لعل مطهّر الإرياني أنبل من استوعب الفعل الحضاري لليمنيين؛ قضى عمره يحث من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية لننجو.
الدارس النبيه في القاهرة وألمانيا، والعلاّمة التاريخاني المتفرّد، قارئ المسند والشاعر العالي وطنياً، اللغوي المتفوّق والمبدع الخصوصي، فضلاً عن أنه المنتشي بروح القرى وما يمثّله الريف على وجه التحديد من قيمة اجتماعية متميّزة في الحياة اليمنية.
إنه المعجون برائحة الأرض بعد المطر، المصهر النوعي للأدب والتاريخ؛ ولقد كان همّه اليمن وأيديولوجيته اليمن، كما كان ولايزال بوجدان شغوف باليمن، اليمن القيمة ذات الأصالة وذات البسالة وذات المجد.
أغنية «الحب والبن» ملحمته الشعرية الباذخة، من ينساها..؟!.
الأغنية التي جاء فيها:
«صبرت صبر الحجر في مدرب السيل واعظم
ما احد تعذّب عذابي أو سهر أو تألم»
ثم من ينسى قصيدته الخالدة الدامغة التي في مطلعها:
«أيا وطني جعلت هواك دينا
وعشت على شعائره أمينا»
وفي السياق من ينسى أغنية «يا قافلة» التي كتبها إثر أحداث أغسطس المشؤومة:
«يا قافلة بين امسهول وامجبال
الله معش حامي وحارس
يا قافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليل عابس
يا قافلة صفّي صفوف الرجال
واستنفري كل الفوارس
قولي لهم عاد الخطر لايزال
لا تأمنوا شر الدسايس»
كذلك من ينسى أغنية «البالة» عظيمة الأبعاد والدلالات التي كتب كلماتها ولحّنها علي بن علي السمة رحمه الله وفي أغنية «البالة» تتجلّى عظمة الشاعرية التي تتخلخل أعصاب الإرياني:
«خرجت أنا من بلادي في زمان الفنا
أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
وماتوا أهلي ومن حظ النكد عشت أنا
عشت أزرع الأرض وأحصد روحي الذاوية»
الحاصل هو أن قصيدته الغنائية الفذّة للجيش «فوق الجبل» تحضرنا بشدة هنا فيما نكرّرها كل حين بروح تأمل للجيش أن يكون الحامل الأساس لفكرة الدولة كدولة:
«فوق الجبل حيث وكر النسر، فوق الجبل.. واقف بطل محتزم للنصر، واقف بطل.. يزرع قُبل في صميم الصخر، يزرع قُبل.. يحرس أمل شعب فوق القمة العالية.. في الحيد يا تالقه ياللي ظلالش برود، وقت الحمى رفرفي بالظل فوق الجنود.. وإن جا المطر والزوايب والبروق والرعود، فكنّنيهم وكوني فوقهم حانية، ويا حنايا الضياح، من لفح برد الرياح ومن صقيع الصباح كوني لهم حامية».
استطراداً فإن من قصائد الإرياني ذات الشجن الفلكلوري التي اشتهرت مغناة «يا دايم الخير دايم» ، «ألا جينا نحيِيكم» ، «قالت الهائمة» ، «خطر غصن القنا» ، «وقف وودّع» ، «صوت فوق الجبل» ، «ما أجمل الصبح» ، «صوت جا من سبأ» ، «يا بلادي نحن أقسمنا اليمينا»... إلخ.
على أنه مطهّر الإرياني صديق الفلاح ومواسم الزراعة والحصاد، كما هو شقيق الجندي والعاشق والمهاجر والعامل، سليل ملوك اليمن القدماء، واليمني المعتز بيمنيته منفتح ومتجدد على الأزمنة المتعدّدة؛ من أعماله الثرية: تحقيق كتاب «شمس العلوم» لنشوان بن سعيد الحميري بالاشتراك مع الدكتور حسين العمري والدكتور يوسف محمد عبدالله، وهو العمل الذي صدر في اثني عشر مجلداً، إضافة إلى «صفة بلاد اليمن عبر العصور من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر الميلادي» بالاشتراك معهما أيضاً.
لقد أعاد مطهر الإرياني الحياة إلى عديد من النقوش المسندية المهملة، وفي كتابه الضليع «نقوش مسندية وتعليقات» ما يجعلنا نزهو بتجربته الثرية كموسوعي مثابر لا يتكرّر في تألقه وكمؤرخ بوعي لطالما أبهرنا.
فيما يعد كتاب المعجم اللغوي “اليمني” من ذخائر مطهر الإرياني، وفيه يوثّق لآلاف من المفردات اللغوية مما في اللهجات اليمنية مما لا نجده في المعجمات العربية.
تحية لروحه الجموحة من أجل إعادة استيعاب الفعل الحضاري الذي افتقدناه منذ عصور.
تحية مثخنة بالإجلال للرائد مطهر الإرياني، مدير التحرير الأسبق لصحيفتي «الجمهورية» و«الثورة».
تحية شاسعة للانثروبولوجي الضليع، والحكواتي الفاتن، والمعرفي الوطني السامق الذي يعد واحداً من أعظم الذين نسجوا رايات سبتمبر وأكتوبر بكل ما تنطوي عليه من أبعاد قيمية وطنية ملهمة وخلابة.