آراء

الأئمة والإنجليز.. وفاق أكثر من افتراق: الفرقة الكفرية (3-3)

بلال الطيب يكتب: الأئمة والإنجليز.. وفاق أكثر من افتراق: الفرقة الكفرية (3-3)

ما أن لفظ الهادي شرف الدين محمد عشيش أنفاسه الأخيرة 6 يونيو 1890م، حتى اجتمع علماء الزيدية في صعدة، وراسلوا محمد بن يحيى حميد الدين، واختاروه إمامًا، تلقب الأخير ب (المنصور)، ولم يأتِ العام 1892م إلا وقواته التي قدرت بـ70,000 مقاتل تُحاصر صنعاء.
دارت عدة معارك، أنتصر في أغلبها الأتراك، ليصدر الوالي أحمد فيضي باشا أوامره بالعفو العام عن كل الخارجين، فأعلنت القبائل المتمردة طاعتها له، وما هي إلا أسابيع معدودة، حتى قاد بنفسه جيشًا جرارًا صوب القفلة 18 مايو 1892م، وحين أدرك المنصور أنه هالك لا محالة، سارع بتهريب الأموال والذخائر، ثم أوى إلى كهف يعصمه من الموت.
وعن ذلك قال صاحب (الحوليات): «والإمام باقٍ بالبطنة، هيجة غربي سوق الحرف - يقصد حرف سفيان - مُتصلة بالعمشية، أرض قفرة لا يسكنها إلا البدوان، قيل أن فيها جرف منحوتة في الجبل، وقد صارت في هذه المدة مفرا للأئمة، كلما نابت نائبة لجأوا إليها»، وكان الإمام محسن الشهاري قد أقام فيها من قبل، وكذلك فعل الهادي عشيش.
لم تطل مدة بقاء المنصور محمد في الكهف كثيرًا، وصل إليه عدد من مشايخ حاشد، أرضوه بعقير، وطلبوا منه النزول في ضيافتهم، أقام بحوث مدة، ثم أدلف راجعًا إلى القفلة، ليبدأ بعد ذلك بالتدلل إلى الأتراك، والتوسل إلى سلطانهم عبد الحميد الثاني بعدة مراسلات، طلب منه في إحداها أنْ يحكم شمال اليمن تحت مظلة السلطان، تماما مثل محمد علي باشا وبنيه، ولم ينسَ أن يتباهى بسلالته، وبأنها الأحق بالحكم والولاية، ولو بدرجة نائب سلطان.
وقال الإمام الجديد في إحدى رسائله ما نصه: «ولو يعلم السلطان الأعظم حقيقة الحال، لسارع إلى إعانتنا في الحال والمآل، ورفع جميع المأمورين من الخطة اليمانية، وأمرهم بحرب الفرقة الكفرية، ولمنع من محاربة العترة النبوية، التي هي بضعة من الذات الشريفة المحمدية».
حين يئس المنصور محمد من الأتراك، فتح خط تواصل مع الإنجليز، الفرقة الكفرية - حد توصيفه - وكان سلطان لحج فضل العبدلي وسيطهم إليه، وبتحريض إنجليزي عادى الأتراك، واستمات في حربهم، وكانت حروبه هذه المرة تخريبية، حرب عصابات، اقتصرت على نسف بيوت المناوئين، وقطع أسلاك التلغراف، ومهاجمة الطرق، ونهب البريد.
لم ينعم اليمن في عهد الوالي عبدالله باشا بالأمن والاستقرار، كان مُتكبرًا - مُتجبرًا - عنيدًا، استشرى في عهده الظلم والفساد، واشتد الجدب، وارتفعت الأسعار، وحين احتل الإنجليز منطقة الضالع 1902م، لم يُحرك ساكنًا؛ الأمر الذي أغضب الباب العالي عليه، ومهد لعزله، جيء في العام التالي بتوفيق باشا بدلًا عنه، في الوقت الذي أصيب فيه المنصور محمد بالشلل، ليتوفى الأخير بالقفلة 4 يونيو 1904م.
خلف المنصور ولده الوحيد يحيى، دارت بينه والأتراك حروب كثيرة حاصرت قواته صنعاء لستة أشهر متتالية، ليدخلها بعد انسحاب عساكر الحامية التركية إلى حراز، بموجب اتفاق صلح وقعه الطرفان 27 إبريل 1905م، واللافت في الأمر أنَّه سمح باستمرار الدعاء للسلطان، واستبقى الراية العثمانية ترفرف في ذات المدينة؛ مُبررًا ذلك بأنَّه يصب في مصلحة المسلمين!
كشفت في المُقابل وثائق بريطانية أرخت لحوادث تلك الفترة أنَّ الإمام يحيى تواصل خلال ذات العام مع الإنجليز في عدن، بواسطة سلطان لحج أحمد بن فضل العبدلي، وأنَّه أرسل مبعوث خاص لذات الغرض، وطالبهم صراحة بدعمه بالمال والسلاح، وقدم لهم قائمة بذلك، وشدد على ضرورة أنْ يبقى موضوع ذلك التواصل طي السرية والكتمان!
ما أن علم الإمام يحيى بوصول حملة عسكرية تركية كبرى قوامها 50,000 مُقاتل، بقيادة المشير الثمانيني أحمد فيضي باشا، حتى خرج بقواته من صنعاء، وذلك بعد شهرين من دخولها، مُتذرعًا هذه المرة بخوفه على سكانها، لاحقته تلك القوات إلى شهارة، وهناك انتكس هؤلاء، وعادوا إلى صنعاء مخلفين وراءهم مئات القتلى.
أدى تمرد بعض الضباط والعساكر في الجيش العثماني على قائدهم أحمد فيضي باشا إلى إضعاف جبهة الأتراك الداخلية، فما كان منهم إلا أن سارعوا بإيقاف الحرب، مادين أيديهم لمفاوضة الإمام يحيى، وقد أرسل الأخير بشروطه التي غلفها بصبغة دينية إبريل 1906م، أراد منهم الاعتراف بزعامته السلالية، ومنحه قدرًا من السلطة الزمنية بين أتباعه، كما طالب بإعفاء بعض القبائل من التكاليف الزكوية؛ كي يكسب موقفها إلى صفه، والأهم من ذلك أنَّه سلَّم بحق الأتراك بالدفاع عن اليمن ضد أي عدوان أجنبي، وفيه اعتراف ضمني منه بالسيادة العثمانية على البلاد.
لم يقبل الأتراك شروط الإمام يحيى؛ لتتجدد بينهم المواجهات، وحين لم ينتصر أحد الفريقين، أرسل السلطان وفدًا من علماء مكة 1907م، تركزت مهمته في حث الإمام على وقف القتال، بقي الأخير مُحتفظًا بما تحت يديه، وكذلك الأتراك، مع حدوث مناوشات محدودة بين الجانبين.
تجمعت قوات الإمام يحيى حول صنعاء مرة أخرى، وحاصرتها من يناير إلى إبريل 1911م، وحين علم الأتراك بما حلّ بجنودهم من هزائم، سارعوا بإرسال حملة عسكرية كبرى، أسندت مهمة قيادتها إلى المشير عبدالله باشا، إلا أنه توفي وهو في طريقه من الحجاز إلى اليمن، فتولى قيادة الحملة رئيس الأركان اللواء أحمد عزت باشا.
بعد دخوله صنعاء، حاول عزت باشا التقدم صوب شهارة، إلا أنَّ تمرد محمد الإدريسي في جيزان حال دون ذلك، فاضطر لمهادنة الإمام يحيى، التقيا في دَعَّان، وهي قرية صغيرة غربي مدينة عمران، وتم الصلح بينهما على عدة شروط 8 أكتوبر 1911م، وقد طُويت بذلك الصلح صفحة قاتمة لصراع كلف الجانبين آلاف الضحايا، لم يعد الأتراك بعد ذلك كفار تأويل مهدوري الدم، كما لم يعد الإمام يحيى خارجًا عن طاعة الخلافة، يجب إخضاعه.
الأتراك من جهتهم، وتأكيدًا لرغبتهم في استمرارية الصلح، قاموا بتعيين محمود نديم بك بدلًا عنه، والأخير سوري من أصل كردي، كان له عظيم الأثر في تهدئة الأوضاع؛ بل إنَّ الإمام يحيى نفسه كان يثق به، وكان يكتب إلى عماله بأنْ يلتزموا بأوامره.
مع نشوب الحرب العالمية الأولى تحالف الإنجليز مع محمد الإدريسي، بعد أن تخلى الطليان عنه، وردًا على ذلك قام الأتراك باجتياح لحج 5 يوليو 1915م، بقيادة اللواء علي سعيد باشا، ومعه أكثر من 8,000 مقاتل، غالبيتهم من قبائل المناطق الوسطى، مع قلة قليلة من الحواشب، واليوافع، والصبيحة، وذكر الباحث صادق عبده علي أنْ مُساندة أهل تعز لتلك الحملة جاءت طمعًا في أنْ يمنحهم الأتراك حكمًا ذاتيًا أسوة بما أعطوه للإمام يحيى.
وقف الإمام يحيى في تلك الحرب على الحياد، ووصلت القوات التركية إلى الشيخ عثمان، إلا أنَّ الإنجليز استردوها، بعد أنْ استخدموا الطيران لأول مرة، وفي الأخير حدث ما يشبه التعايش بين الفريقين، ففتحت التجارة بين لحج وعدن، ونشأت علاقة ودية طريفة بين المتحاربين، دامت حتى انتهاء تلك الحرب.
بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وقّع الأتراك على هدنة مودروس أكتوبر 1918م ، وبموجبها، وبعد شهرين من توقيعها استسلمت قواتهم في لحج للإنجليز، وما يجدر ذكره أنَّ الإمام يحيى سبق وأن رفض أخذ الأخيرة بموجب مبادرة قدمها له علي سعيد باشا، ورد على الأخير بما معناه: «ماذا أريد بأرض إذا أرسلت إليها العسكري لا يعود»، وتشير بعض الوثائق التركية أن القائد سعيد كان يود مخلصًا أن يرى اليمنيين يستلمون مناطق الجنوب من تركيا عند هزيمتها، بدلًا من إعادتها تحت النفوذ البريطاني.
أما الوالي التركي محمود نديم فقد رفض الاستسلام للإنجليز خوفًا من وقوعه هو وأصحابه في مذلة الأسر، التحق وأفراده الـ900 بقوات الإمام يحيى، ليغادروا اليمن فيما بعد، باستثناء 300 ضابط وجندي استبقاهم الأخير لتدريب جيشه النظامي، فيما أسلحة وعتاد الجيش التركي صارت ميراثًا سهلًا للدولة الوليدة التي لم يعترف بها الأتراك إلا بعد مرور أربع سنوات، وذلك بموجب مُعاهدة لوزان.
كان ثمة توجه انجليزي بتسليم الإمام يحيى أغلب المحميات الجنوبية، مع الحصول منه على بعض الامتيازات، الكرنل هارولد جيكوب كان من أكبر الداعين لذلك، عزم على التوجه إليه عبر الحديدة 21 أغسطس 1919، إلا أن أبناء قبيلة القُحري التهامية احتجزوه لأربعة أشهر، وحالوا رغم المغريات والتهديدات دون وصوله إلى صنعاء؛ وذلك خوفًا من ربط مصيرهم بالإمام.
كانت الحديدة حينها تحت سيطرة الإنجليز، احتفظوا بها لأنفسهم، وسلموا باقي مناطق تهامة لحليفهم محمد الإدريسي، ووعدوا الإمام يحيى بتسليمها إياه إن هو رضخ لشروطهم، لم يرضخ الأخير، غضب من عدم تأديبهم لقبيلة القُحري، وجدد العزم على احتلال الضالع، وبعض المحميات المجاورة لها، فما كان منهم بعد أكثر من عام إلا أن سلموا الحديدة لعدوه اللدود الإدريسي.
وجد الإنجليز في دعوة مشايخ الضالع والمحميات المجاورة لتدخلهم فرصة ذهبية للانتقام من الإمام يحيى الذي سبق وتحالف نكاية بهم مع الطليان، دعموا الثوار بالأسلحة المتطورة، فيما قامت طائراتهم بـ48 غارة على الحاميات الإمامية بالجنوب، ولم يستثنِ القصف مدنًا شمالية، كتعز، وقعطبة، والتربة، ويريم، سقط بسببه أكثر من 300 شخص بين قتيل وجريح.
فرَّ عساكر الإمام بصورة مُخزية، ليعلن سيدهم الانسحاب التام من المحميات 14 يوليو 1928، أصيب العشرات منهم بالجنون، كونهم لم يألفوا أزيز الطائرات من قبل، ولا انفجارات قنابرها حد تسميتهم وحين تواردت الأخبار إلى صنعاء، بأن الأسطول الانجليزي رابض في سواحل الحديدة، استعدادًا لاحتلال اليمن، سارع الإمام بنقل معظم أمواله إلى شمال الشمال.
كان بعض السلاطين قد تعاطوا إيجابًا مع مبادرات الإمام يحيى الوحدوية، إلا أنهم بعد أن رأوا سوء أعماله، ارتموا في أحضان الإنجليز، وصاروا أكثر رفضاُ للإمام، ولتدخلاته، عقدوا في العام التالي مؤتمرا كبيرًا، وفيه أشهروا توجههم الجديد.
تبعًا لذلك فتح الانجليز صفحة جديدة مع الإمام يحيى الذي انسحب سلمًا من العواذل، وبيحان، اللتين بقيتا تحت سيطرته، وقعوا معه معاهدة صنعاء، اعترفوا له فيها باستقلال مملكته، ونجحوا بانتزاع اعتراف منه بالحدود الشطرية القائمة 11 فبراير 1934م، لتدخل قواته نهاية الشهر التالي في مواجهات مسلحة مع آل سعود، تعرض لهزيمة ماحقة، ضعفت بعد ذلك قوته، وتبددت هيبته، وأخذ الأحرار اليمنيون يفكرون جديًا في كيفية التخلص منه، مُعلنين بدء العد التنازلي لطي صفحته.
وقف الإنجليز مع الإمام أحمد في صراعة مع ثوار فبراير 1948م، ليتجدد الصراع بعد ذلك بين الجانبين؛ والسبب سياسة "إلى الأمام" الإنجليزية التوسعية، لم يكن الصراع حينها مواجهات مسلحة بين جيشي النظامين؛ بل تشجيعًا للتمردات القبلية هنا وهناك، ودعمها بالمال وبالسلاح.
بعد انتفاضة مارس 1955 توقفت موقتًا الحوادث العسكرية في المحميات بسبب انشغال الإمام أحمد في معالجة أوضاعه الداخلية المُتردية، ليلجأ الإنجليز بعد سلسلة من أحداث المقاومة العنيفة ضدهم إلى اتباع سياسة فك الارتباط، كما لجأوا أيضًا إلى ما أسموها بسياسة (اللعب بالطريقة العربية)، وهي تقضي بأن يوكل لبعض السلاطين القيام بفركشة الانتفاضات القبلية بوسائلهم الخاصة، أما الإمام أحمد فقد لجأ إلى تمتين علاقاته مع المعسكر الاشتراكي، ومصر، والسعودية التي كانت في نزاع مع بريطانيا حول واحة البريمي.
في فبراير 1957م تفجر الصراع على الحدود مع الضالع، وقام الجيش الإمامي بأكثر من خمسين حادثة، الأمر الذي مهد لحركات أكبر وأوسع في بقية المحميات، فما كان من الإنجليز إلا أن لجأوا إلى الديبلوماسية، دعوا البدر إلى لندن لمناقشة مشاكل الحدود، لتنتهي تلك المحادثات بعد عشرة أيام دون التوصل إلى حل، ومنذ قيام اتحاد الإمارات 1959م، وحتى انفجار ثورة 26 سبتمبر 1962م خف الصراع العسكري بين الجانبين.
بعد نجاح الثورة السبتمبرية المجيدة تحول الإنجليز إلى داعم رئيسي للإمام البدر، ليتنامي ذلك الدعم قبل حصار صنعاء نوفمبر 1967، وقد تكفل بوضع خطة ذلك الحصار التي أسميت ب (الجنادل) عدد من كبار القادة العسكريين الأجانب، كان يطلق عليهم المغامرون في حرب اليمن، وعلى رأسهم الجنرال اليهودي الأمريكي بروس كندي مستشار البدر، والخبير البريطاني ديفيد سمايلي، والميجر بنكلي، وبيلي ماكلين، والفرنسي بوب دينار، صاحب شعار: (وكانت هنا جمهورية).
تم حشد حوالي 70,000 من رجال القبائل، و10,000 جندي نظامي، إلى جانب قوات عسكرية تجمعت من بلجيكا، وفرنسا، وأمريكا، وإيران، وإسرائيل، وجنوب أفريقيا، وحوالي 300 ضابط من المرتزقة الأجانب، فيما تكفلت العربية السعودية بدفع 300 مليون دولار، كما قامت بريطانيا بتسليح حوالي 20,000 من أبناء القبائل، وأذاع راديو لندن حينها أن الإماميين زودوا بأكبر صفقة سلاح، قدرت قيمتها بـ400 مليون جنيه استرليني، بالإضافة إلى المئات من سيارات الوانيتات السريعة الأمريكية الصنع.
مما لا شك فيه أن جلاء الاستعمار البريطاني من الجنوب، مثل نقطة فارقة في توازن القوى، حرم الإماميين من شريان حيوي هام، كان يمدهم بالمال والسلاح، بل أن قواتهم خلال الخمس سنوات الماضية كانت تتلقى تدريباتها في معسكرات خاصة داخل الأراضي الجنوبية، وفي أكثر من مرة استخدم الإنجليز سلاحهم الجوي لصالحهم، وقد تجسد ذلك بالفعل عند احتلالهم لمدينة حريب، وذلك قبل حصار صنعاء بأيام.
وليس من المُستبعد كما أفاد جار الله عمر أحد أبطال فك الحصار في إحدى كتاباته، أن عملية الجلاء هي من دفعت قوى التخلف للإسراع في حصار صنعاء، بدليل قيام إحدى الدول الداعمة للرجعية بإرسال وزير خارجيتها إلى لندن، لحث الإنجليز على تأجيل انسحابهم، حتى تحسم معركة صنعاء، إلا أنَّ الرياح أتت بما لم تشتهِ سفنهم.
- الصورة للمرتزق البريطاني ديفيد سمايلي الذي دعم فلول الإمامة عقب ثورة سبتمبر
المرتزق البريطاني ديفيد سمايلي الذي دعم فلول الإمامة عقب ثورة سبتمبر
عناوين ذات صلة:
زر الذهاب إلى الأعلى