لقد اخترت هذا الموضوع لكي أبرز حاجتنا الماسة إليه في أدق وأهم مراحل تأريخنا المعاصر ، حيث نقف على مفترق طرق إما النجاة أو الهلاك. ويتحدد ذلك من طريقتنا في قراءة واقعنا ومحيطه الداخلي والخارجي طبقا للمعطيات والمعلومات التي تتوافر لدينا وتحليلنا الموضوعي والدقيق لها بما يسبر أغوار مكنوناته وديناميات صيرورته واتجاهاته.
لقد قادنا التخيل والوهم فيما مضى إلى أن نعيش في عجز دائم ، فتسيرنا الرياح الخارجية بهواها لا بإرادتنا بدلا من أن نسخرها لوصول مركبنا إلى شواطئ الامان. لقد غدونا رقماً "تافاً" لا يكترث له أحد ، بل يعبث به كما تشاء "الأقدار" ، فيما أصبح غيرنا وهو لا يملك مما نملك رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في صناعة الاحداث. ولقد اخترنا الرقم عنواناً لهذا المقال، لأنه ليس هناك ما هو أبلغ من الرقم في وصف الحقائق والظواهر وسبر أغوارها.
والرقم بحق هو الفاصل بين تأريخين في تطور الكائن البشري ، في كونه إنسانا بدائيا ضعيفا لا حول له ولا قوة في مواجهة ظواهر وقوى الطبيعية وانفعالاتها ، وبين كائن سبر أغوار الكون وسخر قوى الطبيعة بمجرد اكتشافه للرقم. فلولا الرقم لظل الإنسان على مر التاريخ مخلوقا ضعيفا ، عاجزا أمام قوى الطبيعة ، جاهلا بما تزخر به من ثروات وخيرات، وما تحتويه من تنوع لا حصر له من الكائنات والمخلوقات. يقول إميرسون بوير في تعليقه على أهمية الأرقام "إنه بدون الأرقام لم يكن لنا أن نحلم أبدا بكثير من الفنون ، ولكانت الرياضيات لا تزال في مهدها ، وبالأرقام يصبح المرء مسلحا بقوة كقوة الرسل ، فيتنبأ بأحداث الكون ، ويشير إلى كواكب جديدة لم ترها عدسات المناظير بعيدة المدى ، ويحدد مسارات الأجسام المتجولة على غير نظام معروف في الفضاء ، ويقدر الأزمنة والأحقاب التي انقضت من يوم أفاض الخالق النور على الكون".
ولهذا فإن الأرقام هي أعظم وأقوى وأنفع ما أبدعه العقل البشري على مر التأريخ. فمن وحي الحاجة الماسة للرقم الذي من دونه لا معنى للكائن الإنساني ، خلق الإنسان الرقم. ولقد سبق الرقم التأريخ البشري المكتوب بآلاف السنين ، مثلما سبق الكلام الكتابة. فبالرقم تمكن الإنسان من إقامة حد فاصل بينه وبين الكائنات الحية الأخرى ، واستحدث الزمن ، وسجله ، ولولا الرقم لما استطاع الإنسان عد ممتلكاته ، ولا أمكنه قياس المسافات الأرضية والكونية ، ولما وجدت النقود ، ولا أمكن التفريق بين الطول والقصر ، بين الزيادة النقصان ، بين التقدم والتخلف ، ولما أمكنه تحديد المعايير والأوزان ، ولما أمكنه ممارسة البيع والشراء ، ولا قدر له أن يعبر المحيطات ويرتاد الأجواء والفضاء ، ولعجزت الدول عن تحديد مكامن قوتها وضعفها ، وعد مواطنوها ، الأحياء والأموات منهم ، ولما أمكن التنبؤ بالمستقبل.
وبما للرقم كل هذه القوة والتأثير فقد سعى الإنسان دوما لاستخدامه ، غالبا لمصلحة الكائن البشري ، وتارة ضد مصلحته. ولهذا ليس نادرا ما استخدم كأكبر شاهد زور ضد الإنسان ومصالحه. وقد قيل يوما أن هناك ثلاثة أنواع من الكذب: الكذب ، والكذب الوقح والإحصاء.
وأكثر ما أخشاه على وطني من أولئك الذين يتصدرون صناعة القرار بدون علم أو معطى ، فيجازفون باختراع الارقام الموصفة لحياتنا على غير ما هي عليه ، فيكذبون به على أنفسهم أولا ، وعلى شعبهم وبالنهاية الحتمية الضياع في زحمة الأرقام الكاذبة واتخاذ القرارات المسنودة بها والتي تقودنا إلى كهوف الفشل والضلال والظلام.
هذه هي اللحظة التاريخية التي نستقوي فيها بالرقم الصادق والحقيقة الناصعة على ضعفنا وتمزقنا. لعلنا بقوة الرقم نسبر مكامن قوتنا فنعززها ونحملها في عقولنا ، ونزرعها في نفوسنا ، ونكتشف خفايا وهننا ومنابع أمراضنا لنتحاشها في حياتنا وسلوكنا وتعاملاتنا وننفذ معه إلى حياة مدنية مستقرة ملؤها الرخاء والسلام والوئام.