الوحدة في المنظور القرآني سنة كونية وسنة ناظمة للحياة البشرية ولذلك كانت الوحدة هي أصل من أصول كافة أديان السماء ومقصد عظيم من مقاصد الإسلام وفريضة جماعية من فرائض الشريعة حتى أن الوحدة غدت قرينة التوحيد مقدسة كقداسته.
ذلك أن كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة (ملّة وأمة ودولة – وصفاً وهدفاً – وطاقات بشرية وإمكانات مادية) وصدق الله العظيم القائل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }الأنبياء92. والقائل {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }المؤمنون52.
فقوله تع إلى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) فهذا توحيد الكلمة وقوله تع إلى (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) فهذه كلمة التوحيد.
وقد قدم الله وحدة الأمة على كلمة التوحيد في الآيتين السالفتين لبيان مقام وحدة الأمة وأهميته لأن المؤمنين يركزون على كلمة التوحيد ويغفلون عن مقام الوحدة في المنظور القرآني ، ولبيان أن كلمة التوحيد إذا لم تؤدي إلى توحيد الأمة فإن فهمنا لعقيدة التوحيد نفسها هو بمثابة الفهم المنقوص ولذلك ليس المبالغة في شيء إذا قلنا بأن الوحدة في المنظور القرآني هي قرينة التوحيد مقدسة كقداسته.
ومن هذا المنظور تصبح الوحدة هي الخطوة الأهم في عملية الإصلاح السياسي لأنها أهم عوامل بناء المجتمعات والدول والحضارات لأن مشاريع النهوض الحضاري وليدة مجتمع متماسك وليست وليدة أفراد.
كما أن الفرقة ومشاريع الانفصال والتجزئة وتقسيم المجتمعات إلى شيع وعصبيات هي أخطر عوامل إسقاط الدول والحضارات.
ولهذا الاعتبار كانت الوحدة على الدوام هي شرعة الرحمن رحمة بالعباد
{وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } الشورى:8.
وكانت الفرقة ومشاريع الانفصال والتجزئة هي شرعة الشيطان وحزبه من المنافقين الدجالين والطغاة المستكبرين {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } القصص:4. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } الأنعام:159.
والشيع بالمصطلح القرآني هي العصبيات المختلفة المذهبية والعرقية والطائفية والقبلية (ليس منا من دعاء إلى عصبية).
الوحدة سنة كونية:
إن الوحدة سنة كونية تنتظم بموجبها حركة الكون فلو تأملنا في سر هذه الدقة والتوازن في حركة المجرات والشموس والكواكب لوجدنا أن الوحدة هي السر الكامن وراء هذه الحركة المنتظمة وعدم طغيان مجرة أو شمس على أخرى.
{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }الرحمن7
فكل مظاهر الكون ابتداءً من المجرة وانتهاءً بالذرة تدور حول محور ثابت بشكل منتظم فلو تأملنا مجموعتنا الشمسية لوجدنا جميع الكواكب تدور حول الشمس وهذا سر التوازن والدقة في مجموعتنا الشمسية ولو كان هناك شمسان تتجاذبان الكواكب لاختل نظام مجرتنا بأسره فالشمس هنا تمثل القطب الناظم للكواكب يقابلها في نظامنا الأرضي البشري (مبدأ وحدة الدولة) إذ هي تؤدي دور الناظم لوحدة الأمة ودوران الكواكب حول الشمس.
يجسد مبدأ وحدة الأمة وهذا النظام المحكم الكوني نجده في حركة المجرات وفي حركة الذرات أصغر جزء للمادة فالذرة كما هو معلوم مكونة من نواة مركزية تدور حولها إلكترونات بنفس نظام المجرة ولكن بصورة مصغرة ونواة الذرة تمثل القطب الناظم لحركة الإلكترونات.
وبهذا يتضح لنا أن مقصد التوحيد والوحدة إطاراً ناظماً للحياة الكونية كما هو إطار ناظم للحياة الإنسانية {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }آل عمران83
فكان في إسلام النظام الكوني لله سر سلامته بعدم فساده أي تضاد حركته واصطدام مجراته وشموسه وكواكبه.
وكان في توحيده سر توحده أي إئتلاف أجزائه وانتظام حركتها في مسارات ثابتة فنظام التوحيد والوحدة بهذه الكيفية هو سر صلاح النظام الكوني وصلاح نظامنا الأرضي البشري. {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40 {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }الأنبياء92.
إن هذا المشهد الكوني الرائع المهيب دوران الكواكب حول الشمس يقابله في الحياة البشرية موسم الحج الفريضة الخامسة في الإسلام، حيث يدور المسلمون حول الكعبة في نفس اتجاه دوران الكواكب حول الشمس، وفي موسم الحج يتجلى مبدأ التوحيد والوحدة بمهابته وروعته ويحصل التوافق بين دين الله الناظم للحياة الكونية، ودين الله الناظم للحياة الإنسانية، وتتجسد وحدة البشرية فطرة (أخوة الطين) وتتجسد وحدة البشرية ديناً (أخوة الدين).
الوحدة سنة ناظمة للحياة الإنسانية:
كما أن الوحدة سنة كونية فهي في المنظور القرآني سنة من السنن الثابتة التي لا تتبدل، الناظمة للحياة الإنسانية فما من نهضة لمجتمع أو دولة أو حضارة أو قوة عظمى إلا وكانت بدايتها الوحدة، وما من دولة وحضارة وقوى عالمية انهارت وسقطت إلا وكانت الفرقة والتجزئة عامل انهيارها وسقوطها كسنة اجتماعية مطردة، والسنن والقوانين الناظمة للحياة البشرية هي حقائق موضوعية ثابتة يستفيد منها من اهتدى إليها ويضل ويتضرر من تنكب عنها، دون تمييز بين مسلم وغير مسلم ورحم الله الإمام البناء عندما قال:(لا تصادموا نواميس الكون فهي غلابة).
والأديان عبر التاريخ جاءت بمثابة دليل علمي لبيان السنن والقوانين العامة للحياة البشرية ولإحداث قفزة معرفية للعقل البشري لهدايته إلى أقصر الطرق لمعرفة السنن والقوانين الناظمة للحياة الكونية والبشرية كأي دليل علمي يرافق أي مخترع بشري يبين قواعد صنع هذا المخترع وقواعد الحركة والتشغيل.
ونحن عندما نأخذ الدليل العلمي من صاحب المصنع نعلم أنه أكثر الناس علماً لأن الذي صنع الآلة وخلقها هو أدرى الناس بقوانين تشغيلها وحركتها ولله المثل الأعلى، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الملك:14(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)
وما نخلص به من هذا المثل هو:
-العلم منه الثابت ومنه المتغير.
-العلم الثابت هو السنن والقوانين العامة الكونية والإنسانية.
-علم السنن والقوانين العامة هو الذي فصلته الأديان والقرآن فالطبيعة التشريعية للقرآن على هذا الأساس تتلخص في هذه القاعدة (تفصيل الثوابت والسنن وإجمال المتغيرات).
-علم السنن والقوانين يقوم على أساسين:
أ) سنن وقوانين خلق وفطرة (قوانين الصناعة).
ب) سنن وقوانين أمر وهداية (القوانين الناظمة للحركة الإنسانية والكون وقوانين الأمر والهداية، هي الشريعة والدين الموافقة لقوانين الخلق والفطرة).
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{54} ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ{55} الأعراف: 54.
فقوله تعالى: (له الخلق والأمر) أي الذي خلق الكون هو أدرى بقوانين أمره أي الناظمة لحركته وكلمة (أمر) هنا هي الشريعة كلها، لقوله تع إلى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }الجاثية: 18.
وكلمة الهدى في قوله تعالى{ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }طه:50.
كلمة عظيمة ككلمة الأمر تشمل الدين والشريعة كلها لقوله تعالى: { الم{1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} البقرة: 1-2.
فقد وصف الكتاب في كلمة واحدة (هدىً للمتقين).. ومعنى الهدى الدليل العلمي لأن معنى الهداية في اللغة الدلالة كما يعرفها علماء التفسير فقد عرف القرطبي معنى كلمة الهداية بقوله: (الهدى هديان، هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: (ولكل قوم هاد)، وقال: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }المؤمنون:73. فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق).
وأنا أقول إن كلمة الهداية هي: الدلالة العلمية السننية الثابتة يفهم هذا المعنى من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأنعام: 97.
فالنجوم وصفها الله بالهدي أي دليلاً علمياً لنور البصر والنجوم لم تخلع عليها هذه الصفة العلمية إلا لثبات مواقعها ولو كانت متغيرة لما كانت عامل هداية بل ضلال ومن هذه الزاوية قلنا أن العلم الثابت (السنن) هو الأساس، ولذلك فصله القرآن فالنجوم هداية علمية لأنها ثابتة ولذلك فصلت (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
فالشرائع السماوية والقرآن إنما هي هداية لبصائرنا كالنجوم هداية لأبصارنا:
{قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ{104} وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{105} اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ{106} الأنعام: (104-106).
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{203} وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{204} الأعراف: 203-204.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ{43} وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ{44} القصص: 43-44.
ولما كانت النجوم هداية لأبصارنا بسبب ثبات مواقعها لا تغيرها فقد جاءت الأديان والشرائع كدليل علمي يهدينا إلى العلم الثابت الذي لا يتبدل وهي السنن والقوانين الناظمة للحياة الكونية والإنسانية ومن هنا يمكننا القول بأن الدين الإسلامي هو المنهج العلمي القيم لإقامة المجتمعات والدول والحضارات يتأكد هذا بقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم: 30.
فهذه الآية العظيمة بينت لنا أن سبب التوجيه الرباني لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته معه بالالتزام بتعاليم الدين وشرائعه إنما هو موافقة قوانين الشريعة الآمرة الهادية لقوانين الفطرة والخلق (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ثم يأتي البيان بأن قوانين الفطرة سنن ثابتة لا تتبدل (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ولما كان جوهر الدين هو الهداية (السنن والقوانين العلمية) استحق الدين أن يكون المنهج العلمي المطابق لسنن الخلق ولكن الناس لم يرتقوا إلى المنهجية العلمية القرآنية الكلية السننية ليعلموا أنه الحق (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
ومن هذا المنطلق أشرت آنفاً إلى أن الأديان جاءت عبر التاريخ بمثابة دليل علمي لبيان السنن والقوانين العامة للحياة البشرية والحياة الكونية لإحداث قفزة وطفرة معرفية للعقل البشري لهدايته إلى أقصر الطرق (الصراط المستقيم) للسنن والقوانين بما يؤدي إلى النعمة الشاملة في الدنيا والآخرة {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الأعراف:52.
والمنهجية العلمية للإسلام التي فصلت الثوابت والسنن هي منهجية هداية ورحمة إلى صراط النعمة في الدنيا والآخرة وليس صراط نعمة في الآخرة فحسب كما هو الفهم التقليدي الشائع. بدليل قوله تعالى{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124} طه: 124.
فدل صريح هاتين الآيتين على أن الهداية بالعلم الذي في القرآن تقود إلى خير الدنيا والآخرة { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124}.
فقوله تعالى: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) دليل على أن هدي القرآن يؤدي إلى صراط النعمة في الدنيا والآخرة وليس الآخرة فحسب.
إذن فهي هداية بالقرآن في الدنيا والآخرة وصراط مستقيم في الدنيا والآخرة وهذا الصراط يقود إلى مقصد النعمة في الدنيا والآخرة أيضاً وهذا المعنى يجب أن يثبت في الذهنية المسلمة لتعرف ما تردده يومياً في سورة الفاتحة.
وبعد أن أوضحت كيف أن الأديان السماوية والقرآن بمثابة الدليل العلمي لبيان وتفصيل السنن والقوانين العامة للحياة وأنواع السنن (سنن خلق وفطرة وسنن أمر وهدي) (دين وشريعة) وكيف أن الأديان السماوية جاءت لهدايتنا إلى أسرع الطرق إلى النعمة والخير في الدنيا والآخرة.
أعود فأبين أن التوحيد والوحدة هما أهم سنن وقوانين إصلاح حياتنا البشرية والدليل القرآني على ذلك هو قوله تعالى:
{ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ{29} فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32} الروم: 26-31.
فقوله تعالى: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ):
فالذين اتبعوا أهواءهم بغير علم هم الذين تحركهم دوافع العصبية العرقية أو الطائفية أو القبيلة أو المذهبية (الشيع بالمصطلح القرآني) فيتحمسون للمشاريع الانفصالية ومشاريع الفرقة والتجزئة بغير علم بمكانة الوحدة في القرآن وبأهمية الوحدة كسنة اجتماعية لحياة الناس ، وخطورة انقسام المجتمع إلى شيع وطوائف متصارعة متقاتلة فيظلمون مجتمعاتهم وأوطانهم.
وقوله تعلى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
هذه الآية العظيمة التي تعتبر المدخل لفهم المضمون المعرفي القرآني السنني كما أسلفنا (سنن وقوانين الدين الموافقة لسنن وقوانين الفطرة).
وهنا يثور تساؤل هام، ما الذي ورد بعد هذه الآية ليدلنا على أهم الثوابت والسنن؟ فنجد الجواب في قوله تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)
فقوله تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) إشارة واضحة إلى مبدأ التوحيد.
وقوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). نهي قرآني صريح عن الفرقة وتشديد في النهي عن الفرقة إلى درجة اعتبار عقوبة الدعوة للفرقة كالخروج عن التوحيد انتقال من عقيدة التوحيد إلى عقيدة الشرك.
ونلاحظ هنا الدعوة إلى الإنابة لله أي إخلاص التوحيد له وارتباط مبدأ التوحيد مباشرة بمقصد يرتبط بمضمون سياسي اجتماعي مرتبط بالواقع وهو النهي عن الفرقة مما يعني التشديد القرآني على الوحدة بدليل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } آل عمران103فهذه الآية أمرتنا وجوباً بالوحدة (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً) ونهتنا تحريماً عن الفرقة (وَلاَ تَفَرَّقُوا ْ)
فقوله تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
ربط لعقيدة التوحيد (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) بمقصد مرتبط بحياتنا السياسية والاجتماعية وهي الوحدة وعدم الفرقة ( وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً).
وهذا ما يؤكد ما طرحته سلفاً بأن عقيدة التوحيد ارتبطت مقاصدها بمقاصد فقه الدولة.
فعقيدة التوحيد ارتبطت أولاً بمقصد الحرية ومقاومة الطاغوت وإقامة نظام سياسي شوروي. (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) النحل: 36. وعقيدة التوحيد أيضاً جعلت مقصدها الثاني هو الوحدة والنهي عن الفرقة (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً).
وجاء النهي عن الفرقة تشديداً على الوحدة في سياق الحديث عن سنن الدين الموافقة لسنن الفطرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).مما يؤكد أن الوحدة سنة وقانون من القوانين والسنن الناظمة لحياتنا الإنسانية كما أنها سنة ناظمة للحياة الكونية.