انحازوا إلى الشعب قبل أن يأخذكم الطوفان

هناك مؤشرات كثيرة على أن الزمن العربي سيتغيّر بشكل كلي باتجاه حكم الجماهير وتحقيق آمالها بعد أن عاشت المنطقة نصف قرن أو يزيد في ظل الدولة الوطنية تحت كوابيس الديكتاتورية والفساد وامتهان المواطنة..

الثورة التي قادها الشعب التونسي بدأت الخطوة الأولى النوعية لزمن الديمقراطية والنزاهة وإعلاء المواطنة.. ونعتقد جازمين أن ما يجري في مصر من احتجاجات واسعة سيكون داعما كبيرا لهذه الثورة لتخرج من بعدها القُطري المحلي إلى فضائها القومي، ما يعطيها دفعا قويا ويحول دون التآمر عليها أو تدجينها.

هذه الثورة فاجأت الجميع من معارضات تقليدية، وأنظمة كانت ترى أن القمع والارتهان للخارج سبيلها للبقاء طويلا، كما فاجأت الأنظمة الاستعمارية التي تدعّم الديكتاتوريات بكل وسائل القمع وامتهان كرامة الإنسان ودفعها إلى مجاراة ما يجري والإيهام بالانحياز إليه.

هناك استنتاجات كبرى من الثورات الشعبية العربية التي تسري كالنار في الهشيم من بلد إلى آخر، وأهم هذه الاستنتاجات؛

أولا؛ الإعلام العربي الرسمي لم يعد قادرا على مجاراة الغضب الشعبي وإعادته إلى بيت الطاعة عبر مديح سياسات الأنظمة وتأليه القيادات من جانب وشيطنة المعارضات وسعيها إلى إبراز معاناة الناس والتكلم باسمهم من جانب ثان.

هذا الإعلام المفلس فقد مكانه نهائيا لدى الناس حتى وإنْ تجمّل وغيّر الوجوه واللغة والصورة، وهو ما جعل الكثير من المراقبين يقولون إن الفيس بوك هو من انتصر للثورة التونسية وأخرج قصصها وصورها ومعاناتها إلى العالم وتحدى التعتيم والتشويه اللذين مارسهما الإعلام التقليدي باعتباره أداة سلطوية.

وستشهد المرحلة القادمة تنافسا قويا، لكنه ضروري، بين الإعلام الإلكتروني الصاعد، والإعلام المستقل الذي اكتسب ثقة الناس زمنا طويلا باعتباره صوتهم وملاذهم..

تنافس سيكون طريقنا كعرب إلى فرض التعددية السياسية والإعلامية والدخول إلى عصر جديد يرتفع فيه صوت الناس على صوت العصا وتكميم الأفواه.

ثانيا؛ الديمقراطية المعبّرة عن الناس ستكون المنتصر الثاني في معركة الغضب العربي الواسع، ذلك أن لا أحد بمقدوره الآن أن يلتف على رغبة الناس في أن يصل إلى السلطة، بدرجاتها المختلفة، أناس يعبرون عنهم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن محاولات تطويع الدساتير والتلاعب بها لتمرير بقاء هذا الزعيم أو ذاك في السلطة لم تعُد ممكنة وقد سقط الرئيس التونسي السابق لأنه عدّل الدستور مرات كثيرة لفائدته ولفائدة الحزب الحاكم فسقطا معا.

ولن تكون الأحزاب الحاكمة وحدها المدعوة إلى مراجعات نوعية تقر فيها بحق الناس في حرية الاختيار، فهناك معارضات عربية تقليدية استفادت من فساد الأنظمة والأحزاب الحاكمة وسارت على طريقها، وتكفي الإشارة هنا إلى أن بعض الأحزاب المعارضة العربية لم تُغير قيادتها ورموزها منذ سنوات طويلة.

ومن بين الأحزاب والحركات التي تحتاج إلى وقفة، هنا، نذكر التنظيمات الإسلامية التي تقدم الآن في مختلف وسائل الإعلام وعلى ألسنة الدبلوماسيين الغربيين على أنها المعارضة العربية الأهم، هذه التنظيمات "البديلة" ترتفع في وجهها عشرات الأسئلة.

إذ كيف تستطيع حركات، يقول بعضها إنه يتكلم باسم الدين وأن تفسيره للنصوص الإسلامية هو التفسير الوحيد الممكن، أن تصير أحزابا ديمقراطية تقبل بتعدد الأفكار والرؤى، ولا تجد ضيرا في أن تقبل بحكم ديمقراطي مدني لشعوبها بما يحمله من أحكام وقيم وسلوك ربما يتناقض مع قناعاتها؟

ثالثا؛ ومن أهم العناصر التي حركت الثورة في الشارع العربي نجد عامل الفساد الواسع، وهو فساد شكل حزاما حول الأنظمة تزعمته فئات سياسية واقتصادية استفادت كثيرا من تحالفها المشبوه مع العائلات الحاكمة، وبالمقابل ازدادت الفئات الفقيرة اتساعا وتنوعا والتحقت بها الطبقة الوسطى في ظل البطالة والفقر والأمية والمحسوبية.

وتكفي إطلالة صغيرة، هنا، على الأرقام لنكتشف أن عدد العاطلين عن العمل في المنطقة العربية مرشح لأن يبلغ 50 مليون عاطل، وهؤلاء فيهم أعداد ممن يعيشون تحت خط الفقر ويسكنون المناطق الهامشية، ومصر وحدها فيها 7 ملايين ونصف المليون ممن يسكنون العشوائيات ومئات الآلاف من المشردين وأطفال الشوارع.

ولا شك أن الثورات العربية التي بدأت تونس وربما مصر والأردن وغيرهما، سيكون هدفها الأول هو إعادة الاعتبار للمواطن العربي من خلال توفير حقوقه الضرورية، وأهمها الحق في العمل والسكن والصحة والتعليم، وذلك عبر خلق أنظمة يكون هدفها الأول تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاصرة الإثراء غير المشروع الذي أسسته له القوانين الحالية في أغلب الأقطار العربية وكان وراء صعود طبقات الفساد.

وفي هذا السياق، لا بد من دعوة المستثمرين العرب بالمبادرة إلى ملء الفراغ الذي قد تتسبب فيه الشركات الأجنبية سواء في تونس أو مصر أو الأردن والتي استفادت من قوانين على المقاس سمحت لها بتحصيل أرباح خيالية على حساب العمالة المحلية.

وفي الأخير، لا بد للقوى الحية في الأمة وخاصة في تونس ومصر ألا تقف عند لحظة الانتشاء بنجاح الثورة وأن تبدأ في بناء مقومات استمرارها، ذلك أن أطرافا عربية وأجنبية تخطط بوضوح لمنع نجاح هذه الثورات وتحولها إلى نموذج تتبعه أقطار أخرى..

ولْنستمعْ جيدا إلى التصريحات الأمريكية والأوروبية حول تونس ومصر، ومحاولات الإيهام بالانحياز لحق الجماهير العربية المنتفضة في الديمقراطية والكرامة، إنها محاولة مكشوفة للالتفاف على خيار التغيير الذي هو آت لا محالة وسيكون مثل الإعصار الذي يكنس بقايا الاستبداد والفساد