كثير من الاستراتيجيين الأمريكان أنّ غزو العراق كان لخدمة المصالح الاسرائيلية، وأنّ ذلك الدفع كان من اللوبي الصهيوني وأصدقائه المحافظين الجدد، بل إنّ عسكريين ومدنيين تدفّقوا على الولايات المتحدة لمنعها من ارتكاب خطأ تاريخي لا يُصحح ولا يُغتفر، وكانوا يعتقدون أنّ صدّام، المتعب المنهك، لم يعد يشكّل خطراً على اسرائيل، وأنّ الخطر الأكبر يكمن في الصواريخ البالستية الإيرانية، وأنّ الاستخبارات الاسرائيلية قادرة على جلب المعلومات بدقة حول العراق وإيران من خلال علاقتها المعروفة مع عشيرة البرزاني (التي تمتّع الاسرائيليون بتعاون طويل ومثمر معها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقد كان لإسرائيل اليد الطولى في تدريبهم في شمال العراق بالقرب من الحدود الإيرانية). بالمناسبة إسرائيل تعتبر نفوذها بكردستان العراق يوازن النفوذ الإيراني في جنوب لبنان.
مرحلة محمد أحمدي نجاد

مع ارتفاع صوت الولي الفقيه الخامنئي والملالي الذين يسيرون على نهجه، وقمع الثورة الخضراء، والانتخاب المشكوك بديموقراطيته لأحمدي نجاد، استمرّت المساومات الإسرائيلية‒الإيرانية الأمريكية، وقدّمت إيران عروضاً سخية لإبعاد الخطر الأمريكي عنها. في الصفحة 339 من كتاب «حلف المصالح المشتركة» يذكر تريتا بارسي: «في حوار حول الاحترام المتبادل، عرض الإيرانيون وقف دعمهم لحماس والجهاد الإسلامي والضغط على المجموعتين لكي توقفا هجماتهما على إسرائيل. وفيما يتعلق بحزب الله عرض رجال الدين دعم عملية نزع سلاحه وتحويله إلى حزب سياسي صرف. كما عرضوا على الأمريكان إمكانية المشاركة الكثيفة في البرنامج النووي. وأيضاً التعاون الكامل في مواجهة كافة المنظمات الإرهابية وأهمها القاعدة (بل قبلوا بتسليم عناصر القاعدة المتواجدين لديهم). وفيما يتعلّق بالعراق، تحدّثوا عن دعم الاستقرار السياسي في العراق وإقامة مؤسسات ديموقراطية وتشكيل حكومة غير دينية فيه. وبالنسبة للقضية الفلسطينية: الموافقة على مبادرة العاهل السعودي التي تتحدث عن إبرام سلام جماعي مع إسرائيل مقابل العودة إلى خطوط 4 حزيران والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وقد منع آية الله كافة المسؤولين الإيرانيين ‒بعد التصريح اللاهب لنجاد حول المحرقة اليهودية‒ من الحديث حولها باللغة نفسها.

كانت الحرب على العراق خطيئة كبرى ارتكبها الساسة الأمريكان لصالح اسرائيل بمعونة إيرانية، لكنّ الرابح الأكبر كانت إيران، التي قطفت ثمرة العراق الشهية بعد أن قُدّمت لها على طبق من ذهب دون أن تدفع أي ثمن بشري أو مادّي، مما جعل وزير النفط الإيراني يقول «لقد ساعدت أمريكا إيران على جعلها القوة الإقليمية الأكبر بعد هزيمة صدّام وطالبان»، وأردف وهو يبتسم «لم يكن العراق ليتحوّل إلى وضع أفضل من الوضع الذي تحوّل إليه بالنسبة لنا»، مما جعل يوشكا فيشر وزير الخارجية الألمانية الأسبق يتساءل: «من الذي يسيطر على الشرق الأوسط؟ إيران أم الولايات المتحدة؟

في نظري، لايمكن تبرير تعاون إيران المهم جداً ومنعها إعادة الطائرات التي أودعها صدام لديها ومشاركتها الفعالة في إدخال الفرق العراقية الشيعية المدربة عسكرياً ثم تحطيم الدولة العراقية والمجتمع العراقي إلا إذا كان تعاونها مع أمريكا واسرائيل مقدّماً في رؤيتها الاستراتيجية على أية أيديولوجيا دينية. كذلك لايمكن تبرير الحقد الإسرائيلي في تحطيم العراق، طالما أنّ الصواريخ الإيرانية والمشروع النووي الإيراني وحزب الله موجودون، إلا إذا كان الإسرائيليون مطمئنين إلى عدم عداوة إيران، كما عرضنا في تصريحات متعددة لمسؤولي الطرفين. وبالفعل فإن عشرات اللقاءات والتصريحات من الجانب الإيراني تشير إلى تلك الإمكانية، وليس آخرها ما قام به الجنرال محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري والمشرف على استراتيجية حزب الله، إذ قدّم خطة تسوية للعلاقات الإيرانية‒الإسرائيلية اشترط فيها احترام كلٍ من البلدين منطقة نفوذ الآخر وعدم الاصطدام بينهما، وأكّد على إمكانية التجارة بين البلدين عبر الولايات المتحدة مؤقتاً بحيث تكون إسرائيل قادرة على بلوغ أهدافها لأنهم لايستطيعون في هذه المرحلة الاعتراف بها علناً.
أين العرب هنا؟

إنهم مغيّبون عن السياسة الإقليمية والدولية.

اطمأنت إيران ‒أواخر الدورة الأولى للرئيس نجاد وخلال الدورة الثانية– إلى امتداد نفوذها من أفغانستان إلى البحر المتوسط، وشعرت أنها ابتلعت لبنان بواسطة سلاح حزب الله (الذي أعدّته لتحرير فلسطين!) والذي اختطف طائفياً معظم شيعة لبنان وأخضعهم ‒أيديولوجياً– للولي الفقيه الإيراني، وسيطرت على السلطة السورية في عهد الأسد الابن، وأنهت السدّ العراقي وحطّمته، فارتفع صوتها عالياً بعدما استطاع الخامنئي أن يُحكم السيطرة على هيكلية الدولة الإيرانية وأصبح هو الآمر الناهي الفرد، بحيث تحوّلت صلاحيات رئيس الجمهورية إلى صلاحية وزير داخلية لا أكثر. وعادت الأيديولوجيا الخمينية لتهيمن على السياسة الإيرانية داخلياً وخارجياً، لكنها كالعادة هيمنة شكلانية تُكثر من الكلام والإعلام وتخفي ما يريده كسرى الجديد من أمجاده التاريخية، وهو عندما يربط التبشير الشيعي بولاية الفقيه الإيراني يصنع عملياً موالين للسياسة الإيرانية على طريقة الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وتصبح المعادلة لديه: كلُ فرد يدخل في مذهب التشيّع –كما يراه هو – يصبح موطيء نفوذٍ للسياسة الإيرانية. من هنا تعود الايديولوجيا الدينية فتلتحم بالمصالح الاستراتيجية، ولذا يجتهد الملالي بتأليف تفاصيل خاصة بمذهب التشيع الإيراني الرسمي، مختلفة قليلاً أو كثيراً عن بدايات المذهب أو في أثناء تطوره (ذلك المذهب الذي اعتبرته لجنة الأزهر لتقريب المذاهب الإسلامية في أوائل ستينات القرن الماضي المذهب الخامس للسنة)، وستضمن تلك التفاصيل ولاء الشيعة العرب وغير الإيرانيين للولي الفقيه الإيراني. من هنا فإن كل حديث عن «المقاومة والممانعة» هو محض خداع واحتقار لعقول شعوب المنطقة، وتحايل على مصالحها، واستلاب لحقها في الكفاح والتوحّد لتحرير ذاتها، فإذا سمعنا ضجيجاً وقرعاً للطبول الإيرانية لحرب إسرائيل عندئذ علينا أن ندرك أن صفقةً ما تُحاك وراءها، إما لفرض دور إيراني أكبر في رسم نفوذها كدولة عظمى إقليمياً وعالمياً، أو لمنع اسرائيل من عرقلة فتح القنوات الأمريكية، أو الإصرار على الاشتراك الفعّال في مؤتمرات السلام الإسرائيلية‒الفلسطينية لتحصيل فوائد خاصة بها… الخ.

إن تلك الوقائع لاتسمح بأي انطباع أو توقع بتغير سياسة النظام الإيراني الحاكم بعد انتخاب السيد روحاني، على الرغم من اشتهاره بالاعتدال. فاستبداد أصحاب الفكر الديني لا يسمح بمساحة كافية لأي تغيير حقيقي.

إن الثابت في السياسة الاسرائيلية هو تشكيل قوة –بالاعتماد على ذاتها– قادرة ليس على حمايتها فقط وإنما على فرض ما ترتئيه من مصالحها على العالم. والثابت أيضاً في السياسة الإيرانية مماثل لذلك، بحيث تضمن مصالحها الاستراتيجية وفق المنظور الجيوسياسي لمكانتها الإقليمية والدولية، أما الإيديولوجيا (بصفتها الأفكار الدينية ذات المرتسم السياسي) فهي الأداة التي تغطي حقيقة مواقفها وتبررها إعلامياً.
نتائج وخلاصات

1) إن غلبة المصالح الإستراتيجية الإيرانية على الدعوة الدينية هي الخط الرئيس والأساسي للسياسة الإيرانية، وبخاصة في تعاملها مع الولايات المتحدة واسرائيل.

2) لم يعد هناك شك في أن الشعارات التي يرفعها حزب الله وصاحبه الإيراني (المقاومة والممانعة) هي بروباغندا لا أكثر، أداة للمساومات الإيرانية‒الإسرائيلية، توظّفها أحياناً عنفاً وتساوم عليها سراً لتصل إلى مكاسب سياسية أكبر.

وليس معنى وجود علاقة إيرانية‒إسرائيلية ألا يحدث بينهما صدامات عنيفة، كلاماً أو حرباً، فالمساومات الدولية كثيراً ما تتطلّب تلك التكتيكات الجدّية. لكن الأمر بينهما لا يرقى إلى صراع على الوجود كحالتنا.

3) إن الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية هو الموقف نفسه من القضايا الأخرى، فهي تحاول السيطرة عليها باسم الفكر الديني لتكون أداة إضافية في مساوماتها، ولذلك كانت شديدة السلبية تجاه منظمة التحرير وياسر عرفات بينما دعمت حماس والجهاد الإسلامي، وكانت العرّاب الأول لإنشاء الإمارة الحماسية في غزة، كما أنشأت إمارة حزب الله في لبنان، وهي تسعى الآن ‒بحال فشل سيطرة السلطة الأسدية على كامل الأرض السورية– إلى إنشاء الإمارة العلوية. ومن يدري، لعلّ ما نسمع به من انقسام في غزة وإنشاء إمارة جديدة على حدود العريش أو رفح عائد إلى اختلاف موقف حماس عن السياسة الإيرانية تجاه الثورة السورية، وقد تعود الأمور إلى مجاريها بعد فقد حماس للسند الإخواني المصري.

4) إن السياسة الإيرانية في المنطقة العربية هي سياسة تمزيق وتفرقة لمجتمعاتها ودولها، تمارسها إما بالتبشير المذهبي أو بالدعم المالي أو بالابتزاز والمزاودات أو بالقوة (كما حدث في بيروت أو الآن في سورية) أو من خلال المساومات السرية (وهي في هذا تتفق مع السياسة الغربية والإسرائيلية الاستراتيجية للمنطقة). ولعل موقفها من الخلاف الفلسطيني أوضح شاهد على ذلك، مع معرفتها التامة بإضعاف هذا الخلاف لأية مفاوضات توصل إلى الدولة الفلسطينية القادمة.

5) إن إيران لن تفك رقبة الشعب السوري وتفرج عنها، حتى لو دُمرت سورية بالكامل على الطريقة العراقية، إلا إذا شاركت في المفاوضات وفرضت مصالحها بالبرنامج النووي والحصة الإقليمية التي تناسبها، بعد أن باتت السيطرة على المنطقة في متناول يدها. وقد سهّل بشار الأسد تلك السيطرة مقابل دعمه للبقاء في السلطة.

6) قد لا يقف ساسة عرب موقفاً أفضل من السياسة الإيرانية تجاه إسرائيل، لكنّ هؤلاء لا يرفعون شعارات المقاومة والممانعة ولا يتبجّحون بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وقد يضطهدون شعوبهم بطرق تختلف عن اللعب بالقضية العربية الكبرى (فلسطين).

7) تحرص إسرائيل على الإمساك بمفتاح علاقات دول المتوسط مع الولايات المتحدة، وأن أية زاوية مهما كانت ضيقة لفتح باب علاقة ما مع الولايات المتحدة يجب أن تقبض ثمنها مسبقاً وبالطريقة التي تراها مناسبة لمصالحها. وإلا فإنها تملك من النفوذ ما يجعلها قادرة على الوقوف بوجه مثل هذه المحاولات بقوة، وهذا ما حدث لإيران عندما حاولت إقامة علاقة منفردة وبعيدة عن اسرائيل.

8) بالطبع، المصالح الإسرائيلية والأمريكية ليستا متطابقتين، وهناك مواقف متعددة –كما مرّ– تختلفان فيها وقد تتناقضان، وأغلب الظن أن سياسيين أمريكيين بدؤوا يلمسون ذلك، ولذا فالعمل مع هؤلاء ومحاولة تعميق هذه النظرة هو لا شك في مصلحة التحرر العربي، ويمكن الاتفاق مع الإيرانيين عليه بسبب تقارب المصالح في هذه النقطة.

9) هناك مواقف متعددة كما بدا سابقاً في صالح التحرر العربي، ويفترض بأصحاب القرار في الدول العربية، ولا سيما ثوار الربيع العربي، ألا تضيع منهم ثانية.

10) وأخيراً:

عندما نتحدّث عن السياسة الإيرانية فنحن لا نقصد الذم أو المدح أخلاقياً، فنحن على يقين أن الدول تتعامل بالمصالح ولا أحد يعمل ضد مصالحه، ولكن لتوضيح ووعي النقاط الإشكالية المتعلقة بنا، والوقوف بوجه من لا يزال يتاجر بمصالحنا خدمة لمصالحه. إن معرفة حقيقة الآخرين هو ما يدلنا على المواقع التي على أقدامنا أن تقف فيها.
إن المصالح متغيرة بحسب الظروف الداخلية أو الخارجية، ولا شيء ثابت في هذا العالم، وهناك جماعات موجودة في إيران أو غيرها تؤمن بأن مصلحة شعوب المنطقة كلها متقاربة، وأن هذه المصلحة لن تتحقق بالخداع أو الهيمنة، وإنما بالتعاون والتعامل الندّي القائم على احترام المصالح المتبادلة. تلك الجماعات ليست قليلة ولا شك أن من مصلحتنا المشتركة التعامل معها، وأن نكون فاعلين في هذا التغير لنضمن مصالحنا أيضاً.
بدون عودة الروح للشعوب العربية واستعادة قدرتها على الفعل في السياسة الإقليمية والدولية، لا يمكن أن نتصدّى للأطماع الإسرائيلية وأطماع الثلّة الحاكمة في إيران، وذلك بتشكيل قوّة عسكرية وسياسية من خلال الاعتماد على أنفسنا، لأن الاعتماد على الآخرين، مهما كانت المصالح مشتركة، تظل مسألة آنية قابلة للمساومة. كما علينا إتقان المناورات والتحالفات ‒كغيرنا– لنضمن السير في الاتجاه الصحيح الذي يحقق مصالحنا.
إن القضية الفلسطينية ومنطقة الخليج هي الأكثر أهمية في تلك المواجهات، ولقد أضعنا فرصاً متعددة كان بإمكاننا بها تحصينهما والبدء بعملية التطور والتنمية لمجتمعاتنا.
إن الثورة السورية الآن هي مربط الفرس والعتلة المركزية الكبرى في تحقيق كل ما يقال من الأطماع الإيرانية‒الإسرائيلية‒الشرقية‒الغربية، ولذلك تعاني الأمرّين من الكوارث والمآسي، وعلى القيادات السياسية للثورة أن تعي ذلك جيداً فتركّز بالدرجة الأولى على إنشاء القوة الداخلية المتماسكة الموحّدة لتستطيع من خلالها إدارة سياسة تستوعب التحدّيات الخارجية العظمى، ليس لمصيرنا فقط وإنما للمصير العربي كله وبخاصة مصير المشرق.
على شعوب المنطقة أن تعي جيداً أنّ عصر الامبراطوريات قد ولّى وانتهى، وأن التاريخ يبقى ماضياً يفيدنا ليس باستعادته كما كان فهذا محال ‒لأنه ببساطة يعني إعادة التطور البشري آلاف السنوات‒ وإنما باستلهام قدرة الأمة على تحقيق ذاتها ومشاركتها في صنع الحضارة الإنسانية، وأن طريق الاستقرار والتنمية يمرّ عبر احترامها لحقوق ومصالح بعضها بعضاً وتعاونها ندّياً والعمل على إنشاء أعمدة راسخة لسلام شامل وعادل، فقد آن الأوان لتنهي هذه الشعوب مآسيها وكوارثها وتهب بسمة الحياة لمستقبل أطفالها.

مهدي كرّوبي: سياسي ورجل دين إيراني، من رفاق آية الله العظمى الخميني ومن الموالين لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويعتبر من زعماء المعارضة الإيرانية ومن المحسوبين على التيار الإصلاحي. ما زال سجيناً إلى اليوم بسبب مشاركته بالثورة الخضراء.
كيمشي: الرئيس السابق للموساد والمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، بنى مواقفه من إيران على سلسلة من الاجتماعات عقدها ‒كما قال‒ مع شخصيتين هامتين من أصحاب القرار فيها.

زر الذهاب إلى الأعلى