النجم الذي ما غاب: عبدالرحمن شجاع
هناك حكمة شهيرة وخالدة للصوفية تقول: «الوعظ بالحال أبلغ من الوعظ بالقال». هذه الحكمة الإنسانية الخالدة تمثل بها المهاجرون الحضارم في شرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا أو الأرخبيل الهندي- كبحث الأستاذ الأكاديمي مسعود عمشوش . فقد نشر التجار والدعاة الحضارم الإسلام في هذه المناطق ببيع السلعة، وبالصدق، والأمانة، والإخلاص، وتقديم العون والمساعدة للمحتاجين. وكان سلوكهم، وطرائق وأساليب علائقهم بهذه المجتمعات وبالأفراد هي الالتزام الأخلاقي، وتقديم الأنموذج والقدوة الحسنة. وكان من ثمار هذا السلوك الراقي انتشار الإسلام والتمدن في هذه المناطق بأفضل مما جرى في دول البلقان وبعض أوروبا .
تذكرت هذه الحكمة الرائعة، و التجربة الزاهية للمهاجر الحضرمية عند سماع خبر وفاة الصديق العزيز المثقف العضوي عبد الرحمن شجاع المناضل الثوري والقومي الذي سفح أزهى سني عمره في الدفاع عن قضايا المهمشين والكادحين، ومثل الأنموذج الأروع؛ صدقاً، ومبدئيةً، وإخلاصاً.
عرفت الشجاع- حقاً وصدقاً- بدايات السبعينات في تعز، وكان في ذروة الشباب والحيوية. كان بيته مزاراً لكل قادة العمل الوطني وكوادر الأحزاب السياسية الحديثة: عبد القادر سعيد أحمد طاهر، وسلطان أمين القرشي، وأحمد علي حيدر، ومحمد عبد الولي، وعبد القادر هاشم، وزين السقاف، وعشرات غيرهم. ورغم التنافس- حد الخصومة- بين البعث، وحركة القوميين العرب إلا أن التآخي والحوار كانت سمة الأستاذ عبد الرحمن شجاع ورفاق دربه من الاتجاهات القومية واليسارية، وهي فضيلة تميز بها ذلك الجيل.
في الأعوام الأولى للثورة افتتح عبد الرحمن مدرسة لمحو أمية «الأخدام » - التسمية المتداولة والتمييزية- ، وهي الفئة الأكثر تهميشاً وتمييزاً في المجتمع اليمني. هذه المدرسة كانت عملاً ريادياً في اليمن: شمالاً، وجنوباً، وهي دليل الحس الإنساني في العمق لدى مناضل جم الأدب.
كان الفقيد بمثابة الأب الروحي لشباب الحركة السياسية الحديثة حينها، وأسس أول نادي رياضي في الشمال.
يعتبر الفقيد من مؤسسي شركة التبغ والكبريت، وهو من مؤسسي فرع الشركة بالحديدة، وكان مثالاً للنظافة والزهد ونقاء الضمير.
عمل في السعودية -في البداية- مطوفاً ومدرساً، وتخرج من دار العلوم بمصر.
انتمى مبكراً لحزب البعث الاشتراكي- مراحل دفع الاشتراك في المنظمة الحزبية-، ولكنه ترك البعث عندما بدأ الصراع بين سوريا والعراق، وبدأ كسب المؤيدين والموالين بالمال والمنح والأعطيات. حينها ترك الشجاع البعث، ولكنه لم يترك القيم والمبادئ والمثل القومية والإنسانية التي تربى عليها، والتزم بها.
رأس الاتحاد الطلابي في مصر. تعرض للاعتقال أكثر من مرة في عهد السلال والقاضي عبد الرحمن الإرياني، وآخرها في عهد علي عبد الله صالح. التقيت به في تونس في العام 81، وكان حينها الملحق الاقتصادي، وكنت ملاحقاً، أو بالأحرى مطلوباً للاعتقال في صنعاء، وكان هو نفسه موضوعاً -أيضاً- تحت الرقابة البوليسية من قبل السلطة. لم يمنعه ذلك من استضافتي في سكنه في حي السفراء.
كان عبد الرحمن مثالاً للوفاء وحب الآخرين.أخبرني صديق أثق بشهادته أن عبد الرحمن كان يتحرك إلى المطار بسيارته لاستقبال من يأتي من الوطن؛ لتوصيلهم؛ ومساعدتهم؛ واستضافتهم إذا لزم الأمر.
كان الفقيد من رواد التأسيس للعمل الوطني والتربوي. أسهم في التأسيس لصحيفة «الجمهورية» ثاني أهم صحيفة بعد الثورة. وما يميز هذا الرائد عدم الحديث عما عمل ويعمل. وحتى في نضاله السياسي لم يكن جزءاً من «الظاهرة الصوتية»- كما يسميها كتاب عبد الله القصيمي. وما أنجزه فقيدنا من عمل، وما جسده من سلوك وممارسة واقعية هو أساس ما قدم بعيداً عن الدعاوى؛ مكتفياً بأنموذج «الحال » بدل «القال»؛ شأن الصوفي الثوري. ورغم معرفة الفقيد بقادة البعث وبصدام حسين وحافظ الأسد –حينها- إلا أنه لم يحاول التواصل معهم. فهو ذو كبرياء، ووطنية ، وعزة نفس؛ وذلكم مصدر ابتعاده عن الأضواء. وشدة تواضع عبد الرحمن شجاع لا يعني إلا اعتزازه بنفسه، واحترام القيم والمثل التي جسدها وآمن بها. فرحم الله الفقيد الذي قدم الأنموذج والمثل في العمل الوطني الذي نفتقر في حياتنا السياسية والعملية إلى مثله.