آراء

عبدالحليم حافظ... قليل من الصوت وكثير من البكاء

جمال حسن يكتب: عبدالحليم حافظ... قليل من الصوت وكثير من البكاء


هل انحسر بريق عبد الحليم حافظ في السنوات الأخيرة؟ على الأقل، لم يعد ينافس نجوم الغناء الحاليين على جمهور الشباب، كما كان في سابق الأيام.
يصادف اليوم مرور 44 عاماً على رحيله، بعد مسيرة جعلته المغني العربي الأكثر تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين؛ إذ غيّر من أساليب الغناء، تاركاً بصمة واضحة لا تشبه بصمة أحد.
مع هذا، كان له دور في إفساح المجال للأصوات الضعيفة وحتى الرديئة لتحتل عالم الغناء.

عند ظهوره، كان يدرك حليم أن متطلبات الغناء السائدة لا تتناسب ومساحة صوته، هو أيضاً لديه قصور في أداء المقامات الشرقية، على خلاف أدائه المقامات الخالية من ثلاثة أرباع الصوت. لذا، سيعمل على تعويض هذا القصور بالإفراط العاطفي.
فصاحب "في يوم، في شهر، في سنة"، قلب مفاهيم الغناء، ومعه أصبح "الإحساس" أكثر أهمية من الصوت. ربما أعطى الغناء بعداً مرهفاً لم يكن مسبوقاً، لكنه أيضاً كان من النوع القادر على فرض حضوره، إذ امتلك كل مؤهلات النجومية، وتمسك بالقمة، رغم ظروف وآلام المرض.

فرض عبد الحليم شخصيته الغنائية بكل إيجابياتها وبعض سلبياتها. وبعيداً عن مساحة الصوت، لديه خامة صوت جميلة وطبقة تينور جذابة، إذ كان الغناء العربي ينحاز للطبقة الأصوات الجهيرة، وتلك الذائقة تغيرت. بمعنى أن كل شيء لمسه عبد الحليم في مسيرته، اتخذ معنى جديداً ومغايراً لما سبقه.
أجازته لجنة الإذاعة كمطرب، لكنه ظل يعمل في فرقتها عازفاً للأوبوا.

يُقال إن أول أغنية سجلها كانت لفنان آخر، ربما عبد الغني السيد، لكن ظرفاً طارئاً حال من دون مجيئه. قبض حليم على فرصته وأعلن أن بإمكانه تسجيلها. البعض تأتيه الفرص ويفقدها، لكن ليس هو. خلال أربع سنوات، سجل عشرات الأغاني للإذاعة. ربما لم يلفت انتباه أحد، أو قليلون من آمنوا بموهبته. وما يُقال، إن عبد الغني السيد توقع قائلاً: "الظاهر إن الواد حيقعدنا في البيت"؛ أي أنه سيكون سبباً في تقاعد فنانين آخرين.
لم يكن السيد مؤمناً بموهبة حليم، بقدر ملاحظته جوانب في شخصيته، كانت تحمله للوصول إلى ما يريد. الأرجح أن عبد الحليم هو من طلب من المسؤول في الإذاعة أن يتبنى اسمه، ليصبح "حافظ" بدلاً من "شبانة". أغانيه الأولى سجلها في الإذاعة باسم عبد الحليم شبانة، وليس كما جاء الرواية الشائعة. يبدو أن معظم ما قدمه لم يكن من اختياره، فكثير من تلك الأغاني لم تكن قادرة على إفساح المجال لصوته، وبين الملحنين الذين تعامل معهم في تلك الفترة، احتفظ بصديقيه كمال الطويل ومحمد الموجي، ويدين لهما بفضل كبير في صقل أسلوبه، وكانت ألحانهما من صنعته.
عند سؤاله عن أول اغنية سجلها، كان يجيب بأنها قصيدة "لقاء" من ألحان الطويل. والحقيقة أنه أدّى عدة أغان قبلها
أغلب الظن أن عبد الحليم حاول إنكار بعض ملامح تلك الفترة، فعند سؤاله عن أول اغنية سجلها، كان يجيب بأنها قصيدة "لقاء" من ألحان الطويل. والحقيقة أنه أدّى عدة أغان قبلها، لكن حليم أغفل جانباً في مسيرته فرض عليه تسجيل أي أغنية مُتاحة يمكنها أن تجعل صوته على الإذاعة.

ربما لم يكن يرغب بإيذاء صورته لدى الجمهور. لهذا، دائماً ما يؤكد أن أغنية "صافيني مرة" لحن الموجي هي أول أغنية تلفت الانتباه إليه. ربما كانت أول أغنية يتبلور فيها أسلوبه الغنائي بوضوح، وتتيح لصوته إظهار جماليته بالتعبير العاطفي.
جميعنا نعرف أن أغنية "على قد الشوق"، من لحن كمال الطويل، هي التي فتحت له باب النجاح، ولم يتخلّ عن ذلك، ليصبح صاحب القصة التي نعرفها. على أن هناك جانبا دراماتيكيا لازمه، إلى حد أنه ظل يتماهى معه طوال الوقت.
كان عبد الحليم رمزية أخرى للتحول الذي شهدته مصر بعد الثورة، رمزية طغت على العالم العربي بكل إرهاصاتها الخطابية، وكان صوت عبد الحليم بُعدها الحالم والرومانتيكي. وحتى نمنحه حقه، لا بد من إظهار الجرأة غير المسبوقة للفتى الضئيل، الذي رسم مشاعر مستمعيه بالألم والبكاء، وكما لو أن أغانيه سيرة ذاتية يمسرحها بصوته كقصص حب مستحيلة.
كان عبد الحليم رمزية أخرى للتحول الذي شهدته مصر بعد الثورة، رمزية طغت على العالم العربي بكل إرهاصاتها الخطابية، وكان صوت عبد الحليم بُعدها الحالم والرومانتيكي
هكذا، افتتح عبد الحليم قصة نجاحه معلناً عن نفسه بطريقة درامية، في فيلمه الثاني "ليالي الحب" باعتباره نموذجاً لحداثة غنائية، متناولاً أغاني الماضي بتهكم لافت في أغنية "يا سيدي أمرك"، التي تسمح لقوالب الغناء القديم بالدوران، وفيها يغني قوالب قديمة.
الأغنية تعالج موقف في الفيلم، حيث وقع في قبضة الباشا، وحتى لا يزج به بالحبس، غنى له أشكالاً قديمة لإرضاء ذائقته. لكن حليم يؤدي القوالب القديمة بتعبير تهكمي برع فيه، خصوصاً في قصيدة أم كلثوم "وحقك أنت المنى والطلب". هل كان مغزاه السخرية من كل ممثلي التيار القديم، بمن فيهم أم كلثوم؟ لكن عبد الحليم، وبخبث لافت، يختم الكوبليه، ليعلن عن نفسه وبتعبير أقل استخفافا "ولي قصة يا سيدي ستغير من مجرى الطرب".
الجلي أنه فعل كل شيء بعناية، حتى أنه اختار زوج ام كلثوم السابق محمود الشريف لتلحين الأغنية. مع هذا، نتساءل: هل كان للعصر نفسه دور في تكوين تلك السيرة ليصنع أحد أبطاله أو رموزه؟ تزامن نجاح حليم مع وضوح ملامح حقبة جديدة، وتحديداً بعد صعود جمال عبد الناصر رئيساً لمصر، أي عام 1954.
كانت الثورة تبحث عن ممثل لها، وليس هناك من هو أقدر من حليم: سيرة كفاحه، فقره ومرضه، صعوده من القاع إلى القمة، ثم تناوله العاطفي للغناء، أي تقديم نفسه كممثل لتيار حديث وثوري ورومانسي.
في سياق آخر، أراد عبد الحليم تعميم حسرته على الجميع؛ إذ حاول أن يجعل من حزنه وبكائياته أسلوب حياة. كان غناء مرهفاً، لكنه يعزز سمات الضعف، الاستسلام للعذاب والتماهي معه.
مع هذا، لا يمكن إغفال المازوخية العميقة في الثقافة العربية، تلك البكائيات متجذرة في غنائنا، لم يبتكرها عبد الحليم. لكنه منح لنفسه حق إثارة التعاطف، وجعل هذا البكاء متمركزاً في ذاته. على خلاف أم كلثوم أو عبد الوهاب، فمهما نشجا لا يريدان أن نتعاطف معهما، وهو الفارق بين التعالي الأرستقراطي والشعبوية الثورية.
ولعل هذا الجانب، جعل من عبد الحليم قريباً ومألوفاً للناس. وفي الوقت نفسه، كان ينبغي على الثورة أن تعثر على فنان الشعب الذي كانه. ابتكر صاحب "قارئة الفنجان" شخصيته الغنائية، وصقلها بصورة تثير جمالية صوته.
في الجوانب التكنيكية، لم يكن بارعاً، حين غنى "فاتوني" و"لحن الوفاء" لرياض السنباطي، لم يشعر بارتياح. في صوته نبرة خطابية، طابع التينور في الأعلى، وهي سمة شكلها كثير من أعماله. في مطلع "أي دمعة حزن" على مقام الهزام، يؤدي اللحن بشكل من الاحتجاج.
يشير صاحب كتاب "شخصية مصر"، جمال حمدان، إلى انه إذا كان هناك شيء يُحسب لعبد الحليم، فليس صوته، بل إنه كان محظوظاً بملحنيه، الطويل والموجي. لكن لا نغفل براعة عبد الحليم في التصوير، وإن لم تكن محسوبة للصوت، حين يغني جملة من النهاوند في أغنية "رسالة من تحت الماء" هي "يا كل الحاضر والماضي يا عمر العمر"، يمنحنا تصوير حشرجات صوته إيحاء بأن الغناء من تحت الماء.
أيضاً، يُحسب الأمر للموجي، الذي أعطى اللحن مسودة يقيم عليها صوت عبد الحليم توهجه التعبيري. كان بالفعل محظوظاً بملحنيه أكثر من أي شيء آخر، وهو أمر جعله يعلن أن قصته ستغير مجرى الطرب، وكان محقاً، متكئاً على ملحنيه.

إذ إنه من دون أن يعثر عليهما، لم يكن سيغني أو نعرف نجوميته. كما أن عبد الحليم كان محظوظاً حين ختم مسيرته بلحن كبير، "قارئة الفنجان"، مع أن اللحن شمل كثيرا من الرائع والمبتذل، فالمقدمة الموسيقية تضخمت بعناصر لحنية لا معنى لها. ولم تشهد تصعيداً في النهاية، إذ كان مقطعها الأخير أقل قيمة.
كما أن القسم الثالث بلحن الهُزام، خصوصاً في الجملة الموسيقية، كان تلفيقاً يحاول إرضاء الذائقة الشرقية، بينما اتخذت طابعاً تعبيرياً رفيعاً. والموجي حاور فيها بصورة ما لحن بليغ حمدي "موعود"، وإن تفوق عليه.
ودائماً ما كان لعبد الحليم طريقة دراماتيكية في أغانيه، فهو يعلن أن حبيبة قلبه "ليس لها أرض أو وطن أو عنوان"، وكان يعلن عن تيه حياته. وفي نفس الوقت، يجسد مرحلة من تيه الغناء والسياسة والدخان الذي يتصاعد في الأروقة الخلفية من المدن. وبالتأكيد، أصبح الغناء بعد حليم ليس كما قبله؛ لكنه أيضاً ترك بعده جيشا من المقلدين له.

فحين سُئل السنباطي عن هاني شاكر، رد بأنه يفضل الاستماع للأصل، أي عبد الحليم، وليس للمقلد. كانت هناك أشياء كثيرة يمكن تقليدها، حتى الوقوف على المسرح، وذلك ما لا يستطيعه شاكر، أو حركة العينين ومد الذراعين بفسحة كما كاظم الساهر.
وأصبحت الأصوات الضعيفة هي محور الاهتمام الغنائي، إلى حد أن عُمر فتحي صاحب الصوت الباهت، حظي بنجاح لولا موته السريع، فالصوت اللين أوجد له عبد الحليم تعريفاً: عاطفي، أو حساس. وفي أحد لقاءاته خلال السبعينيات، أشار إلى أنه كان ساهم بظهور الأصوات "الرفيعة"، بمعنى أنه جعل شريحة كبيرة قادرة على الغناء، لم يكن متاحاً لها في السابق، لكنه أيضاً أعاق أصواتاً عظيمة، لأنها لا تجيد حسه العاطفي.

  • صفحة الكاتب

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى