لماذا القومية اليمنية؟
ضياء السعيدي يكتب: لماذا القومية اليمنية؟
كنت قد كتبت تحت هذا العنوان مقالا قبل قرابة السنة حاولت فيه توضيح معنى القومية وتحديد ملامحها وتوضيح محدداتها في سياق المجتمع اليمني ومكوناته الثقافية. قبل يومين، أردت أن أعيد نشر ذلك المقال، لكني حين قرأته أدركت كم أن الحراك القومي قد تجاوز تلك المرحلة وأن ذلك المقال لم يعد يعكس وضع الحراك اليوم.
فالحقيقة أن الحراك القومي قد ازداد زخمه وارتفع عدد منتسبيه بشكل ملحوظ مؤخرا مما أدى لمزيد من الجدل الخصام بين المؤيدين للقومية اليمنية أقيال بصفتها المشروع الفكري الاقدر على مواجهة المشروع السلالي، وآخرين معارضين لها بصفتها دعوى "عنصرية". إلا أن أغلب هذه الجدالات يظهر بعض أصحابها فهما قاصرا لمفهوم القومية، أو يعيش بعضهم الآخر في عصور أخرى لا تتشابه مع عصرنا الحديث بأي شكل من الأشكال.
إن الدعوى لتأسيس دولة قومية ليس خروجا عن قوانين العصر وسننه بل هو على العكس من ذلك تماما. فالنظام السياسي العالمي اليوم قائم على مفهوم الدولة القومية، وهو النظام الذي أسسته معاهدة وستفيليا ١٦٤٨، والذي على أساسه توصلت أوروبا لمفهوم سيادة الدولة على حدود قوميتها من أجل بناء سلام دائم بين الدول الأوروبية، وهكذا ولد مفهوم الدولة القومية.
ثم غزت أوروبا العالم وجلبت معها نظام الدولة القومية إلى أقطار العالم المختلفة. وعندما اسنحبت من مستعمراتها تركت ورائها دولا ناشئة حائرة، تسأل سؤالا واحدا، ما هي قوميتنا؟ أي على أي هوية نبني دولتنا القوية؟ عانت الدول جديدة المنشأ صراعات مدمرة في سبيل الإجابة على هذا السؤال، فقاتل شمال كوريا جنوبها،. وشمال فيتنام جنوبها، وفي الصين تقاتل الشيوعيون والجمهوريون، بينما تقاتل التتسو والهوتو في رواندا.
كل من هذه الدول وصلت في الاخير لاجابتها الخاصة ، أحيانا بالحوار والمصالحات وصياغة الهوية المشتركة، وأحيانا بالحروب المدمرة التي يفرض فيها طرف ما تصوره الخاص عن القومية. في الاخير استقرت هذه الدول واستطاعت تأسيس الدولة القومية الحديثة التي تمثلها أمام المجتمع الدولي خارجيا، وتحكم الأمة داخليا. وهكذا استقر شكل النظام العالمي بهذا الشكل، دول قومية تحكم شعوبا وفقا لهوياتها المولودة من ثقافتها وتاريخها والأهم من ذلك جغرافيتها.
جميع المشاريع المستوردة من خارج نطاق الجغرافيا تفشل في إحداث نهضة حقيقية لأنها لم تخلق في تلك الأرض ولم تترعرع فيها، فتكتفي بإحداث تشوهات اجتماعية وتفشل في إحداث تغييرات حقيقية. وأغلب الدول التي نهضت اتكأت على قومياتها محاولة إيجاد هوية مشتركة توحد الأمة تحت مظلتها. هكذا فعلت اليابان والألمان، بل وحتى الصين الشيوعية التي قامت بإعادة تشكيل الشيوعية لتكون ذات طابع صيني قومي.
إن الشعوب التي لم تحل مسألة الهوية لديها ولم تتمكن من إيجاد قومية مشتركة لها،. تغدو شعوبا خاوية يبحث فيها الفرد عن انتماءات يحقق من خلالها ذاته. فيسهل بذلك على أصحاب المشاريع الدينية والاقليمية والأجنبية امتطاء أبنائها. ليس من الغريب ان نجد سياسيوا اليمن جميعا اليوم مرتهنون لمشاريع خارجية، ففي ظل غياب الهوية القومية، ترتبط كل جماعة بمشروع يشبهها اديلوجيا أو يحقق مصلحتها المادية ، فيرتبط الاخوان بتركيا، والحوثي بإيران، والجنوب بالإمارات، ويضيع اليمن من الشرق إلى الغرب.
يقول الكثيرون لكنا جربنا القومية العربية، فأين ذهبت بنا؟ نقول لهم أن القومية العربية لم تكن إلا أداة أخرى استخدمها أهل المراكز العربية تاريخيا كسوريا والعراق ومصر ليعززوا مركزيتهم في العالم العربي على حساب بقية الاقطار. فاللغة العربية وإن كانت جامعة، إلا أن التباينات الثقافية كبيرة بين الأقطار العربية ، وأي حديث عن قومية عربية هو محاولة لامتطاء الغير بشعارات رنانة مثلها مثل الشيعية التي تستخدمها إيران أو الإسلامية التي تستخدمها تركيا، بينما لا يوجد مشروع حقيقي جامع سوى القومية المحلية لأننا ببساطة نعيش في ظل نظام عالمي مبني على أساس الدولة القومية.
ماذا عن الدين؟ لماذا لا نكتفي بهويتنا الإسلامية؟ مرة أخرى، المشكلة في الهويات العابرة الأقطار أنها أدوات يسهل استخدامها لفرض الوصاية، وخرق السيادة، فإيران تستخدم مذهبها الإسلامي لهرق سيادة سوريا،. لبنان، العراق ،اليمن. والسعودية استخدمت الوهابية لخرق السيادة اليمنية ودولا أخرى. يجب أن لا تتجاوز نظرتنا للدين الا كونه إحدى مكونات الهوية ، لكنه ليس الهوية ذاتها. بل يجب علينا كيمنيين أن نعمل على الاجتهاد لإنشاء مذهبنا الديني الخاص اليمني بفهم يمني وعقول يمنية، مذهب يحقق مصالح اليمنيين ويتماشى مع ثقافتهم ويجعل اليمني الحميري في مركزه، لا الحجازي ولا المصري ولا الهاشمي. وقد يبدو قولي هذا عجيبا إلا أن هذا ما فعلته أغلب الدول العربية، بينما ظللنا نحن المستوردين لفضلات أفكار العالمين الإسلامي والغربي ابتداءً من الزيدية الهاشمية والشافعية القرشية، ومرورا بالمشاريع العربية المصرية ، وانتهاءً بالمشاريع الأجنبية كالاشتراكية والليبرالية وما ذلك الا لغياب مشروع قومي محلي. ثم أين وصلنا بكل ذلك؟ إلى ما وصلنا إليه اليوم.
الآن، أنا لا أقول أن القومية اليمنية جاهزة بعد، فهي ليست رداء يحاك ومن ثم يمكن ارتداءه الليلة وخلعه غدا. بل هي شعور ورابطه وانتماء بدأ ينضج، ويتطلب من المنتمين إليه أن يبذلوا قصارا جهدهم من أجل إكمال تخلقه عن طريق القراءة في التاريخ وبعثه، وبث الروح التي سكنتهم في نفوس إخوانهم اليمنيين. فالقومية هي السلاح الأخير المتبقي لنا في مواجهة هذا الاستلاب والتجريف لذواتنا وهويتنا وتاريخنا من قبل عدو الداخل وعدو الخارج.