آراء

ثورة 14 أكتوبر.. موعد التحول والمجد

مصطفى ناجي الجبزي يكتب حول ثورة 14 أكتوبر.. موعد التحول والمجد


تستحق ثورة 14 أكتوبر المجيدة الحديث عنها بل والحديث عنها بإسهاب. فهي ثورة بالتعريف السياسي من حيث مقدماتها ونتائجها. وهي ثورة بمعانيها الاجتماعية.

وربما يخامرني إحساس أتمنى لو أني غير محق فيه وهو أننا في اليمن نغمط هذه الثورة حقها لأسباب كثيرة منها غياب الحامل السياسي لهذه الثورة والذي كان يتمثل بدولة الجنوب التي حبكت كل حديثها حول الثورة ثم غابت في ظرف معين فإذا بالحامل السياسي البديل يتمركز حول سردية أنانية الى درجة تظهر فيها ثورة 14 أكتوبر كتابع ونتاج لثورة مجيدة بحق هي ثورة 26 سبتمبر.

ربما كان للتتابع الزمني في قيام الثورتين دور في هذه السردية ولكن أبسط تمحيص للأحداث التاريخية يقول إن العلاقة بين هاتين الثورتين لا يمكن أن تكون بتعريف واحد أو اتجاه خطي سببي. بل هي علاقة متعدد فيها السببي والاتصال الانخراط وقبل هذا التبادل، لأن كل ثورة صنعت الأخرى، إذ ما كان لسبتمبر أن تنهض دون دور عدن في احتضان الأحرار ورجال التنوير وتسريع الفعل الثوري منذ 1948. وما كان لأكتوبر ان تنطلق شراراتها دون تعز وإب والبيضاء.

والنقطة الأهم هي أن الثورتين لم تكن إلا صنعة جماهيرية. فلم يساند الإمام قيام ثورة في الجنوب بل العكس منع وصوص السلاح المصري إلى ثوار الجنوب في نهاية الخمسينيات. ولم تكن بريطانيا تؤيد قيام نظام جمهوري في الشمال. إنما العكس درّبت وسلّحت وموّلت وبعثت بالمرتزقة إلى أنصار النظام الإمامي.

ولم تكن عدن الإنجليزية هي حاضنة ثوار الشمال انما أوقفت نشاطهم في لحظة معينة كما لم تكن صنعاء او تعز العاصمة الملكية نقطة انطلاق الثورة بل مدن أخرى على غير إرادة السلطة الحاكمة.

لذا فهما ثورتان جماهيريتان بامتياز. ليس للصراع الجيوبوليتيك بين القوى المسيطرة على عدن أو صنعاء إلا دور ايجابي هامشي وهو في مجمله معطِّل.

ينبغي في هذه الذكرى أن نعيد تقديم ثورة 14 أكتوبر الى أجيال اليوم والغد، بأن نموضع الثوة في سياقها التاريخي ونوضح أنها لم تكن هي الأخرى طفرة أو مزاجا، بل سلسلة من التضحيات وفعل ثوري يمني لا يخرج ابداً عن السياق التحرري العربي والعالمي. أي أنها منغرسة في منطق تحرري متصل بتطلعات الشعوب ومتصل بوعي عربي ويمني.

كانت ثورة الضباط الأحرار في مصر في بداية خمسينيات القرن المنصرم قد فتحت باب الأمل في الخلاص من نير الاستعمار، وحفّزت قوى التحرر في جنوب اليمن في استنهاض الفعل الثوري منذ 1955، ثم في العام 1956 وفي العام الذي يليه حتى 1963.

وخلال هذا العقد حاولت بريطانيا بشتى الطرق احتواء المشاريع السياسية المناهضة لها ذات البعد العروبي والوطني من خلال ابتكار مسميات واغراءات انفصالية. منها تعزيز المشاركة السياسية لليمنيين وللمحميات، محاولة خلق كيان سياسي باسم الجنوب العربي لا تدخل فيه عدن.

وهذه المناورات تفّند مقولات تستخف بهذه الثورة المجيدة. إذ هناك من يذهب الى تسخيف التراكم النضالي بالقول إن بريطانيا كانت قد قررت الانسحاب في 1968 وعليه تشجع اليمنيون وبدأوا العمل المسلح. والحقيقية أن بريطانيا في الخمسينيات راكمت من قدراتها العسكرية في عدن وجعلتها قاعدتها العسكرية الأكبر في المنطقة. وسبق هذا التاريخ أن ضمت عدن إلى التاج الملكي مباشرة بعد كانت تتبع بومباي في 1937. دليل إضافي إلى أهميتها.

أي أنها لم تكن ترغب في مغادرتها او التفريط بها لا عسكريا ولا تجاريا. لكن الظروف الصعبة التي خلقها الثوار منذ منتصف الخمسينيات في ردفان والضالع وشبوة وغيرها هي التي أوجدت جدلاً سياسياً داخل بريطانيا وأربكت السلطات الإنجليزية في عدن وجعلتها تتوغل أكثر فأكثر في الدم اليمني.

أمام الرفض الشعبي للسلوك الاستعماري اقتصاديا (خلافات حول سياسات إنتاج وتسويق القطن) وسياسيا (إقصاء اليمنيين من التحكم وإدارة منطقة تاريخية تتبعهم هي عدن بالإضافة إلى سياسات التفرقة بين السلطنات والمشايخ واستثمار الصراعات والحروب البينية) واجتماعيا (الظروف البائسة والتمييزية التي كانت تعم اليمنيين في عدن أو ما جاورها من مناطق قياسا بالظروف المادية للإنجليزي في عدن) اضطرت بريطانيا الى مهاجمة مناطق الداخل بكل ما أوتيت من عدة وعتاد عسكري بعد أن كانت مكتفية بجزء يسير من عدن جعلتها حاضرة حديثة وتركت باقي المحميات تغرق في الظلام والجهل والمرض والتخلف في وضع لا يختلف أبداً عن بقية ألوية الشمال الإمامي من حيث الانغلاق والبؤس والفقر والتجهيل.

لذا فإن واحدية الظروف العامة في مجمل مناطق اليمن بشماله وجنوبه خلقت واحدية الثورة. وسارع أبطال التحرر من الاستعمار إلى القتال من أجل التحرر من الإمامة وبعد أقل من شهور على قيام ثورة سبتمبر انتظم مؤتمر في صنعاء يضم ممثلين من أرجاء اليمن بينهم من صار زعيما سياسيا في دولة الجنوب المستقلة لاحقاً.

لكن ثورة أكتوبر امتازت بأنها كانت حاملة لمشروع سياسي وأيديولوجي مفارق في جذريته ووضوح مراميه. ولولا هذا الحامل الأيديولوجي لما تمكنت هذه الثورة من إنجاز تحول في البنية السياسية للبلاد ومن ثم في التحولات الاجتماعية. بناء شعب من انقسامات اجتماعية ومناطقية في كانتونات هزلية في بعضها تزيد على العشرين، انقسام اجتماعي وتكديح وتفاوت، ثقافة تقليدية ظلامية واستغلالية.

لست بصدد تقييم لتكل التجربة الأيديولوجية لأني لا أنكر أنها كانت أولا جذرية أكبر مما يحتمله السياق المحلي وقادت إلى عزلة إقليمية ومن ثم إلى دورات عنف. لكنها كانت تحمل مشاريع تحديث كبيرة وتصورا واضحا للعلاقات الاجتماعية وعلاقة الرجل والمرأة. كما انها وضعت مشاريع إنتاجية كبيرة كانت نواة لمجتمع منتج إلا أنها للأسف انقرضت كاملة بسبب سياسة النهب والفساد في مراحل لاحقة خصوصاً مرحلة ما بعد الوحدة.

ربما افرطتُ في تناول إغماط ثورة 14 أكتوبر. لكن يجدر بي أيضا التذكير بحالة التنكر لهذه الثورة في الوقت الراهن. تنكر لفظي واضح يستخف بهذه الثورة ومنجزاتها السياسية والاجتماعية أو تنكر ضمني يحتفي بها وينسف مشروعها من خلال تكريس المناطقية والتمييز بين أبناء اليمن الواحد أو أبناء محافظات الجنوب. بل والذهاب الى الوجهة المضادة لثورة 14 أكتوبر من خلال محاولة إحياء المشروع المناقض لها وهو المشروع البريطاني المتمثل بإقامة دولة الجنوب العربي.

يتنكر لهذه الثورة بعض من أبنائها لأنها ثورة حاملة لمشروع سياسي أكبر من طموحاتهم الضيقة وأنانيتهم وخيالهم المحدود.

ثورة مباركة على كل اليمنيين وعلى أبناء محافظات الجنوب خاصة.

زر الذهاب إلى الأعلى