المغتربون اليمنيون المعذبون في الأرض
يتألمون بصمت، يناجون الله في غَلَسِ الليل أن لا يريهم كريهة وجفيلا، ثم ينتظرون قرارات إفقارهم وقطع أرزاقهم باصطبار الأتقياء وتسليم المؤمنين إلى مولاهم الذي لا يعييه سوْق رغيف عيشهم بلا تعب، وهو رب رحيم رزّاق، وعلى كل شيء قدير مُتعال.
المغتربون اليمنيون في المملكة العربية السعودية هم المعذبون في الأرض، المصطبرون على أوجاعهم وعذابات غربتهم، بعد أن طوت السنين أعمارهم وألتهم البين والفراق صفو أيامهم وهم بعيدون عن أرض تفتّقت أرواحهم على خمائل تربتها وذابت مُهجهم كقطع ثلج في حبات ثراها، لكن ضيق الحال وقسوة الزمن فيها قذفا بهم إلى وحشة الاغتراب.
اليوم مغتربونا في السعودية وحيدون أمام أقدارهم، فسيف القرارات التي تستهدف مصادر رزقهم وعيشهم ومن خلفهم مئات الآلاف من الأسر، مُسلط فوق رقابهم باسم "السعْوَدة" والتوطين للأنشطة التجارية، خاصة تلك التي ينشط فيها المغتربون اليمنيون منذ عقود من الزمن. قرارات سعْوَدة مستمرة تستهدف مصادر أرزاق عشرات الآلاف من اليمنيين الذين أفنوا سني عمرهم لجمعها وتكوينها، وحرمت مئات الآلاف من العمل فيها لإعالة أسرهم التي أسدلت عليها الحرب الراهنة ستار ظلامها القاتم ولم يتبق لتلك الأسر الموجوعة في أرياف اليمن وقراها سوى شعاع الضوء القادم من أسواق طيبة والبطحاء، أو الآتي من مولات مكة المكرمة أو المدينة المنورة.
في كل بقاع الأرض، لا يوجد مثل هذه القرارات الاحتكارية الاقطاعية، فأمام ابن البلد آلاف الفرص للمنافسة والعمل وتكوين التجارة الوفيرة، لكن نجاحه في نشاطه التجاري لا يمكن أن يتوقف عند حرمان عمال "أجانب" كاليمنيين من العمل في ذات النشاط، فالأرزاق بيد الله سبحانه، والحركة التجارية الحاصلة ليست مقتصرة على السعوديين فحسب، فالعامل "الأجنبي" أيضا له دور محوري فيها وفي زيادة القوة الشرائية، فمثلما يبيع في نشاطه هنا فإنه سيبتاع من نشاط آخر هناك.
المغترب اليمني يئن ولا نصير، يتوجع ولا مجيب، حتى الرسوم المفروضة مؤخراً لتجديد الاقامات أثقلت كاهل عشرات الآلاف من الأسر المقيمة مع عائليها، رسوم باهظة مع تدنٍ في الدخل وحرمان من العمل وتوطين للأنشطة التجارية، وفوق ذلك أهلٌ في جحيم الحرب باليمن ينتظرون ما سيجود به عليهم مغتربهم، فكيف سيتدبر هذا المغترب أمر حياته وهو محاصر من كل الجهات!!!
تنادى السعوديون مُصبِحين في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وتحت شعار السعودية للسعوديين، متهمين العمال الأجانب في بلدهم بأكل "حلالهم" ووقف "رحلات صيفهم وشتائهم التجارية"، وقبل ذلك ذهب مفكرهم الإسلاموي جمال خاشقجي لإصدار كتاب "احتلال السوق السعودي"، هكذا يدوّن مفردة "احتلال" دون أن ينظر لذاته القادمة من خلف أسوار البلاد!!
ما الذي يعوز السعوديين كي يمسكوا بزمام التجارة والتنافس أمام العامل الوافد دون أن يجردوه من مصدر رزقه وقوت أبنائه؟ العمالة الوافدة متواجدة في كل دول الخليج وتعمل جنباً إلى جنب مع أبناء البلد ولم تواجه خطاباً عنصرياً تحريضيا كالذي تواجهه من (بعض) السعوديين سواء كانوا عامة أو مثقفين.
هذا التنادي لن يجعل من السعودية معجزة إقتصادية في الصناعة والتجارة كألمانيا، النمو الاقتصادي بحاجة إلى رؤى اقتصادية واسعة تحول البلد إلى موطن للمصانع العملاقة، وليس إلى رؤية من خرم إبرة خاشقجي الذي ينظر إلى العامل الوافد ذي الدخل المحدود ويرى فيه المعطل الأساس للنهوض الاقتصادي السعودي!!
في هذا الأيام يمضي المغتربون اليمنيون أيامهم أمام كدح سنينهم ذهاباً وإياباً خاصة أولئك الذين وقعوا ضحية لقرارات "تأنيث" أنشطتهم التجارية، وغيرهم يترقبون قرارات وقف العمل في أنشطة أخرى عملوا فيها منذ عشرات السنين، ولم يدر في خَلَدهم أن يأتي اليوم الذي يجدون فيه أنفسهم ومصادر أرزاقهم أمام واقع الرحيل المر، والأكثر وقْعاً في كل ذلك أن تجتمع كل هذه المصائب على واقع حرب طاحنة ووطن مدمّر وشعب مزّقته الأطماع الخارجية، وغيّرت الكثير من ملامحه، وقبل ذلك تناسى هذا الشعب عرقه الذهبُ!!
وبين ثنايا هذه العتمة وهذا الليل البهيم، يتساءل هذا المغترب الموجوع عن حكومته الشرعية أياً كانت قوتها وتأثيرها لكنه لايزال يرى فيها الملتجأ والجدار الذي يحتمي به ويتكأ عليه، على أقل القليل أن تساعده في حرية خروجه إذا ما قرر الرحيل بمركبته القادرة على حمل شتات روحه في منحدرات وتشعبات طرق اليمن، وإلى الله الملتجأ من قبل ومن بعد.