آراء

العبقرية والحب.. ثنائي الفن وروح الحضارة

عاهد الزبادي يكتب بالترافق مع يوم الأغنية اليمنية: العبقرية والحب.. ثنائي الفن وروح الحضارة


لا شيء أقدر على بعث الأمم وتخليدها كالفن. ولا شيء يفوقه في مقاومة شيخوختها وبث روح الشباب المستدام فيها. إنه ينفخ الروح في جسدها ويبعث الحياة في مادتها، فيكوِّن من هذا الثنائي المنسجم، ثنائي الروح والمادة، ذلك المشروع الإنساني الجميل المُسمى بالحضارة.

إنّ الحضارة، رغم كونها أساسًا للتقدم العلمي وعلّة له؛ إلّا أنها ليست أساسّا وعلّة للفن، كما يعتقد البعض؛ فقد أثبتت التنقيبات الأثرية عن وجود شكل من أشكال الفنون يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث المعروف بإسم "النيوليت"؛

بل إنَّ العديد من الشعوب البدائية لها فنونها الخاصة والمتنوعة دون أن يذكر لها التاريخ أنها شادت حضارة في أي مرحلة من مراحل وجودها وتطورها. صحيح إنّ الحضارة تمنح الفن المادة اللازمة لقيامه وعمله، والبيئة الخصبة لنموه وتطوره، والموضوعات المتنوعة لإلهامه وإبداعاته؛ لكنها لا يمكن أبدًا أن تكون سببًا في وجوده.

إنني أؤمن بأن الفن ،كالدين، موجودٌ أصيل في نفس الإنسان مُنذ وُجدت هذه النفس، وأن ذلك الوجود يكون في البداية على صورة فضول، ثُم ما يلبث أن تضفي عليه التجارب من مادتها لتشكل منّه فنًّا وحضارة. إنَّ الفضول، الذي أخرج الإنسان من الجنة، هو نفسه الذي يجعله يخوض العديد من التجارب في حياته، وفي كل تجربة، يجد نفسه أمام بُعدين، بعد فيزيقي جديد يدركه بحواسه وتجاربه، ويختمر في نفسه وتكوينه، فيدفعه لإنتاج الفن؛ وبعد ميتافيزيقي أصيل يدركه بعقله وتصوراته، ويتجذّر في ضميره وحدسه، فيدفعه للإيمان بالدين.

إنَّ هذين البعدين-الفيزيقي والميتافيزيقي-يعملان معًا على إشباع ذلك الفضول الأصيل في نفس الإنسان ويجعلانه يُنتج الفن، ويؤمن بالدين؛ فالفن محاكاةٌ للطبيعة، والدين تفسيرٌ لها. إلّا أنّ المحاكاة التي تنتج الفن لا تعني أنّ الفنان مُجرد مرآة تعكس الصور المارة بها، دون أن يبتدع شيئًا من ذاته؛ بل إنه يصبغ على تلك الصور من تصوراته وإدراكاته، ويضفي عليها من ذاته وأحاسيسه؛ لينتج منها فنًّا، في النهاية.

وعلى الرغم من أن الفن بالأصل محاكاة للجزئيات المحسوسة في الطبيعة، إلا أنه سرعان ماينتقل منها إلى الكليات الماورائية ليكوّن منها مواضيع وقضايا مجردة، كالحب، والعدالة، والحرية، والضمير، والوجود، والإنسانية، وهي ذات المواضيع المجردة التي يناقشها الدين.

إنني، ومن وجهة نظري طبعًا، اعتقد أنَّ العلاقة بين الفن والحضارة علاقة تتابع، ليس إلّا. إنها علاقة تتابع بين شيئين دون أن يكون الأول سببًا في وجود الثاني بالضرورة، تمامًا كعلاقة الروح بالجسد. صحيح أن جسد الإنسان يُخلق بلا روح في البداية، ثمّ تُنفخ فيه الروح؛ لكن هذا لا يعني أبدًا أن الجسد سببًا في وجود الروح وعلّةً لها، وإلا لكانت الروح تفنى بفناء الجسد. وكما أن العلاقة بين الروح والجسد هي علاقة تتابع لا علاقة معلول بعلته؛ فإن علاقة الفن بالحضارة علاقة تتابع أيضًا.

إن الحضارة تُنتج العلم وتطوّر الفن؛ وبينما يتجه العالِم نحو عالم الجزئيات، يتجه الفنان نحو عالم الكليات، ومن ثم؛ فإن الفنان عبقري، لأنه لم يكشف لنا عن عالم الجزئيات فحسب؛ بل انتقل منه إلى عالم الكليات وحقائقه. والعبقرية هي أعلى صور المعرفة التي تجردت عن الإرادة وعن المصلحة تجردًا تامًا، وهي الصفة الذاتية التي تمكِّن صاحبها من انتاج العمل الفني، لكنها، في نفس الوقت، السبب الرئيس في شقاء الفنان وقلقه في الوجود!!

إن قلق العبقري ناتج عن معرفته، وأكبر أسباب قلقه هو معرفته أنه لا يعرف أسباب قلقه، وفي ذلك يقول البردوني:

يا شعر..ياتاريخ..يافلسفة
من أين يأتي قلق المعرفة؟

وهذا القلق هو السبب وراء شقاء الفنان وتعاسته؛ إذ أن المعرفة الضخمة في عقله تغذي إحساس الفنان المرهف في داخله؛ فينتج الألم عن ذلك، وهذا ماقصده المتنبي بقوله:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأبو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

ولا تقتصر هذه المعاناة على نفس العبقري فقط؛ بل إنها تنعكس على جسده وتترك آثارها عليه؛ فكما يقول نيتشه:" عبقرية المرء تستنزف دمه". وهذا صحيح؛ فالمتتبع لحياة أغلب العباقرة يجد أنهم كانوا ضعيفي البنية، ضئيلي الأحجام، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها ما كان يُقال عن الشاعر العباسي أبي تمام، إنَّ عقله قد برى جسده!!

ومهما حاولنا تصوير معاناة العبقري ووصف حالته؛ فلن يدركها إدراكًا تامًا إلّا أؤلئك الذين يشبهونه. ولا أحد يشبه العبقري إلّا المُحِب؛ فهو يتجرد من مصالحه الشخصية في سبيل الحُب، كما يتجرد منها العبقري في سبيل المعرفة، ويعاني من آلام الحُبّ ما يعانيه العبقري من آلام المعرفة؛ وتنعكس معاناته على جسده، كما تنعكس معاناة العبقري على جسده؛ فلطالما اقترن الحُبّ بضعف الجسد وهزاله، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها قول المتنبي:

مالي أكتم حُبًا قد برى جسدي
وتدَّعي حُبَّ سيف الدولة الأُممُ

وكما يتمسك المُحب بالحُبّ رغم الويلات التي يجنيها منه، يتمسك العبقري بالمعرفة رغم الآلام التي تلحقها به. إنَّه يرى عذاب المعرفة كعذاب الحُبّ تمامًا..ذلك العذاب الذي قالت عنه أُمّ كلثوم في إحدى أغانيها:" أمرّ عذاب وأحلى عذاب!".والذي قال عنه ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة:" ...مقامٌ مستلذ، وعلّة مشتهاة لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة!". لكن ما الحُبّ لو لم يُخبرنا الفن؟ وما الفن لو لم يبعثه الحُب؟!

إنَّ الفن يقُّصٌ علينا حكايا المُحبين ولوعتهم وسهادهم ومعاناتهم وأشواقهم وأشجانهم وكل خبايا نفوسهم ، وفي ذلك يقول إبن حزم في نفس الكتاب: " إنَّ أول ما يستخدمه أهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحبتهم التعريض بالقول، وإما بانشاد شعر أو بإرسال مثل، أو تعمية بيت أو طرح لغز أو تسليط كلام".

ولكم كان الحُبُّ سببًا في انتاج وخلود الكثير من الأعمال الفنية على مر العصور. تلك الأعمال التي استطاعت التعبير عما يختلج اليوم في النفس البشرية بوضوح، ووصفت مشاعرها بدقة؛ فأنارت طريقها، وقوَّمت سلوكها، وارتقت بذائقتها، ووهبتها بذور الحضارة ..الحضارة التي قد تقوم حيث يوُجد الحُب، لكنها لايمكن أبدًا أن تقوم حيث تُوجد الكراهية.

فالحُبُّ للفن كالفنِّ للحضارة، وكل منهما روح؛ فإذا كان الفنُّ روح الحضارة؛ فإنَّ الحُبُّ روح الفن، ولو كان الأمر لي لقلت عن الحُبّ أنًّه رُوح الروح!
ألا إنَّما الحُبَّ للفنّ كالنبض للقلب. ألا وما قلوب المُحبين إلّا سماء تتكاثف فيها سُحبُ الجمال وتتآلف حتى إذا ما وجدت في الطبيعة بذورًا للمحبة، هطلت عليها فنًا كما تهطل دموع الفرحة من عيني الغريب الذي يرى من يفهمه لأوَّل مرة.

فالفنُّ غيثٌ يتنزل على قلوب البشر جميعها، فأمَّا القلوب التي تحتضن بذور الحُبِّ في أحشائها، تهتز وتخفق؛ فتنمو بذورها وتزهر، وأمَّا القلوب الصماء؛ فإنَّ الفنَّ يمُرُّ بها مرور الموسيقى في أُذُنِ الأصم، والضوء في عيني الأعمي، حتَّى إذا ما نفخ الله ضياء الحُب في صميم تلك القلوب، تفجرت منها عيون الجمال، ومادة الفن.

الفن الذي يتنفس برئتي العبقرية والحب؛ فقد تنتج العبقرية فنًّا دون الحاجة إلى حُبّ، وقد ينتج الحُبّ فنًا دون الحاجة إلى عبقرية، لكن الفنَّ لايكتمل جماله، ولا يتم كماله إلّا بامتزاجهما معًا؛ فإذا وهبت العبقريةُ الفنَّ فكرة، وهبها الحُبُّ حرارة وحيوية.

وكما أنَّ الفنان عبقري؛ فإن المُحبّ فنان، ومن ثمَّ؛ فإن الفنَّ هو عبقرية الحُبّ، وحُبّ العبقرية؛ ووظيفته تحسين المعرفة ، وترقيق العاطفة؛ وهدفه تعزيز إنسانية الإنسان.

بيد إنّ ما يميز الإنسان ويحدد إنسانيته هو انسياقه وراء عقله وعواطفه، بعكس الحيوانات التي لا تنساق إلا لغرائزها البيولوجية فقط. ولما كان الفنّ ناتجًا عن عقل الفنان وعاطفته- أي عن الجانب الإنساني فيه -فإنّ هدف الفن، بالضرورة، تعزيز هذا الجانب الإنساني، إذ أنّ الفن نتاج العبقرية والحُب، والعبقرية هي أعلى صور العقل، بينما الحُب أعلى صور العاطفة.

وبينما ينتقل العبقري من إدراك الكليات إلى جمال الجزئيات، فإنَّ المحب ينتقل من لذة الجزئيات إلى جمال الكليات، وبذلك، يكون الجمال إدراك العبقري، ولذة المُحب؛ وبهذا يمنحنا العبقري إدراك الجمال، وجمال الإدراك؛ في حين يمنحنا المُحب لذّة الجمال، وجمال اللذة؛ ومن ثم؛ فإن الفن هو إدراك اللذة، ولذة الإدراك؛ وهو، بهذا، يوقظ في نفوسنا معرفة الجمال والإحساس به؛ وهو لهذا كله، يعزّز إنسانية الإنسان.

لكن، ما الإنسان إلّا هوية، وما هي إنسانيته إلّا بقدر محافظته عليها؟! إنّه بدون تلك القيم والأخلاق والمعتقدات والأعراف مجرد حيوان يعيش لأجل غرائزه وشهواته. فالإنسان، كما يُقال، اجتماعي بالطبع، وأساس ذلك الاجتماع هو الهوية التي جمعته بغيره من ابناء جنسه في مجموع بشري، وكوّنت من ذلك المجموع شعب، وأمة، وحضارة، بشكل متوال ومتدرج، ذلك لأنّ الهوية تجعل الأمم تمشي بخطٍ ثابته باتجاه أهدافها، وإذا ماتعثرت؛ فإنَّ هويتها تستنهضها لمواصلة السير مجددًا، ومن ثم؛ فلا خوف على أمة متمسكة بهويتها مهما داهمتها الأخطار.

أمّا الأمة الخالية من الهوية؛ فهي عبارة عن حيوانات في غابة؛ فلا تجمع اؤلئك الأفراد هوية جامعة؛ بل كنتونات عشائرية أو قطعان طائفية صغيرة تشبه عشائر وطوائف وقطعان الحيوانات في الغابة؛ فيقتل بعضهم بعضًا، وينهب بعضهم بعضًا من أجل شهواتهم ونزواتهم الحيوانية، ومن ثم؛ فإن هذه الأمة تصبح في حكم العدم؛ إذ أنَّها لا تعتبر كيان كلي حي ومؤثر في صفحة الوجود؛ بل عبارة عن مجموعة أشياء في هامشه.

وهذه الأمة سرعان ما تحطمها أقدام الأمم المتسابقة دون أن تشعر بوجودها، أو لعلها تشعر بها، لكن لا كأمة حية ومؤثرة؛ بل كأشياء معرقلة ينبغي إزالتها، أو- في أحسن الأحوال- الاستفادة منها!! فلا يمكن لأي أمة الحفاظ على وجودها الحر إلّا إذا حافظت على وحدتها؛ فكل موجود لكي يحفظ وجوده يجب أن يحفظ وحدته، وهذا بالضبط ماقصده ابن سينا في قوله: " كلّ ما يصح علينا قوله أنّه موجود، فيصح أن يُقال له واحد، حتى أنّ الكثرة قد يُقال لها كثرة واحدة"، وهو يعني بالكثرة الواحدة، كثرة الأعراض لجوهر واحد.

ولا شيء يمكنه حفظ تنوعات أمة من الأمم في وحده واحدة إلا هويتها، ولا شيء يمكنه المحافظة على تلك الهوية كالفن؛ فهو لا يحافظ عليها فقط؛ بل يؤثر في هويات باقي الأمم الأخرى، وأحيانًا قد يذيبها!

إن مالاتفعله القوة والعنف في هوية من الهويات، يفعله الفن بقواه الناعمة اللينة؛ فتجده يغير من طريقة تفكير الناس وامزجتهم وحكمهم وميولاتهم وقناعاتهم؛ بل ويغير حتى في مظاهرهم وملابسهم، وهو رغم هذا، لُغة تواصل وتفاهم وتأثير وتأثر بين الأمم والحضارات؛ فيجنب البشرية الصراع الحضاري وكوارثه، ذلك الصراع الذي تموت بسببه حضارات وتولد أخرى.

وعلى الرغم من كثرة المظاهر الدالة على قرب أجل أي حضارة، إلا أنّ إهمال الفن، وقلة الانتاجات الفنية أبرز دليل على شيخوخة وكهولة أي أمة من الأمم. إنّ الحضارة في شيخوختها وهرمها تنتج الفلسفة والمنطق كما ينتج الشيخ الهرم خلاصة حكمته وتجاربه في الحياة، أما الحضارة الشابة؛ فتنتج شتى أنواع الفنون تعبيرًا عن روح الشباب والحيوية فيها. وحينما تموت الحضارة، يُنتزع الفن من جسدها ؛ فتفنى مادتها كما يفنى الجسد، ويخلد فنها كما تخلد الروح، وهذا ماأدركه عمر ابن الخطاب، ثاني خلفاء الحضارة الإسلامية؛ فقد نقل الأصمعي أنه قال لبعض ولد هرم بن سنان:" أنشدني بعض مدح زهير إياك"،؛ فأنشده، فقال عمر: "إنه كان ليحسن لكم القول"؛ قال:" ونحن والله كنا نحسن له العطاء"
قال عمر:" لقد ذهب مااعطيتموه وبقى مااعطاكم..

اقرأ أيضاً على نشوان نيوز: الفن اليمني ملاذنا الوطني الأخير

وهذه حقيقة؛ فقد انتهت دول وأممم وحضارات عظيمة وبقت فنونها وستبقى...فنيت الحضارة اليونانية وبقت الإلياذة، وماتت الحضارة المصرية وعاشت الأهرامات، وطويت الحضارة اليمنية وظل القنبوس، وأفلت شمس الحضارة الاسلامية وبقت ألف ليلة وليلة...وهكذا يفنى جسد الحضارة ومادتها، ويبقى الفن روحها الخالدة، الشاهدة عليها والباعثة لها من وجدان أبنائها. يقول الشاعر الألماني يوهان غوتيه :
كُل شيءٍ إلى فناء
سوى الفن فإلى البقاء
يبقى تمثال الرخام
وتمضي الدول إلى هباء

زر الذهاب إلى الأعلى