في ذكرى "الأمين الكبير"
لطفي نعمان يكتب: في ذكرى "الأمين الكبير"
يصعب في ذكرى الكبار استذكار كلمات قصار، لا تفي حقاً ولا تشفي غليلاً.. فكيف لو كان ذاك "الأمين الكبير".. أمين الأحرار: الشيخ أمين عبدالواسع نعمان (30 ديسمبر 1908- 3 مارس 1997م).
بعد إحدى وعشرين سنة على رحيله، ورحيل كل مناضل أصيل. يتبين أن الأقوال المجردة من الوثائق التاريخية والحقائق الناصعة، لا تكفي استذكار وقائع حياته، من يتمٍ إلى شباب مهاجر، فنضال واعٍ مغامر، وإصرار مكابر على حق المواطنين اليمنيين في حياة أكثر جِدَةٍ ومستقبلٍ أفضل للأجيال الآتية بعده.
ليست إعادة سيرة "الأمين" سرد ما شغل من مناصب وما تبوأ من مواقع.
ولا هي الترحم لدى حضور الذكرى، أو التأوه على تبدد الفكرة.
إنما السيرة يتجدد ذكرها بمواصلة المسيرة. وأن يُدرَسَ الأمين السائر في نضاله من فشل ثورة إلى إخفاق "محاولات" أخرى حتى تمكنت الأخيرة.
وإدراك أن الباعث لنشاطه ونشاط رفاقه جميعاً إحلال "نظام حكم" بنظم وقوانين وضوابط، وأن يروا "يمنهم سعيداً كاسمه التاريخي: اليمن السعيد".. وفي سبيل ذلك سعى الأمين أثناء السجن والإقامة الجبرية خلال الخمسينيات "لإيجاد قاعدة شعبية والربط وتوثيق الصلات بين الشعب والجيش".
وما على الحالمين والعاملين الأوائل أن ناموا واستيقظ الذئاب وقاموا.. ثم من بعد حملة الأماني والضمائر، ما سار -بوحي تلك الأماني والضمائر- فريق أو ثلة في الطريق بغير ضوابط.
لم يعانِ الشيخ أمين قليلاً لا قبل الثورة ولا بعدها، لا من سجون العهدين وجحود الجاحدين فحسب، بل ومن "انعدام الحس بالمسئولية".. دون أن يكف مساعيه نحو "تصحيح الأوضاع" أثناء مسئوليات جسام تبوأها بعهد الإمامة.. ثم إثرها.
ورائد الأمين قوله: "لا أستطيع تحمل اللوم وإغماض العين على فساد معروف".. ولتكن "خدمة نوفق فيها إلى رضا الله". بعيداً عمن أصابهم "عمى" عن نهج أعمالهم.. فأكثروا "الضياع" و"الإهمال" موجبين "اللوم والتصحيح".
وعندما حان موعد "أهم حدث عاشه"، وفق تعبيره، وهو ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م وانتقل "من السجن إلى الميدان والدفاع عن الثورة والوزارة والعمل في خدمة الوطن"، استفزته المواقف الثقال، التي يسرت المقارنة وترديد القول: "بأنه ما كان في الماضي يوجد مثل هذا!". من سلاح بيد العامة، وفساد يقوده الخاصة، وإساءة للثورة ممن يدعون الذود عنها ويغامرون بمصير الشعب، وهو من يعتبر "المغامرة بالشعوب جريمةً لا تُغتفر، ولا هي بالبساطة التي يتصورها المغامرون".
وأدلى الأمين بالنداء -أثناء الجمهورية- مبكراً: "لنعالج داخلنا، ونصلح أنفسنا، ونطهر جهازنا ونضع كل شيء في نصابه.. ونعتمد على العدل وإعطاء الحق أهله ونغيِّر من الماضي الموروث ونعرف لماذا ثرنا". وذاك وفقاً لرؤيته الناضجة "هو أحسن رد وتكذيب" لكل قول مغرض وشائعة رائجة.
تسلسلت مغامرات الصغار وتو إلى تطاولهم على كبار الرموز الوطنية، وبينهم "الأمين الكبير"، غير أنه بما اتسم به من حِلمِ زاد رسوخاً بما اكتسب من عِلم بطبائع البشر وتفاوت عقلياتهم، اقتدر على مبادرة الفضلاء منهم بالاحتواء، والانصراف عمن لا تحتويهم تجربة كونهم "يسيئون إلى أنفسهم وشعوبهم وحكوماتهم جهلاً وطفولةً ومراهقة"!
مع رفاقه الكبار عقب حصار السبعين يوماً ودوره المشهود فيها تجييشاً وعملاً وطنياً، كانوا جميعاً ممن آثروا السلام وجيشوا له أيضاً القوى الوطنية، فلم يوثروا السلامة.
فثمة فارق بين الأمرين، فالسلام قرار شجاع وذاك توارٍ خَدّاع.
وما كان للأمين أن يتوارى خلف شعار وبريق خداع، أ كان تحت مسمى الوحدة الوطنية أو القومية العربية أو النصرة الإسلامية وقد تجلت الحقائق أمامه، وهو الصوفي نضالاً مبكراً وانتساباً أصيلاً –حفيد الشيخ الصوفي محمد حسان، ونجل المتصوف الشيخ عبدالواسع نعمان- متحلياً بالصبر والحِلم والعلم، مميزاً بين الحق والباطل، عارفاً بنورانية تامة كامن الأمر وباطن الظاهر، فعاش مقراً بأن "المذاهب الدينية لا تفصم الوحدة الوطنية ولكنها الحقوق التي تُسلَب ومجانبة الحق في الأحكام هي التي تفرق بين أبناء البيت الواحد، وامتهان الكرامات هي التي تثير الحفيظة".
وفي سبيل إحقاق الحق، وهو في سن كبيرة، اقتطع من عافيته الكثير والكثير من الجهد والعناء لمعالجة مشاكل كثيرة عانتها غير منطقة مما عمل فيها أ كان بتعز أو صنعاء أو إب أو ريمة حيث "تنقل بين المراكز والقبائل بصبر وسعة صدر وحنكة يحل كثيراً من المشاكل المزمنة التي ظلت لسنوات دون حل جذري" متبعاً بذلك "الأسلوب الإيجابي في معالجة المشاكل" فاعتبروه "مثلاً ينبغي على المسئولين الاحتذاء به".
اقترابه من فَجرِ حياته من روح العصر وانخراطه ضمن الرعيل الأول من قادة العصر الجديد في اليمن، جعله مدركاً حاجة الأمة أن تتمثل مصلحتها بتبديد الشكوك بين القوى التقليدية والتقدمية، ليصلوا معاً إلى بناء يمن عصري وحديث وديمقراطي تحت مظلة دولة النظام والقانون..
غير أن رياحاً لا تشتهيها السفن هبَّت، ومضت بالركب صوب ما مضت إليه من تحولات وانقسامات مجتمعية لم يكن كبار الأحرار يرجونها إذ تعثرت قدراتهم على بناء الدولة المنشودة، وقابلوا كل ذلك بما يوجبه "التحمل والصبر" حتى ضاق الصدر السياسي بعضه ببعض، ووقف الطود الأمين وسطاً بين المتضايقين في كل عهد، من الإرياني حتى الحمدي، ولجلال قدره وتاريخه ومكانته ظل حكماً بين المتخاصمين، ممن قضوا وبقوا ينظرون إليه باعتباره "العم أمين" مُهاب الجانب ومكرّم القدر.
عاش رحمه الله شاهداً على التحولات الكبرى أثناء تاريخٍ له بصمة واضحة، يواريها تواضعه وزهده.. حتى يوم قضى نحبه في الثالث من مارس 1997م، غير آسف على شيء سوى ما يحرزه أعداء العرب والمسلمين من انتصارات بأيدي الأشقاء العرب والمسلمين أنفسهم!
- الصورة أمين عبدالواسع نعمان
عناوين ذات صلة: