أبو محمد الحسن الهمداني: العالم اليمني الموسوعي الذي اكتشف الجاذبية الأرضية قبل 12 قرناً
قليلون هم الذين يحيطون علماً بشخصية لسان اليمن العالم الموسوعي أبي محمد الحسن الهمداني ، والاقل منهم من وقف على حضوره الابداعي، والموسوعي في الثقافة العربية.
من احدثكم عنه مضى عليه اكثر من الف عام، ولم يكن أحد ابرز رواد عصره فحسب، بل مثل فكراً علمياً متقدماً لعلوم اشتغل بها عالمنا الحديث والمعاصر.. فلقد قال بكروية الارض، وتحدث عن خطوط الطول والعرض، وعن الجاذبية الارضية، وبحث في علم الاراضة (الجيولوجيا) واستخراج المعادن، وتحدث عن سرعة الصوت والضوء، واكتشف الاكسجين ودلل على وجوده معملياً.. وكتب في الجغرافيا الوصفية، وفي التاريخ والانساب، والآثار، والفلك، والنجوم، فضلاً عن تفقهه في الدين وفي الادب العربي شعره ونثره ونقده .. واليه يعود الفضل في إزاحة الستار عن القلم الحميري والمساند الدهرية التي القى عليها اضواء كاشفة خلدها بالقيد والتبجيل في حينه، مايسر على المستشرقين في العصور المتأخرة فك رموز القلم المسند واكتشاف الصلة الوثيقة بينه وبين الخطوط اللحيانية والثمودية والصفوية، والتي انتشرت في الاردن وبادية الشام والاطراف الشمالية للجزيرة العربية.لقد نبغ عالمنا الهمداني من بين معاطن الابل، وقوافل الجمالة وتخرج في مدرسة العصامية، وعركتة المعاناة، وشحذ التحدي همته، ولم يحل البعير بينه وبين أن يصبح عالماً وفيلسوفاً.. فلقد جعل من جمله وسيلة معرفية جاب بها جزيرة العرب، وجال مع ابيه منذ نعومة اظفاره في الاقطار، وتنقل بين صنعاء وصعدة ومكة والعراق والشام عبر بوابتها التاريخية معان.
وبالقدر الذي تحمل عالمنا الاهوال واوذي في فكره، وعلمه، وحورب في حياته، وتعرضت كتبه بعد مماته للحرق والاتلاف فإن شهرته كانت قد طبقت الآفاق، ودخلت كتبه الاندلس، واهتم بها امراؤها، وحفظ له الاندلسيون 23عنواناً.. وقال عنه القاضي صاعد بن الحسن الأندلسي - قاضي طليطلة، وجدت بخط امير الاندلس الحكم المستنصر بالله الناصر عبدالرحمن الأموي ان ابا محمد الهمداني توفى بسجن صنعاء في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
ووصفه علي بن الحسن القفطي الشيباني المتوفى عام 646 ه في كتابة انباء الرواة في انباء النحاة بأنه نادرة زمانه وفاضل أوانه الكبير القدر، الرفيع الذكر، وصاحب الكتب الجليلة، والمؤلفات الجميلة، لو قال قائل: إنه لم تخرج اليمن مثله لم يزل لأن المنجم من اهلها لاحظ له في الطب، والطبيب لايد له في الفقه، والفقيه لايد له في علم العربية وأيام العرب وأنسابها، وأشعارها، وهو قد جمع هذه الانواع كلها وزاد عليها.
وإذاً فنحن بإزاء عالم فذ يقتضي منا الوقوف على شيء من سيرته قبل الحديث عن فكره الموسوعي، وتفكيره العلمي المتقدم، فهو أبو محمد الحسن بن احمد بن يعقوب بن يوسف بن داود بن سليمان الارحبي البكيلي ويستدل من المقالة العاشرة من كتابه سرائر الحكمة، انه ولد بصنعاء يوم الاربعاء 19صفر سنة 280ه أي حوالي 893م وكان أهله يقطنون في الاصل خراب المراشي من قضاء برط في الجزء الاعلى من مساقط جوف معين يجمع سكانها بين عيشة التبدي والتحضر، وقد انتقل جده داود وابنه يوسف إلى الرحبة شمال صنعاء ثم سكن يوسف صنعاء، وسكن فيها اولاده من بعده.
ويوافق مولد الحسن الهمداني سنة خروج الامام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين من الرس في أرض الحجاز إلى اليمن في خرجته الاولى بدعوة من بني فطيمة من خولان صعدة، وذلك إبان خلافة المعتضد العباسي الذي كان عامله على صنعاء علي بن حسين المعروف بجفتم.
ويذكر الحسن الهمداني في المقالة العاشرة المذكور أنه منذ بلغ السابعة من عمره، بدأ يحادث النفس بالاسفار، وكان ابوه رحالة، كما كان لأجداده بصر بالإبل منذ أن كانوا في شرق اليمن ولما تركوا البداوة، واستقروا بصنعاء اشتغلوا بالجمالة، والبعض منهم عني بالصناعات كالتعدين، وقد كان لذلك اثره في صقل شخصيته.
وفي الخامسة عشرة من عمره استقر مع أهله في صعدة، وشارك أهله في الجمالة، ولما بلغ سن الخامسة والعشرين، رتحل إلى مكة المكرمة طلباً للعلم، فقد كانت إذ ذلك من مراكز العلم، ويؤمها كثير من علماء البلدان الاسلامية لاداء فريضة الحج أو للمجاورة، فتسنى للحسن الهمداني أن يجاور فيها اكثر من ست سنوات، وأن يجلس إلى العلماء ويروي عنهم، وتفتحت له آفاق المعرفة، وانفتح له باب نفيس من المنطق فازداد منه، وانكشط عنه كثير من الجهل واتسعت بسطته في العلم، فعلم شيئاً من علم الاخبار، وكتب صدراً من الحديث والفقه ورواه، ومال إلى مذهب الجماعة كما قال ذلك بنفسه في المقالة العاشرة، وتصدر للتدريس.
وكانت له صلة بعلماء العراق، فقد صحب أهل زمانه من العلماء وراسلهم وكاتبهم، وممن عاشرهم من العلماء أبوبكر محمد بن القاسم بن بشارالانباري، وهو احد عيون العلماء باللغة واشعار العرب، وايامها والذي كان يختلف بين صنعاء وبغداد وكاتب الهمداني ابا عمرو النحوي صاحب ثعلب وابا عبدالله الحسين بن خالويه وكان الهمداني يعتد بأقوال شيخه أبي نصر محمد بن عبدالله اليهري الحميري في كل مايورده من أخبار اليمن وانساب أهله ومن اشهر مشايخه محمد بن عبدالله الاوساني الحميري، وكأن الهمداني يتلقى معارفه عن رواة وعلماء واناس من أهل قطره وعمن يتوسم فيه المعرفة من الاقطار الأخرى وقد اكثر النقل عن «بطليموس»، بل لخص كتابه في مقدمة «صفة جزيرة العرب» وتأثر كثيراً ببعض الآراء الواردة في تلك الكتب المترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية التي وصلت إلى صنعاء حين كان وزراء الدولة العباسية في صنعاء من البرامكة وغيرهم ممن كانت لهم صلة بالابناء وهم بقايا الفرس.
ولدى عودته من مكة المكرمة في حو إلى سنة 311ه اقتنى الكثير من الكتب، كدواوين الشعر ومؤلفات ابن الكلبي في الانساب وغيرها،، ونزل في مدينة صعدة مرة اخرى وكانت إذ ذاك كورة بلاد خولان وقاعدة أئمة الزيدية، ومحطة هامة على طريق التجارة الممتدة من أقصى جنوب اليمن عبر مكة إلى بلاد الشام، ونقطة تجمع الحج من مختلف الجهات اليمنية، وكان قد توفر لمدينة صعدة استقرار نسبي خلال فترات الهادي وابنيه من بعده، المرتضى، والناصر، وادى ذلك إلى استقطاب كثير من االعلماء والادباء والشعراء وطلاب العلم والتجار من داخل اليمن وخارجها، ونجم عن ذلك قيام حركة أدبية وفكرية، ونشاط تجاري، وقد افاد الحسن الهمداني من فنون العلم، وأسهم من جانبه بنصيب وافر ولاسيما في علوم الاخبار والانساب والشعر، اذ لم تكن صعدة قبل ذلك من المدن التي رحل اليها اصحاب الحديث كصنعاء وبالتالي لم تنتشر أخبارها، وقل وقوف النسابة على انسابها، وقبائلها وبطونها من خولان، فكان للهمداني باع طويل في هذا الحقل، مما زاد من مكانته العلمية بين اهل صعدة واستحوذ على رضا القبائل من خولان وما جاورها من همدان وحمير، الامر الذي اوغر صدور شانئيه وجره إلى حلبة الصراع السياسي الذي صدر إلى صعدة انعكاساً لما ابتليت به حاضرتا دولتي الخلافة الأموية والعباسية، فما كان له من بد الا ان ينظم قصيدته الدامغة تحت وطأة الخطأ المتبادل، ودفع الثمن سجوناً ومطاردات لجزئية دفع اليها دفعاً، وظلت تلاحقه مدى حياته وبعد مماته ، ولم تشفع له علومه وغزارة معارفه بقدر مازادت من اوار الحقد عليه، لكنه كان أقوى من كل التحديات واستطاع ان يتجاوزها حين آثر اعتزال مدينتي صعدة وصنعاء وما سادهما آنذاك من أسباب الفتن القائمة على التمذهب السياسي الذي كان كل واحد من دعاته يريد ان يفرضه على الناس ولو بشفار السيوف.
ولازم مدينة ريدة التي قضى فيها بقية حياته وسط رهط من اللغويين، منصرفاً انصرافاً كلياً إلى التأليف الغزير، حيث كتب فيها كتاب «الاكليل» باجزائه العشرة، والذي يعتبر موسوعة الحضارة اليمنية القديمة، وصنف من بعده كتابه «صفة جزيرة العرب»، وغيرهما من المؤلفات.
وقد أورد القاضي المحقق محمد بن علي الاكوع الحوالي ، قائمة بمؤلفات الهمداني وهي:
- الاكليل عشرة أجزاء (ظهر منها أربعة أجزاء 10،8،2،1).
- السير والاخبار (مفقود).
- صفة جزيرة العرب.
- المسالك والممالك اليمنية (مفقود).
- االيعسوب (مفقود) (وهو في فقه الصيد وحلاله وحرامه، والأثر الوارد فيه، وكيفية الصيد، وعمل العرب فيه وغريب ذلك نحوه، والشعر فيه).
6- الأيام(مفقود).
7- سرائر الحكمة (طبعت منه المقالة العاشرة).
8- الزيج (مفقود).
9- توحيد الزيج (مفقود).
10- القوى في الطب (مفقود).
11- الحيوان (مفقود).
12- المطالع والمطارح (توجد نسخة منه في مكتبة الاسكندرية).
13- الجوهرتان العتيقتان المائعتان من الصفراء والبيضاء (مطبوع).
14- الحرث والحيلة (مفقود).
15- مفاخر اليمن ووقائعها (مفقود).
16- أخبار الأبل (مفقود).
17- اخبار الاوفياء.
18- اسماء الشهور والايام (مفقود).
19- الدامغة وتتكون من 600 بيت (مطبوع).
20- تفسير الدامغة (مطبوع).
21- ديوان شعر الهمداني (مفقود) ويروى انه يقع في ستة مجلدات على رأي ابن خالويه).
22- الوشي المرقوم (مفقود).
من هذه التوطئة وعوداً على بدء يمكننا ان نقرأ الحضور الابداعي والموسوعي للحسن الهمداني في النقاط التالية:
كروية الارض:
كان الهمداني في طليعة القائلين بكروية الارض ذكر ذلك في كتابه «صفة جزيرة العرب» بقوله:
«اعلم أن الارض ليست بمسطحة ولا ببساط مستوى الوسط والاطراف ولكنها مقببة، وذلك التقبب لا يبين مع السعة إنما يبين تقبيبها بقياساتها إلى اجزاء الفلك، فيقطع منها افق كل قوم على خلاف مايقطع عليه افق الآخرين طولاً وعرضاً في جميع العمران، ولذلك يظهر على اهل الجنوب كواكب لايراها اهل الشمال ويظهر على اهل الشمال مالايراه اهل الجنوب ويكون عند هؤلاء نجوم ابدية الظهور والمسير حول القطب وهي عند اولئك تظهر وتغيب وسأضع لك في ذلك مقياساً بيناً للعامة، من ذلك ان ارتفاع سهيل بصنعاء، وما سامتها اذا حلق زيادة على عشرين درجة، وارتفاعه بالحجاز قرب العشر، وهو بالعراق لايرى الا على خط الأفق ولا يرى بأرض الشمال، وهنا لاتغيب (بنات نعش)، وهي تغيب على المواضع التي يرى فيها سهيل، فهذه شهادة العرض، واما شهادة الطول فتفاوت اوقات البدء الكسوفات، ووسطها وانجلائها على خط فيما بين المشرق والمغرب، فمن كان بلده اقرب إلى المشرق كانت ساعات هذه الاوقات من اول الليل والنهار اكثر ومن كان بلده اقرب إلى المغرب كانت ساعات هذه الاوقات من آخر الليل، وآخر النهار منكوساً إلى اولها اكثر ، فذلك دليل على تدوير موضع المساكن والارض وان دوائر الافق متخالفة في جميع بقاع العامر، ولو كان سطح الارض صفيحة، لكان منظر سهيل وبنات نعش واحداً».
الجاذبية الارضية
جاء في كتاب «الجوهرتين العتيقتين المائعتين من الصفراء والبيضاء» للهمداني في سياق حديثه عن الارض وما يرتبط بها من اركان ومياه وهواء قوله: فمن كان تحتها - تحت الارض- فهو في الثبات في قامته كمن فوقها، ومسقطه وقدمه إلى سطحها الاسفل كمسقطه إلى سطحها الاعلى وكثبات قدمه عليها فهي بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قواه الحديد إلى كل جانب، فأما ماكان فوقه. فان قوته وقوة الارض تجتمعان على جذبه، وما دار به، فالارض اغلب عليه وماكان بينه وبين الارض فإنه اغلب عليه اذا كان الحديد مثلاً يسر اجزاء الحجر ، والارض اغلب عليه بالجذب، لان القهر من هذه الحجارة لايرفع العلاة ولا سفلة الحداد.ويتضح من هذا النص اكتشاف الهمداني لحقيقة ان الكرة الارضية تجذب الاجسام في كل جهاتها، وهذا الجذب انما هو قوة طبيعية مركزة في الارض، وتترك حول الارض مجالاً فعالاً اشبه بذلك المجال الذي تتمتع به القطعة المغناطيسية .
ولولا هذه الخاصية لكانت كروية الارض ودورانها سببين اساسيين في طيران ماعلى سطح الارض من كائنات ومحيطات واشياء غير ملتصقة بها طبيعياً.
لقد ربط الهمداني الخاصية بالارض، ولم يقل بالنص ان الاجسام تجذب بعضها البعض، وهو المفهوم الذي يشكل اساس قانون «نيوتن»، للجاذبية الارضية.
لقد كانت محاولة الهمداني في فيزياء آلية سقوط الاجسام إلى الارض محاولة مبكرة نجحت في طرق التقنين الذي انجزه لاحقاً.
سرعة الصوت والضوء:
لقد كان الهمداني أول من فرق بين سرعتي الصوت والضوء، ويتضح ذلك من ملاحظته الدقيقة وتطبيقه العملي الذي وصف به الظاهرة على جبل تخلي (جبل مسور حجة)، قال بعد ذكر ارتفاع الجبل، وتكاثف السحاب: «فإذا وقع فيه لامعةالبرق، وتبعها صوت الرعد عجلاً على قدر بعد العين من البرق، ومثال ذلك إذا كنت في بعض السهول، وكان منك على مدى البصر من يضرب بصاقور (فاس كبير) في حجر، أو بفأس في شجر، فنظرت إلى وقفة الفأس، لم يتأد إليك صوتها إلاّ عند الضربة الثانية، وصوت الضربة الثانية إلا عند وقوع الضربة الثالثة.
غاز الاكسجين وظاهرة الإحتراق:
للهمداني فضل كبير في اكتشاف غاز الاكسجين الذي أطلق عليه أسم النسيم، وأنه ضروري للتنفس والاحتراق، وقدم لذلك ملاحظات وأجرى عدداً من التجارب، وعززها بالأدلة والشواهد العملية، باسلوب علمي سبق ما توصل إليه لافوازييه بثمانية قرون.
ففي الجزء الثامن من كتاب الاكليل، وفي باب القبوريات اعترض الهمداني على خبر مفاده ان رجلين دخلا مغارة، وامضيا فيها وقتاً طويلاً، وهما يحملان شمعة يستدلان بها على رؤية الطريق المتعرجة العميقة.. واخذ يسرد تفاصيل الخبر في خمس صفحات، انهاها باعتراض علمي قال فيه: «... هذا الحديث فيه زيادة لا تمكن، لأنهم ذكروا المسلك في المغارة، ثم دخولهم منها إلى هوة، وابيات، فقل بها النسيم، ويعجز بها التنفس، ويموت فيها السراج.. ومن طباع النفس، وطباع السراج ان يحييا ما اتصلا بالنسيم، فاذا ما انقطع في مثل هذه المغارات العميقة، والخروق المستطيلة لا يثبت فيها روح ولا سراج».
ودعم اعتراضه السابق بسوق امثلة تجريبية معاشة، فقال: «... ومن ذلك خرق قلعة ضهر، وهو مستطيل جداً، ويقول الناس فيه مال عظيم، وقد دخله جماعة بالمصابيح والشمع، احدهم ابو محجن بن طريف غلام آل يعفر، وكان اميراً يطلب ما فيه ضنين، فلما تغلغلوا حصرت السرج في موضع انقطاع النسيم ثم طفئت، واخذ حاملها بالكظم فنكصوا».
هم يرون ان الجن اطفأت السرج وليس كذلك، ولعلّ هذا الخرق لا شيء فيه، واذا بلغت السرج موضع انقطاع النسيم نشص التهاب النار اللاحقة للهواء، اذ هو مجانس لعنصرها.
ويقدم الهمداني الدليل الثاني بقوله: «والدليل على ذلك انك لو اخذت سراجاً، وملأته زيتاً صافياً أو سليطاً وصيرت فيه ذبالة جديدة، والقيته على ظهر مستوى السطح، ثم قلبت على السراج مكباً لا خلل فيه، وطينت على ما يتخلل من النسيم من بين خروقها، ووجه السطح لمات السراج مكباً اذا انقطع عنه النسيم».
وقدم دليلاً ثالثاً من الشواهد اليومية في حياة الناس بقوله: «ومن ذلك ان التنور تسجر للهريس، والفرني، والمشوي من الحملان والجواذب، ويكثر جمرها، فاذا ختم عليها طفئت النار، ورجع الجمر فحماً، ولم يبق النضج الا بالتهر (البخر) فاذا فتحت لم تجد ناراً، ولم تجد الا حرارة التهر الواصلة من الجدار واسفل التنور».
و إلى ابعد من ظاهرة الاحتراق، تحدث الهمداني كذلك عن ظاهرة القابلية المرتبطة بها، وقد اورد نصاً في هذا الاتجاه في كتاب الجوهرتين العتيقتين جاء فيه:«واما ما يقبل النار، فإنه متفاضل في القبول على قدر ما فيه من اجزاء النار، كالحراق يقبل القادحة التي لا يقبلها غيره، والكرة التي تقبل داخل الزند، ثم الكرسفة التي تقبل شعلة السراج عن بعد من محاذاته، والكبريت والنفط، ثم بعد ذلك الحلفاء، واليراع، والسلخت من الحطب، ثم الجزل حتى يبلغ الدوح، وكذلك اشياء اخرى لا تقبل النار قبول الحطب، اذ ليس فيها من اجزاء النار ما فيه، ولكن قبول صدقه كالحجر الذي يصير نوره، والحجر الذي يصير حديداً، والحجر الذي يصير اسرباً ومرتكاً وفضة، والطين الذي يصير فخاراً، واخر يصير حجراً مثل الاجر المحترق» ويقول كذلك: «ويقبل الماء النار عن حاجز، وتقبل النار الهواء وتقوى به لاتصالهما، ولا تبقى في موضع لا هواء فيه» ولقد كرس الهمداني لعلاقة قابلية ولا قابلية المادة بالاحتراق احدى عشرة لفظة في مقطع صغير، فضلاً عن ايراده لفظة التصيير الملتصقة بالقابلية خمس مرات.
وهكذا تظهر لنا النصوص المذكورة آنفاً ظفر الهمداني بالاستقصاء والبرهان بشكل حاسم على علاقة الهواء بالاحتراق، وبالتنفس قبل ظهور اية نظرية مماثلة في اوروبا بنحو ثمانية قرون.
الاراضة والتعدين:
والاراضة يقصد بها علوم الارض المعنية بدراسة طبقاتها من حيث مراحلها التاريخية أو ترسبات موادها المختلفة، ودراسة المناجم، وانواع المعادن والاحجار، والحركات الارضية والتضاريس، وعلم البحار.
ويبلغ عدد هذه الفروع نحواً من 24 فرعاً، ويرى بعض الباحثين ان ما صنعه العرب في العصر الوسيط يمكن اعتباره البداية العلمية لاثنين وعشرين فرعاً من علوم الارض، واما الجيولوجيا التصويرية والهندسية فهما من منجزات العصر الحديث.
فبالعلم جابر بن حيان يبدأ تاريخ الكيمياء التجريبية، وتاريخ المعادن والتعدين، والاحجار الكريمة، وتت إلى من بعده الرواد في حقل الاراضة، ومنهم الكندي والرازي والطرسوسي والجلدكي، والحسن الهمداني- موضوع البحث- والذي صور ما تكتنز به ارض اليمن من المعادن الثمينة ببيت الشعر في قصيدته الدامغة:
وأنفس جوهر للارض فينا.. معادنه غنائم غانمينا
وقال في شرح هذا البيت: ان باليمن من المعادن ما افترق في غيرها فمن ذلك الذهب، والفضة والحديد والجزع والبقران والبلور.
وقد خص المعادن والتعدين بشيء من التفصيل في مؤلفه المتميز الجوهرتين العتيقتين، وجعله في 57 باباً، ويعد الاول من نوعه ككتاب مفصل، يصل الينا من العصور الوسطى، وهو بمثابة كتاب علمي في المعادن والكيمياء ودليل علمي في صنعة سك النقود، ويعنى بصفة رئيسية بصنعة الذهب والفضة، ابتداء من استخراجهما من مناجمهما ومروراً بتنقيتهما وضبط عيارهما، والطلاء والتلحيم بهما، وانتهاء بسك النقود منهما.
ومما يتميز به ويخالف به علماء عصره، جزمه بأن الذهب لا يأتي الا من معدنه، ولا تأتي الفضة الا من معدنها، وليس من معدن آخر، ولا يستعمل الاكسير في سبيل تحويل المادة، وانما تستخلص المعادن من خاماتها بالتنقية.
ويختلف كتابه عن مؤلفات الكيمياء الاخرى في اسلوبه، وذلك ان الامر عنده يتعلق بعمليات فنية كيميائية يصفها في كتابه بدقة، خلافاً لما ينظر اليها عند الاخرين كطقس يمارس باستعمال لغة سرية بما فيها الاسماء التي ترمز لتلك المعادن.
فالهمداني يبدو في كتابه هذا عالماً دقيق الملاحظة استقى معلوماته من اهل الخبرة والمعرفة، وممن اعترف اتباعهم بتفوقهم، وبغزارة علمهم ودقة معارفهم.
وتعتبر عائلة الهمداني مصدراً، فأبوه امده بمعلومات قيمة عن تنظيف الذهب، وكان جده الأعلى مسؤولاً لدى الدولة، وعنه اخذ خبرة عن كيفية اختبار الذهب، كما استقى الهدماني معلوماته من اصحاب المهنة انفسهم، وخاصة من ضارب لسكة في صنعاء، ومن ضاربها في صعدة ابي اسماعي ابراهيم بن محمد بن عبد الرحمن، وقد امده بأخبار عن معادن الذهب الافريقية وعن تاريخ دار السكة في صنعاء، وعلّمه كيف يحسب عيار الذهب، وكان الهمداني يرجع إلى الحرفيين، كل في صنعته، فقد امده الصائغ احمد بن ابي رمادة بمعلومات عن معدن الفضة في منجم الرضراض، وحدثه ابو الحسن الذي كان يشتغل بالتعدين عن معادن الماس، واخرون امدوه بمعلومات عن تكوين الذهب، ومنهم عمال التعدين انفسهم ممن يتحدثون العربية بفصاحة، أو الفرس الذي كانوا يشتغلون بالفضة.
وكان الهمداني موضوعياً في مصادره فهو يقارنها ببعضها، ويعرض الآراء المختلفة المتعلقة بأمر واحد.
ولقد خالف البيروني، وابن سينا في كونه ليس عدواً للكيمياء بمفهومها القديم، فهو لا يذمها، وانما يسميها بتسميتها الصحيحة، اذ انها تعنى في الواقع بتقليد الطبيعة، وان الذهب والمعادن والاخرى تنظف بالمواد نفسها وتتأثر جميعها بالطبيعة.
ولم تقتصر ابداعات الهمداني على العلوم البحتة فحسب، بل شملت كذلك تناولاتها لكثير من العلوم الاجتماعية، وما اتصل بها من علوم العرب من الشعر والنثر والبيان والايام والانساب والسير والاخبار، وتفرد بقراءة خط المسند، وعقد المقارنة بين قواعد الكتابة في المسند وبينها في العربية.
ورائده في هذه العلوم تحري الدقة، والتمحيص، وتقديم الدليل العلمي على رأيه في ما يرجح او يثبت أو يدحض، نلاحظ ذلك في جميع كتبه، ومباحثه ومن ذلك ما اسس عليه كتاب الاكليل الذي توقف فيه عند قضايا كثيرة جغرافية، وعمرانية وتاريخية ولغوية وادبية، واخبارية وانساب، ما جعله بحق دائرة معارف، وسفراً لا نظير له.. فهو لم يتخل عن تحري الدقة حتى في اكثر المباحث اختلافاً لمبحث الانساب، حيث يورد اقوال النساب واختلافهم في اي نسب مما يتطرق اليه الاختلاف ثم يرجح احداها، ويدعمها بالحجة والبرهان المقنع بكلمة موجزة بحيث لا يظهر ان هناك تحيزاً أو ميلاً بدون دليل أو شبه دليل.
وهو يتمتع بالقدرة على الوصف الدقيق لما يكتب عنه، ومن ذلك على سبيل المثال قيامه بوصف قصر غمدان على لسان ابن شرية: «كان للغرفة اربعة ابواب قبالة الصبا والدبور والشمال والجنوب، و عند كل منها تمثال لاسد من نحاس، فاذا هبت الريح من الارياح زأر ذلك التمثال الذي هو قبالة ذلك الباب، فان تناوحت الارواح جميعاً زأرت جميعاً.
ويتابع الهمداني وصف القصر من الداخل بدقة متناهية، تجعل القارئ يتصور القصر ماثلاً امامه، وهو ما قد يمكن رساماً ماهراً من اعادة رسم لوحة مجسمة لهذا القصر، وفقاً لهذا الوصف.
والخبر الذي يورده الهمداني، يخضعه للعقل والمنطق، فهو يقوم برواية الرواية كما سمعها، ويورد الخبر كما تتناقله السنة الناس، ثم يعطي حكمه على امكانية صحتها، محكماً المنطق والعقل، ومثال ذلك ما يدعيه بعض الناس من ان الجن والشياطين هي التي بنت قصر سلحين، فهو يدحض هذا الادعاء وينفي القول من ان ذلك مكتوب في نقش مساند اليمن، مستنداً إلى معلوماته التاريخية، و إلى اسلوبه الاقناعي كقوله: «ولا يمكن ان تكون الجن كتبت هذا لعلتين، الاولى انهم ذكروا انهم بنوا سلحين في سبع وسبعين سنة، ولم يكن بين موت سليمان، وصدر ملكة سبأ عنه الا سبع سنين بقول المكثر، وعند موته رفعت الجن ايديها من الخدمة، وقبضت رباقها من ملك السحرة، والثانية قول علقمة يذكر ان الناس بنوها لا الجن:
ابعد سلحين لا عين ولا اثر
ام بعد بينون يبني الناس ابياتا
ويقول الهمداني في الجزء الثامن من كتاب الاكليل «وقد اكثر الناس في بناء الجن لقصور اليمن، فما ذلك الا من زيادات الناس في الاحاديث».
وفي موضع آخر من نفس الكتاب يقول الهمداني كذلك: «والعرب ينسبون كل مستطرف من البناء إلى سليمان بن داود عليه السلام، كما ينسبون كل قديم إلى عاد».
وحيث روى الهمداني عن ابن هشام الكلبي، عن الرائي قصة الرجل الذي عاش اكثر من ستمائة سنة، عقب على ذلك بقوله: هذا حديث فيه حيف.
ورأينا من قبل كيف كان يحرر الحقائق العلمية من الغموض والابهام والخزعبلات التي حاكتها الروايات والأخبار التي تفتقر إلى الموضوعية والدقة العلمية، ويسوق لابراز حقائق الامور الحجج العلمية والتجريبية كما في موضوع اثبات حاجة النفس والسراج إلى النسيم.
وكثيراً ما يستخدم الهمداني لفظة قيل ويقال، عندما يقف على موضوع غير بين الملامح، ثم انه يذهب إلى تعزيز معلوماته ورفدها بالشواهد من الكتاب والسنة والشعر والأمثال والرواة المعروفين.
وعلى أساس من هذا الاسلوب العلمي تأتي اسهامات الهمداني، وآثاره وكتاباته في العلوم الأدبية والاجتماعية ففي مجال الادب: شهد القرن الرابع الهجري بداية حركة شعرية واسعة، والتي اخذت تغذيها تنافسات وصراعات سياسية ومذهبية وقيام الدويلات التي استقطبت في خصوماتها الشعراء، واغدقت عليهم الاعطيات وعلى سائر الادباء والكتاب الذين ذهبوا يمتدحون فضائل دول ويذمون أخُر، ويدافعون عن حكام، ويهجون آخرين، وينتصرون لهذا المذهب أو ذاك، وكادت اليمن بتاريخها العريق، وشمائل اهلها وفضلهم على امتهم، وعلى نصرة الاسلام، تنسى، بل لقد تجرأ البعض عليها بالنكران والجحود، فما كان من الهمداني الا ان رشح نفسه لخوض معركة ادبية وفكرية وسياسية، دفاعاً عن اليمن ومجدها الحضاري، ونبل فضائلها وعظيم مكارمها، وقام بجهد خلاق في التاريخ لأنسابها وتبيان آثارها، ومآثر حضارتها وآدابها وسائر فنونها.
ولقد تسبب الذين اجترحوا السيئات في حق اليمن وأهلها بارتفاع حمىّ الغيرة لدى الهمداني، ما جعله يحيد في بعض التعبيرات عن اسلوبه العلمي المعهود، ولعله كان مضطراً تحت وطأة الظلم ان يعمد إلى الجهر المضاد بنفس ما جهر به المتطاولون على اليمن من سوء القول، فقد اشتهرت له قصيدة الدامغة والتي مطلعها:
ألا يا دار هلا تنطقينا
فإنا سائلون ومخبرونا
وهي تقترب من ستمائة بيت، رد فيها على قصيدة للكميت بن زيد الاسدي، في المفاخرة والمفاضلة بين القبائل الشمالية والجنوبية، ثم ما لبث تحت وطأة خلافه مع الامام الناصر ان قام بشرح الدامغة دفاعاً عن احساب قومه، متحملاً في ذلك عنت العداوة والسجن، صائناً لسانه في كل الأحوال عن كل الاقذاع. والله يعفو عن من قد اتى زللا.
ولقد قدم الحسين بن خالويه (ت 370ه) من حلب إلى اليمن، واقام بمدينة ذمار يجمع ديوان شعر للحسن الهمداني، ويذكر السيوطي في البغية، ان هذا الديوان يقع في ستة مجلدات، ونجد نماذج كثيرة من شعره في كتاب الاكليل، كما اورد المحقق محمد علي الاكوع قصيدة مطولة للهمداني في مقدمة الاكليل بعنوان قصيدة الجار.
من جهة اخرى لفت الهمداني الانظار إلى الكاتب البليغ بشر بن ابي كبار البلوي (ت بعد 202 ه/ 807 م)، حيث اورد له احدى عشرة رسالة من رسائله، ووصفه بأنه كان من ابلغ الناس، وكانت بلاغته تتهادى في البلاد، وكان له فيه مأخذ لم يسبقه اليه احد، وبأن له قدرة عجيبة على استحضار ما يشاء من آيات القرآن، والسيرة النبوية متى يشاء، ودون اجهاد، وانه كان صاحب اسلوب متفرد في الكتابة الفنية وليس هناك من يحاكيه في «حسن اختلاس القرآن»، فقد جعل النص القرآني جزءاً اصيلاً من رسائله، وليس من يضاهيه من كتاب النثر العربي حتى اواخر القرن الرابع الهجري في نصاعة الاسلوب، بل انه يمثل قمة رفيعة في النثر العربي، ونموذجاً عربياً سابقاً للجاحظ، كما يمثل اسلوبه عملاً متقدماً ملحوظاً في بناء الرسالة النثرية على عبدالحميد الكاتب.
وتفرد الهمداني بأولوية التعريف بخط المسند، وقد خصص لحروف المسند باباً في الجزء العاشر من الاكليل، وعقد مقارنة بين قواعد الكتابة في المسند، وبينها في العربية في ما يخص حذف الالف اذا وقعت في وسط الحروف «الرحمن» ويفسر بعض الكلمات الحميرية الواردة في المساند فيقول ان التسلبي التجمع، والمسلبي المجمع بلغة حمير، في شرحه لاحد النصوص.
وقد اورد ابياتاً من الشعر بالحميرية مثل:
إني انا القيل إلى شرح
حصنت غمدان بمنهمات
وأورد ابياتاً بلغة عربية وبخط المسند:
شحرار قصر العلا المنيف
اسه تبّع ينوف
يسكنه القيل ذي معاهر
تخر قدامه الانوف
وقد قدم الهمداني خدمة جليلة لليمن ولأمته وللبشرية جمعاء بالتعريف بالمواطن التاريخية لقلم المسند الذي فك رموزه، وذكر محافد اليمن قصورها واسدادها وهياكلها وآثارها، ووصفها وصفاً شيقاً وعلى حقيقتها الماثلة لذلك التاريخ المضمخ بأمجاد تلك الحضارة، وابرز باعتزاز طبيعة نظام الحكم في اليمن، القائم على الاختيار والانتخاب الذي تؤيده الشورى المشار اليها في سورة النمل لقصة ملكة سبأ مع سليمان.
وبرع الهمداني في الجغرافيا الوصفية، وعُدَّ من فحول الجغرافيين الذين تضلعوا من هذا العلم، ونقبوا في غرائبه ونوادره، فقد كتب في هذا العلم عن رؤية ومعرفة في كتابه صفة جزيرة العرب، في ما يخص جزيرته، وكتب عن غيرها من خلال ما قرأ ونقل عن غيره، وسجل في كتابه هذا جغرافية وصفية للطبيعة والسكان، فذكر طبائع سكان جزيرة العرب، وذكر مساكن هذه الجزيرة، ومسالكها مياهها وجبالها ومراعيها وأوديتها، ونسبة كل موضع منها إلى سكانه، ومالكه على حد الاختصار، وعلى كم تجزأ هذه الجزيرة من جزء بلدي، وفرق عملي، وصقع سلطاني، وجانب فلوي، وحيز بدوي، وحدد بخطوط الطول والعرض موقع جزيرة العرب، وذكر اطوال مدن العرب المشهورة وعروضها.
وبعد:
فلعل في ما تقدم عرضه -على ما فيه من ايجاز- ما هو كاف لرسم صورة تقريبية لابرز ملامح فكر هذا العالم الموسوعي وآثاره العلمية والادبية.
ومن المناسب ان نختم الموضوع بالحديث -وان بايماءة سريعة- عن الاطار الزمني، والمضمون الفكري والثقافي للعصر الذي عاش فيه الهمداني، لما لها من انعكاس على فكره وموسوعيته.
ففضلاً عما تم التطرق اليه في سيرة الهمداني، عن اسرته ومجتمعه وحياة الترحال، وطلب العلم في مكة ومن اخذ منهم من العلماء أو قرأ لهم، فإن الهمداني ينتمي إلى فترة زمنية شكلت العصر الذهبي للثقافة العربية وازدهار العمران، واتاحت مجالاً رحباً امام الفكر الذي احتوى في احشائه شؤون الدين ومقاصده، وظروف المجتمع والحضارات الاخرى، وادرك ان النقل لا يلغي العقل، كما لا يلغي العقل النقل، وان اي تناقض بينهما ينفي الحضارة.. مما وسم ذلك العصر بقوة الفكر والابداع والاثراء الذي لا مثيل له في الفقه ومذاهبه، والكلام ومدارسه، والفلسفة وتياراتها، والسياسة وفروقها، والتعددية الدينية بمللها ونحلها، والتمايزات القومية بلغاتها وخصوصياتها وفي الفنون والآداب، وفي الانفتاح على مختلف الثقافات والحضارات، اذ تيسر للعقل العربي الاسلامي ان يؤدي دوراً حضارياً ريادياً، وان يرتقي إلى المستوى الذي يمكن من البحث عن الحكمة فهي ضالته، وانى وجدها فهو احق بها، وطلب العلم في شرع الله فريضة على كل مسلم ومسلمة، حتى وان بعدت الشقة فطلبه قائم ولو بالصين، وهذا ما جعل العقل العربي الاسلامي قادراً على التحرر من الخوف على دينه وعربيته ان تغزوهما علوم الاخرين ومصطلحاتهم، فإن العربية بالاسلام لغة الحضارة الانسانية جمعاء وهي من ثم قادرة على استيعاب المصطلحات واحتوائها في احشائها، بل ان مما يسجل بمداد الفخار، دور الحضارة العربية الاسلامية في صونها للملكية الفكرية لما ترجمه علماؤها من كتب الاقدمين وحضارتهم، وانقاذ ما اوشك ان يندثر من العلوم التي آلت حضارتهم إلى الزوال، فحققت بذلك الجهد الرائع تواصلاً حضارياً خدمت فيه البشرية على مر العصور، هذا فضلاً عما ارسته من سلوك اخلاقي، وامانة علمية ومنهجية في البحث العلمي صارت تقليداً يلتزم به العلماء والباحثون في مختلف العلوم في عصرنا.
لقد عاش الهمداني في ذلك العصر الذي اظهر نمطاً من العلماء والمفكرين الذين عاشوا الدين والدنيا، وابدعوا علمياً وفكرياً، من اصحاب معادلة الطبيب الفيلسوف، الفقيه، المثقف، العالم المكلف بتعمير الكون، امثال الكندي وابن حيان، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، وابن زهر، والبيروني والرازي وابن النفيس، وابن باجه وابن طفيل، وثابت ابن قرة، وابن القف وابو القاسم الزهراوي، وابن البيطار وابن ابي اصيبعه، وابن الهيثم وغيرهم من علماء الدين ورجال العلم في العصر العربي الاسلامي الوسيط، اولئك الذي رأوا ان النقل حافز لاكتشاف الكون، لانهم يمتلكون فكرة وكما يقول الامام علي كرم الله وجهه: «من كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة..»، وكذلك كان الهمداني واحداً من اصحاب تلك المعادلة، وعلماً من اعلام الامة، ورائداً بين العلماء الافذاذ، يمتلك فكرة.. وله في كل علم باع وعبرة.
المصادر والمراجع:
1- الاكليل الجزء العاشر - تحقيق محمد الخطيب القاهرة 1368ه.
2- الاكليل الجزء الثاني - تحقيق محمد علي الاكوع القاهرة 1966م.
3- الاكليل الجزء الثامن - تحقيق محمد علي الاكوع دمشق 1979م.
4- الاكليل الجزء الاول - تحقيق محمد علي الاكوع القاهرة 1963م.
5- صفة جزيرة العرب، ط/1 مكتبة الارشاد - صنعاء.
6- كتاب الجوهرتين العتيقتين حققه وقدم له د. كريستوفر تول اشرف على طبعه وترجم الدراسة د. يوسف محمد عبدالله ط/2 1985م.
7- الهمداني لسان اليمن: دراسات في ذاكرة الالفية تحقيق د. يوسف محمد عبدالله جامعة صنعاء 1407ه - 1968م.. شركة دار التنوير للطباعة والنشر بيروت - لبنان.
8- د. يوسف محمد الله: ترجمة الهمداني صياغة جديدة انظر الهمداني لسان اليمن (المرجع السابق).
9- هاشم الايوبي: الهمداني واللغة والواقع انظر الهمداني لسان اليمن (المرجع السابق).
10- القاضي محمد علي الاكوع: لسان اليمن الهمداني.. انظر الهمداني لسان اليمن (مرجع سابق).
11- محمود صغيري: الهمداني، مصادره وآفاقه العلمية، مركز الدراسات والبحوث اليمني 1981م.
* عضو مجلس الشورى، باحث وكاتب
* نشرت هذه المادة في صحيفة "26سبتمبر" أكتوبر 2008.