آراء

من تداعيات الاستئثار

لم تعد تداعيات ما يسمى «الربيع العربي» الذي تحوّل إلى شتاء قارس مجهولة الأسباب أو غامضة الدوافع، فقد تكشفت أبعادها، وأجمع الباحثون على أن البداية كانت احتجاجاً على استئثار بعض الحاكمين القابضين على زمام الحكم بالحديد والنار، والرافضين لمبدأ التداول السلمي للسلطة واستحدثوا فتح الباب للتوريث، وما رافق ذلك من إحباط وانسداد لأفاق التغيير. ويؤكد الباحثون أن استجابة الحكّام المعنيين بمبدأ التداول السلمي للسلطة، كانت كفيلة بأن لا تأخذ الأحداث مسارها المعروف، وتفرز هذا الواقع المخيف من الحروب الداخلية والتدخل الأجنبي وارتفاع نزعات التفتيت، وما يجرّ وراءه من مشكلات وصراعات داخل الإقليم، الذي هو في حقيقة الأمر يعاني ردوداً وأفعال تفتيت سابق، حكم على الأمة الواحدة أن تتحوّل إلى أقطار فاقدة الفاعلية ومفتوحة على التمزقات العرقية والمذهبية والجهوية إلى آخر ما كان مهندس التفتيت يتوخاه، ويهدف إلى الوصول إليه على المدى القريب والمدى البعيد.
لقد قيل حتى الآن الكثير عن دور الخارج وإيحاءاته بل ومشاركته في الدفع بموجة «الربيع العربي» إلى ما وصلت إليه، واستغلال الغضب الشعبي الذي كان تلقائياً وذا مطالب محدّدة، وفي مقدمتها رفض الاستئثار بالسلطة من قبل أنظمة نجحت تماماً في تحصين نفسها بالقوة اللازمة والاستعانة بالأنصار والمحاسيب وأصحاب المصالح الذاتية، لمقاومة أي تحرك للإصلاح أو للتغيير، وتجاهل المعارضة المستأنسة التي تحوّلت في كثير من الحالات إلى زينة وديكور يتفاخر الحاكم المتسلط بأن لديه أحزاباً ومعارضة، وأن دولته ديمقراطية ولا ينقصها سوى الاستمرارية والاتجاه نحو التوريث، لكي لا يهتز الاستقرار وتخرج السلطة من كنف العائلة وتقع في أيدي آخرين لا يحبون الشعب ولا يعرفون الإخلاص للبلاد (!!)
وكانت المفاجأة مثيرة ومدهشة بالنسبة لهذا النوع من الحكام عندما رأوا الشوارع والميادين مكتظة بأبناء الشعب، وهم ينادون بالتغيير ورحيل المؤبدين في كراسي الحكم.
وطرح الموضوع الآن وتناوله بالحديث مجدداً من أكثر من باحث ودارس للواقع العربي المؤلم، يعطي دروساً لن تكون كلها متأخرة وتأتي بعد فوات الأوان، فمعرفة الأسباب الكامنة بوضوح وقبل أن تتم التدخلات وتنحرف مسيرة «الربيع» تضعها أمام مسؤولية يتطلبها المستقبل الذي لا بد أن يأتي وألاَّ يكون نسخة من الحاضر، نفسها وحتى لا يكرر حكام المرحلة القادمة ما فعله أسلافهم ويعود الشعب العربي ليشرب من الكأس نفسها التي عافتها نفسه وسعى إلى تحطيمها أو تغيير محتواها.
وأود الإشارة هنا إلى أننا نبالغ في هجاء أنفسنا ونقول ونكرر أن العربي، حاكماً ومحكوماً، لا يفكر إلاَّ في يومه وفي لحظته الراهنة، ويكاد المستقبل لا يعني له شيئاً على الإطلاق، في حين أن هذا شأن أغلب البشر الذين لم يلحقوا بعد بقطار التحديث، ولم يدركوا تماماً أن اليوم يختلف عن الأمس، والغد يختلف عن اليوم، وأن حركة الحياة لا تعرف التوقف، وأن الشعوب التي يتوقف نشاطها وحركتها نحو التغيير والمستقبل تكون عرضه للانقراض.
لقد مضى زمن استعباد البشر ومضت معه أنظمة الاستئثار والإقصاء والنظر إلى الشعب باعتباره خادماً مطيعاً وأداة مسلوبة الإرادة، يحرّكها الحاكم المتسلط نحو اليمين تارة ونحو الشمال تارة، وهذا ما كشفته بدايات ما يسمى «الربيع العربي» قبل أن تذهب به الأهواء بعيداً وتجعل منه وسيلة لإغراق الوطن في الفوضى والعودة به إلى عصور الظلام، لكي يتصارع أبناؤه على قضايا فرغت منها الأمم الناهضة منذ خمسمئة عام، وتجاوزها العقل البشري النظيف المؤمن بالله وبالتعايش والتسامح ورفض الظلم والقهر والاستئثار.

زر الذهاب إلى الأعلى