في ذكرى استشهاده: النعمان الابن وإصلاح الجمهورية
بلال الطيب يكتب في ذكرى استشهاده: النعمان الابن وإصلاح الجمهورية
اليمن مَوطن العرب الأول، تَفرق العرب وبقيت أسوأ تناقضاتهم مَحصُورةً في ذات الحيز الجغرافي، لديها تواريخ مُشتتة لا تاريخ جَامع، يَفخرُ جُلُّ سُكانها بقهرهم للغزاة، وبأنهم أولو قوة وبأسٍ شديد، وأصحاب حضارة هائلة، وماضٍ تليد، وفي المقابل عمل البعض على استقدام الغازي الغريب، نصروه، وملكوه أنفسهم وبلادهم قرابة "1150" سنة، فكان أسوأ وأطول احتلال عرفته الأرض.
الشهيد محمد أحمد نعمان - فيلسوف الثورة ومُنظرها الأبرز - كرسَ جُهده لمعالجة مَشاكل اليمن المعقدة من مَنظورٍ مُختلف، جاعلًا من تلك التناقضات مُنطلقًا للدراسة والتقييم، اجترَّ الماضي بمآسيه الثقال، وقدمه في كتابه "الأطراف المعنية" بشفافية مُطلقة، أفزعت البعض، وبلغة جادة، تمردت على السياق المتداول، وبعبارات رصينة، ابتعدت كل البعد عن تلك المسحة الحالمة التي كرسها كثيرون في كتاباتهم.
"إن هناك من يَفزع أشد الفزع لمجرد ذكر الفروق الموجودة في الاعتبارات بين أبناء الشعب، ويعتبر ذلك عملًا ضد الوحدة الوطنية، يُقصَد به التمزيق والتجزئة، وتقسيم الشعب إلى شيع وطوائف وأحزاب، ويعتبر أيّة مُحاولة لبسط المشكلة من هذا القبيل إثارة مخربة".
قالها النعمان قبل أكثر من "50" عامًا، ثم مَضى مُتعمقًا في جذور المشكلة، رابطًا إياها بأحداث مُتصلة، داعيًا الجميع للاعتراف بها، ومواجهتها، والانصياع للقانون التاريخي المتحكم، مُعتبرًا ذلك كسبًا لنصف الجولة.
حين حاول "الأحرار السبتمبريون" - بفعل حماسهم الثوري - القفز على تلك الحواجز؛ كانت النتيجة أن انفجر البركان، وكاد أن يحطمهم جميعًا، ليجدوا أنفسهم - حد توصيف النعمان - يواجهون حقائق وجودهم صارخة مُجردة، وينظرون لتناقضات حياتهم سافرة مُفزعة.
الأسوأ من تلك التناقضات تجاهلها، وقد قَسَّم النعمان المتعاطين معها إلى صنفين، عاطفيون يثيرون المشاعر ضد المواقف، حلولهم ذاتية، ولا تعدوا أن تكون ضربًا من ضروب الخيال، وأسلوب من أساليب القفز في الظلمات، وعاجزون يقنعون بالسلامة، يتخذون من مسوح التعقل منهجًا، ثم ما يلبثون أن تدفعهم رغبة العيش في سلام لمواقف انتهازية، تُصبغ كل يوم لهم لونًا، وتصنع لهم في كل حين شعارًا.
ظل أمل إصلاح الجمهورية من الداخل قائمًا على يد ثُلة من الأحرار المخلصين، كان الشهيد محمد النعمان أبرزهم، سبق الجميع بالمناداة بالحرية والديمقراطية كدعوة وطنية قائمة على مبدأ الشفافية لا الضغينة والإنطواء، طالب بتفعيل مُشاركة أهل الحل والعقد ذوي الفعالية الشعبية غير المفتعلة، أو الموجهة، أو المدعومة، وأتى بحلول صالحة لكل زمان ومكان، قائمة على إزالة الحواجز لا القفز عليها، خالية من الإثارة، مُتمردة على ثقافة الاستسلام، الأمر الذي ألَّبَ عليه مُمتهني "التسلط"، ومتزمتي "اليمين"، ومُتغطرسي "اليسار".
استاء أعداء الاستقرار من دعوات محمد النعمان الإصلاحية، فأسكتوا صوته وللأبد "28 يونيو 1974م"، ليتجرأ شباب اليمن بعد "36" عامًا من اغتياله بالمناداة بذات المطالب، وفي غمرة انشغال "الأطراف المعنية" بالحوار، وصياغة "دستور اليمن الجديد"، تسلل القديم، وقاد جحافله المتوحشة للقضاء على الجمهورية، وهي لم تحقق أهدافها المعلنة بعد.
كطرف ضالع في كل مآسينا، حاول أرباب "الفيد"، ومُمتهني "التسلط" إعاقة تنفيذ "مُخرجات الحوار الوطني"، وتأسيس "الدولة الإتحادية" المشروع المنقذ، والحلم المؤجل منذ مئات السنين، الذي سيقضي على هيمنتهم، وسيحد من نفوذهم، ورغم معرفتهم سلفًا بأنَّ غالبية الشعب باتوا مع هذا الخيار، عملوا على رفع كلفة تحقيقه، أرادوا قتله في النفوس التواقة للاستقرار، وفاتهم أنَّ عُنف الحقد يحييه ويحييه.
قبل أكثر من "16" قرنًا، نجح "الحميريون" بتوحيد اليمن "فيدراليًا"، وحمل ملوكهم "التبابعة"، اللقب الطويل: "ملك سبأ، وذو ريدان، وحضرموت، ويمنت"، و"تُبَّعْ" لقب ملكي لم يحمله إلا من حكم اليمن الكبير، وقريبًا جدًا سيستعيد اليمنيون أمجاد أجدادهم.
"الدولة الاتحادية"، امتداد لذلك النموذج الحميري القديم، صيغة جديدة لوطن يبحث عن وطن، حل ناجع، وخيار ضرورة، جاء مُلبيًا لطموحات أحلام المحاولين، مُترجمًا لأفكار المستنيرين، مؤكدًا أنَّ حال اليمن اليوم لن يصلح إلا بما صلح به أولها.
عناوين ذات صلة: