كل الأحزاب العربية أعطت لنفسها صفة الديموقراطية، حتى لو كانت للتنظيم الواحد والهيكل الواحد، ولأن ضبابية التعريف حاضرة فقد أضاعت المحتوى، وصار الادعاء أو التكسب بهذا الشعار ينطلق من أن هذه الحكومات تقترع داخل تنظيمها الموجّه بديموقراطية شكلية للقيادات وفروعها..
في أفغانستان، وبعدها العراق تريد أمريكا تطبيق نموذجها الديموقراطي تاركة لشعبيْ البلدين حق اختيار من يريدان لإعطائه صوتيهما، غير أن البدايات قد لا تكون ناجحة، لعدة أسباب منها أن الفقر والأمية أمران سائدان في المجتمعين، ثم إن توزيع الولاءات بين العشائر، والمذاهب والقوميات قوي ومؤثر، وأيضاً من السهولة شراء الذمم سواء باللعب على الحس الديني بطوائفه المتعددة، أو رشوة الفقراء الذين لا يهمهم من شكْل الديموقراطية إلا ما يشاهدونه من مظاهر المناسبة..
لقد ظلت الديموقراطية حلماً للشعوب الأوروبية والسابقة لتطبيقها وفق قوانين ودساتير في غاية الانضباط، لكن نجاحها لم يأت اعتباطاً إذ شهدت انقلابات وحروباً وحُكماً كنسياً لعب الدور الأساسي في ربط الدين بالمؤسسة السياسية، وعند الانتقال من الإقطاع إلى العجلة الصناعية بدأت الحاجة تُظهر ضرورة تطبيق معايير جديدة لنقابات العمال والفلاحين ، وتجديد الهياكل الإدارية وفق هذه الثورة، وهنا عندما اندمجت التنمية والإنتاج بصورة أوسع ، وانفتاح الأسواق العالمية لهما، صار النضج مبكراً لأن العائد المالي الكبير، في ذلك الوقت، استطاع أن يلغي بؤر الفقر وأن يهيئ لمناخ ديموقراطي متطور بدون اضطرابات..
أما في حالات العالم الثالث ونموذج العراق وإيران، فالصعوبات تأتي من أن الرابط الاجتماعي، يعتبر هو المؤثر الأساسي ، وأن غياب قوى اقتصادية متطورة في بيئات تسودها الأمية والصراعات المريرة، فالنجاح قد يكون صعباً، حتى لو جاءت المرايا العاكسة لهذا التطور وكأنها خدعة سينمائية، لفيلم ما فوق الواقعية..
النجاح في المسار الديموقراطي، يحتاج إلى نضج وتساوٍ في المعارف والأفكار مع رابط المصلحة الوطنية، بحيث تكون الأرض والممتلكات والثروات محيّدة عن الصراعات وهو الأمر الصعب لبلدان لا تزال الفئوية تسودها، وبالتالي فالرهان الأمريكي على نجاح تجارب كهذه صعب، ليس بأسباب تقاطعاتها الداخلية، وإنما لالتصاقها بأوضاع محيطها الإقليمي، والأدوار التي تلعبها قوى غير مرئية، وتوزع العنصر الداخلي بين تلك القوى..
لو نجحت التجربتان، وهو أمر مشكوك فيه، فسوف تكونان نجاحاً لأمريكا، وفي حالة سقوطهما، فالفشل سيكون عائده على الأطراف مدمراً، لأن عودة الثقة لمثل ما جرى، ستجر معها عدم الثقة، وبالتالي يصعب استعادة نموذج آخر بأدوات معادة، ومع أن العراق يمتلك موارد هائلة وشعباً تقل فيه الأمية قياساً لأفغانستان، إلا أن ثارات قديمة ومولّدة، ومطامع دول أخرى أصبحت في صلب المؤسسة السياسية، سوف تؤخر نجاح ديموقراطية جديدة، لأن الشروط غائبة عندما لا تكون هناك وحدة وطنية لديها الوعي والاستعداد بالتضحية بالمذهب والقومية لصالح الوطن..