آراءدراسات وبحوث

تو إلى الدجل وتوالت الثورات

بلال الطيب يكتب: تو إلى الدجل وتوالت الثورات


سيطر يحيى بن الحسين الرسي في الشهور الأولى لوصوله صعدة على وشحة في حجة، ثم برط، وذلك بعد معارك محدودة أصيب في إحداها، وقد جعل على تلك المناطق الولاة من أقاربه، وأرسل إليها مُحصِّلي الزكاة؛ كانت الأولى (وشحة) تابعة لآل يعفر، وكانت أيضاً أول من تمرد عليه ربيع الآخر 285ه / مايو 898م، امتنع سكانها عن دفع الزكاة وغيرها من الضرائب التي فرضت عليهم، وقد تمكن من إخماد انتفاضتهم بسرعة.
توجه الرسي بعد ذلك إلى خيوان، وحجور، ووداعة، سيطر عليهن دون قتال، ثم توجه إلى أثافث (خمر)، وهناك كادت الحرب أنْ تشتعل بينه وبين شيخ بكيل الدعام بن إبراهيم العبدي، ثم آل الأمر إلى الصلح، إلا أنَّه لم يدم طويلًا؛ عاود أرحب بن الدعام السيطرة على خمر، وقتل عبدالعزيز بن مروان عامل الإمام عليها، والأخير أحد الإماميين القادمين من البحرين.
في وصفه لجنود الشيخ الدعام قال كاتب سيرة الهادي: «وكان مع الدعام جندٌ فُساقٌ، يشربون الخُمور، ويركبون الذكور، ويفجرون بالنساء علانية، وخبروا أنَّ بعض الجند أخذ جارية غصبًا فافتضها، وقتل أباها»، وأشار إلى أنَّه كان معهم «أربعمائة امرأة فاجرة»، وهي التوصيفات التي كررها ذات المُؤرخ كثيرًا في كتابه، وألصقها بجميع من خالف سيده.
توجه الهادي يحيى إلى خمر، ولا غرض له إلا الانتقام، تجمع له 730 مُقاتل، وهزم بهم البكيليين، وأجبر الشيخ الدعام على الهروب إلى خيوان ذي القعدة 285ه / ديسمبر 899م، وذلك بالتزامن مع نكث سكان الأخيرة لبيعته، فما كان من إمام صعدة حينها إلا أن آثر في بني صريم الاستقرار، مُنتظرًا وصول النجدة والمدد من طبرستان.
كان الهادي يحيى قد راسل بني عمومته في طبرستان طالبًا المدد، فأمدوه بمئات الطبريين، وقيل بالآلاف، اختصهم بحراسته، وقيادة جيشه، وأسماهم ب (المهاجرين)، فيما أسمى القبائل التي ساندته ب (الأنصار)!!
تقوى بعد ذلك أمره، وسيطر على عددٍ من المناطق البكيلية، كأرحب وغيرها، وبدأ الشيخ الدعام يُفكر جديًا بالاستسلام له، فثبط الأخير بعضًا من أبناء قبيلته، وخاطبوه: «بل تقاتل ونقاتل معك، ولا يؤخذ ملكًا قد قاتلت عليه آل يعفر، وغيرهم، ثم تدفعه إلى العلوي مسلما»، فلم يكن منه سوى الخضوع صفر 286ه / فبراير 899م، وخضعت معه خيوان، وأعطوا جميعًا الأمان.
ظل الهادي يحيى بعد ذلك مُتنقلًا ما بين حوث، وخيوان، وخمر، ومذاب، وصعدة، يُصالح هؤلاء، ويحارب هؤلاء بهؤلاء، ولم يستقر خلال العام 286ه على حال، وكان صاحب ريدة صعصعه بن عمر - من بني هعان آل سلم - قد راسله منتصف العام السابق، ودخل وعشيرته في طاعته، وسانده في حروبه مع الدعام.
أما شيخ حاشد أحمد بن محمد بن الضحاك، الذي هو الأخر كانت بينه حروب ثأرية مع الدعام، وكان بينهما أيضاً تنافس على زعامة همدان، فقد قاد تمرد قبيلته على إمام صعدة، ليجنح بعد حروب كثيرة إلى السلم مُؤقتًا، وآثر في خيوان الاستقرار، بضيافة عاملها محمد بن الإمام.
وفي صعدة امتنع أحمد بن عبدالله بن عباد الأكيلي عن الخروج مع الهادي يحيى إلى نجران، لتنشب في ذات المدينة معركة صغيرة تجددت بسببها ثارات بنو سعد والربيعة، ليقوم الأكيلي بعد مُغادرة القوات الإمامية بالإفراج عن عدد من المساجين، جلهم من قبيلة بني الحارث المذحجية، وذلك ليلة عيد الأضحى / 15 ديسمبر 899م، وتوجه المفرج عنهم على الفور لمساندة أصحابهم في نجران.
عاد الهادي يحيى من نجران إلى صعدة مُغاضبًا جمادي الآخر 287ه / يونيو 900م، وقال في ابن عباد وأنصاره:
خانوا الإله وعطلوا أحكامه
فمتى أرى البيض البواتر ترتع
فيهم بتدمر وقعة في وقعها
فيها رؤوسهم تحز وتقطع
حتى يجازوا بالذي قد قدموا
مثلا بمثل والأنوف تجدع
توجه الهادي يحيى بجيش كبير إلى علاف غرب صعدة، حيث تحصن الأكيليون، ونفذ فيهم بعد حروب وخطوب وعده، ووعيده، قتل منهم من قتل، ونفى منهم من نفى، ثم أمر بحرق قراهم، وهدم منازلهم، وقطع أعنابهم، ونهب عبيدهم، ومواشيهم؛ مبررًا ذلك بما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع يهود بني النضير، وقال فيهم شامتًا:
وهم ما بين كلب هارب
ذاهل العقل ومرعوب صعق
عاينوا الموت فخلوا دورهم
وعيالات لهم عند الفرق
وزروعًا وعنابًا جمَّةً
وسلاحًا وأثاثًا وسرق
وعبيدًا ودروعًا غُنِمت
وثيابًا ومتاعًا وورق
وما هي إلا أيام قلائل حتى راسله ابن عباد طالبًا الأمان، فلم يُؤمنه؛ فما كان من الثائر الأكيلي إلا أنَّ توجه إلى بغداد طالبًا النجدة من المُعتضد العباسي، وكان الأخير قد هم بأن يُنجده، إلا أنَّ أخبار هزيمة الهادي يحيى في صنعاء - التي تحدثنا عنها في الموضوع السابق - كبحت نيته.
كان ابن عباد شاعرًا مجيدًا، قال عن رحلته إلى العراق قصيدة طويلة، جاء في مطلعها:
هل العين أمست والكرى لا يطيعها
ففيم تلوم النفس أو ما صنيعها
وإني وإن كان العراق محلة
من الأرض مأمون ظِماها وجوعها
إلى أنْ قال:
وما القلب بالناسي على كل حالة
وإن نزحت دار وبان شسوعها
مشارب رحبان إذا الأرض أزهرت
رباها وغصت بالمياه جميعها
مواطن من آبائنا وجدودنا
قديمًا لهم أحماؤها وقطوعها
وفي رمضان من العام 289ه / أغسطس 902م عاد ابن عباد إلى علاف، وقام بانتفاضة كبرى، سانده فيها بنو طريف، وبنو الحكمي (سلاطين المخلاف السليماني)، وامتدت ثورته إلى كتاف، ووائلة، والمطلاع، فما كان من الهادي يحيى إلا أنْ توجه إلى تلك المناطق، ومارس في حق سكانها جرائم حرب شنيعة حتى طلبوا لهم ولابن عباد الأمان.
وكم من منازل دُمرت، وبيوت أحرقت، وأعناب قُطعت، وقد استرسل المُؤرخ العباسي في نقل تلك الجرائم مُتباهيًا، وقال في معرض حديثه عما حدث لقرية أملح: «ومضى العسكر كله حتى نزلوا قرية أملح، ونهبوا ما وجدوا فيها، وأقاموا أيامًا يخربون المنازل والآبار، ويقطعون النخيل والأعناب، والقوم في ذلك يطلبون الأمان، وهو كارهٌ لذلك - يقصد الهادي يحيى - لما يعلم من شراراتهم، وقلة وفائهم، وهو ينتقل في قراها ويخربها قرية قرية، حتى طرحوا عليه بأنفسهم، فأمنهم، ورجع إلى صعدة بعد مكابدة شديدة لهم».
عاد الهادي يحيى هذا المرة إلى صعدة مُنتشيًا غانمًا، وما هي إلا أيام معدودة حتى وصلته رسالة من صاحبه الشيخ الدعام بن إبراهيم يخبره فيها بخلاف آل طريف، وآل يعفر، ويستنهضه للتوجه إلى صنعاء، مُشيرًا إلى أنَّ الأخيرين راسلوه، ووعدوه بتسليم الأمر لإمام صعدة، على أنْ يحاربا آل طريف معًا.
في الوقت الذي وقف فيه شيخ بكيل الدعام بن إبراهيم مع الهادي يحيى، وقف شيخ حاشد أحمد بن محمد بن الضحاك مع آل طريف، وكانت بين الأخير وآل يعفر ثارات قديمة، وسبق لأحد مواليهم - كما أفاد الحسن الهمداني - أنْ قتل والده غيلة؛ وهو الثأر الذي اتحدت لأجله همدان (حاشد، وبكيل)، واجتاحوا بقيادة الدعام صنعاء، وذلك قبل مقدم يحيى بن الحسين بسنوات قليلة.
ومما قاله الحسن الهمداني عن الدعام بن إبراهيم: «ثم لاءم - أي و إلى - العلوي يحيى بن الحسين بعد ذلك إلى آخر أيامه، وأسلم إليه بلد همدان، وقام - يقصد وقاوم - معه ابن طريف، والقرامط»، وأشاد الهمداني في المُقابل بموقف صديقه أحمد بن الضحاك، الذي نعته ب (سيد همدان، وصاحب الوقائع والأيام)، وقال أنَّه شهد معه 106 موقعة، كان أكثرها مع الهادي يحيى.
وفي منتصف العام التالي، وعلى مشارف صنعاء دارت معارك كثيرة بين إمام صعدة، وآل طريف، تثاقل آل يعفر في آخر تلك المعارك عن نُصرته، وكذلك فعل كثير من الهمدانيين، وعن ذلك قال كاتب سيرته: «وأرسل الصوارخ في همدان، فلم يأته أحد، وكان كلما وصلت رُسله قرية من همدان نهض أهلها إلى آل طريف، وأجمع معهم عليه همدان للطمع»، أما الدعام بن إبراهيم، وبعد أن رأى الدائرة عليه، نصحه بأن ينجوا بنفسه، فلم يفعل، وحصل في النهاية ما لم يكن في الحسبان.
خسر إمام صعدة في تلك المعارك كثيرًا من أنصاره معظمهم من الطبريين، ولم يتسن له هذه المرة دخول صنعاء، انتصر عليه آل طريف عليه انتصارًا ساحقًا، ونجح حليفهم أحمد بن الضحاك في أسر ولده محمد وعددًا من عساكره في منطقة إتوة في أرحب، وسلمهم لإبراهيم بن خلف، فطاف بهم الأخير في أسواق صنعاء، ثم قام بحبسهم في بيت بوس، وقال الأمير الأسير في سجنه أشعارًا كثيرة نقتطف منها:
يا بيت بؤس حللنا في حواك على
خذلان أمتنا من بعد ميثاق
ماذا اعتذارهم عند النبي غدًا
إذ لم يقوموا على نصري وإطلاقي
أراد المكتفي - الخليفة العباسي حينها - أنْ يستعيد صنعاء لحظيرة الدولة العباسية، ويقضي على الدولة الهادوية في مهدها؛ وجهز لذات الغرض علي بن الحسين جفتم، والي صنعاء السابق، وأحد أبرز قادة جيشه، أرسله على رأس قوة كبيرة، ليتفاجأ القائد جفتم حال وصوله مشارف المدينة بخروج الهادي يحيى منها، وقيل أنَّ الأخير سمع بمقدمه فولى هاربًا.
وفي صنعاء قبض آل طريف بالخديعة على القائد جفتم، ثم زجوا به في السجن، وقتلوا كثيرًا من أصحابه شوال 290ه / سبتمبر903م، جاء حينها الأمير أسعد بن يعفر لنجدته، نجح في ذلك، فيما هرب إبراهيم بن خلف إلى تهامة، وفيها لقي حتفه، وما هي إلا أيام معدودة حتى اختلف جفتم وأسعد، انتصر الأخير، وقام بقتل غريمه، وأطلق مطلع العام التالي الأمير محمد بن الهادي يحيى من الحبس، واستمر مُسيطرًا على صنعاء لسنوات مُتقطعة.
أما الهادي يحيى فإنَّه وبعد تلك الخيبات المتتالية، فقد آثر البقاء في صعدة، وانحصرت دولته في تلك الجهة، وتفرغ للتأليف، وإعادة ترتيب أوراقه، وذلك بالتزامن مع حدوث مجاعة كبيرة أهلكت الحرث، والنسل، وشملت معظم المناطق اليمنية، وعنها قال كاتب سيرته: «وكانت قد حصلت في البلاد حطمة عمت البلاد حتى أكل الناس فيها بعضهم بعضًا».

زر الذهاب إلى الأعلى