حضرموت: الكهرباء وعقلية المؤامرة
في مطلع التسعينيات كانت أوضاع الخدمات العامة مياه وكهرباء واتصالات وصحة وتعليم في المكلا أسوأ مما هي عليها اليوم بكثير وأشدها وطأة على الناس.. وكانت الكهرباء لوحدها تشكل الهم الأكبر فانقطاعاتها تصل لأكثر من عشر ساعات متواصلة في ظل إمكانيات شحيحة للغاية وقدرة توليدية عاجزة وشبكة متهالكة يقابل ذلك طفرة نهوض وتوسع للبناء والعمران.
في نهار قائض من ذلك الزمن استدعاني رئيس تحرير صحيفة "الشرارة" الأستاذ الصحفي المخضرم "محمد عبدالله الحداد" -الذي سعدت بالعمل معه وتحت إدارته وتوسمت بأول أمر إداري بتوقيعه محررًا صحفيًا - ليكلفني بإجراء تحقيق صحفي عن أوضاع الكهرباء.
حملت أوراقي وآلة التسجيل إلى محطة المنورة حيث كانت مؤسسة الكهرباء تقبع هناك واستقبلني يومها مدير الكهرباء المهندس القدير "سعيد قروان" التي لم تغادر ابتسامته الساحرة وتواضعه الجميل ذاكرتني، وأجريت معه حوارًا صحفيًا , وجدته كأنه كان منتظرًا قدومي إليه ومن خلالي سيجد الفرصة ليبوح عن كل مشاكل مؤسسته، تحدث بكل وضوح , واضعًا النقاط فوق الحروف ؛ لم يخف شيئًا ولم يتحرج من الحال الكارثي الذي يحيط به، صحيح أنه اثقلني بالصورة السوداوية عن حال الكهرباء ولكنه أعطاني فرصة لأنشر مادة صحفية تحظي برضاء مروؤسي ومن ثم إحترام القارئ دون رتوش مني, ويومها تصدرت تلك المادة الصحفية المنشورة مانشيت بارز -على ما أذكر - " إصلاح الكهرباء بحاجة إلى قرار سياسي".. كانت حضرموت في تلك الأثناء تعيش في عهد "الصفاء السياسي" و"التسامح" لا خصومة ولا مناكفات، مع بدء سنوات القبول بالتعدد الحزبي والسياسي، الكل كان منصهرًا في بوتقة واحدة سقفها البحث عن معالجات تغلب المصلحة العامة وأن يكون لحضرموت صوتها الأقوى لتستفيد من المتغير الكبير الذي طراء في الساحة الوطنية نافضة ما علق بها من تردي وتهميش وإهمال.. لقد تشارك الجميع وائتلف في وفد رسمي وشعبي حمل هموم ومنغصات تردي الخدمات ومعاناة حضرموت وأهلها إلى صنعاء حيث صناع القرار يمكثون وجاءت الحلول والمعالجات تتباعًا.
ما أشبه اليوم بالبارحة تعود هذه الأزمات في الخدمات من جديد بنفس آخر وفي وضع مختلف.. وهذه المرة وجدت السلطة المحلية ومؤسساتها وحيدة تواجه هذه الاستحقاقات دون غطاء ومساندة، وزاد الطين بله سوء الإدارة وحالة الفرز والإقصاء للكوادر الفاعلة بضبط ممنهج ممن يتدثرون بعباءة الشرعية في فنادق وعزب الرياض.. أحدث هذا جرح غائر.. ففي الوقت تتوق في حضرموت ان تكون إنموذج في الإدارة والحكم والاستقرار ومع بقائها الرئة التي تضخ قرابين الحياة للشرعية وحكومتها يتم مكافئتها بالحرمان والانتقاص في حقوقها والاستكثار في تحسين أوضاع خدماتها الواجبة والمستحقة كالكهرباء.. خلق تلك التصرفات الاستعلائية حالة تذمر واحتقان لا تخفيه عين ولا تخط سماعة أذن , مما أدى إلى تحفيز الشارع أن ينفجر - فجأة - بهذه الصورة الغاضبة التي شاهدناها جميعًا ولم يك ذلك جزافا أو نكاية بفلان أو علان بل بمسببات مسبقة وبينة.
فرب ضارة نافعة وحتمًا سوف تحدث هذه الصدمة المزلزلة وغير المتوقعة صحوة للتحسين نحو الأفضل وتصحيح الأخطاء وتجاوز القصور في الاداء والانطلاق نحو كل ما يخدم الناس وينفعهم؛ وعلى السلطة أن تتقبل ما جرى في الشارع وتكون منفتحة له وتتعاطي معه بنفس إيجابي بعيدًا من عقلية المؤامرة التي يحاول البعض عبثًا تصويرها.. فمن الصعب أن يفقأ المرء عينه بأصبعه..