قضايا

القضية الجنوبية وعلاقتها باستقرار اليمن في ذكرى الاستقلال (3+4+5)

القضية الجنوبية وعلاقتها باستقرار اليمن في ذكرى الاستقلال 30 نوفمبر 1967 - الحلقات (3+4+5) - ورقة الدكتور سعيد ياسين نعمان


بسبب التهريج، الذي روجت له، وتمسكت به، قيادة صنعاء يومذاك كإطار عام لعلاقتها بالشريك القادم من الجنوب، تعثر برنامج بناء دولة الشراكة الوطنية، واصطدم بعقبات حقيقية جعلت الفترة الانتقالية تمر دون القيام بأي خطوات جادة لتنفيذ اتفاق الوحدة الخاص باستكمال أسس بناء الدولة..وعوضاً عن ذلك تم العمل على تصفية دولة الجنوب وأجهزتها ومؤسساتها ومنجزاتها وثقافتها، وتكريس نظام دولة الشمال بأجهزته ومؤسساته وثقافته وخيباته.

كانت هذه العملية هي أبرز تجليات الصيغة الإلحاقية التي انقلبت على الوحدة، وعلى بناء دولة الشراكة الوطنية. كان التمسك ببنائها يعني إعادة هيكلة النظام السياسي على أسس مختلفة تتواءم مع الأهداف التي قامت على أساسها الوحدة، وهو أمر لم تكن لتسمح به قيادة صنعاء ومتنفذو النظام السابق للوحدة، والذين ظلت لهم اليد الطولى في تفريغ كل القرارات الوحدوية من مضمونها أو تجميد تنفيذها في أرض الواقع.

رافق كل ذلك القيام بالاغتيالات والتفجيرات ضد قيادات وكوادر دولة الجنوب والحزب الاشتراكي في موجات عنف منظم بدأت باغتيال العقيد ماجد مرشد عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي، بعد اختطافه الى مقر الأمن المركزي وقتله هناك، وصاحبتها حملات تكفير، كان أكثرها تأثيراً تلك التي تتم في المساجد وفي خطب الجمعة، أودت بحياة المئات. في حملات التكفير تم اختلاق وفبركة حوادث وأقاويل لتبرير تلك الحملات.

ويمكننا أن نورد مثالين فقط لتبيان الاختلاق والفبركة:

-في إحدى خطب الجمعة في مسجد حدة ادعى إفتراءً خطيب، مشهور بتحريضه على العنف، فيما اعتبر يومذاك تعدٍ على الذات الإلهية أن رئيس مجلس النواب الدكتور ياسين سعيد نعمان قال "إن الحكم للقاعة (أي لقاعة المجلس) وليس لله"، وكان ذلك ادعاءً لا يستند على أي دليل، ولم يصدر مني مثل ذلك القول الملفق سوى أن عدداً من أعضاء المجلس ناقشوا معي في لقاء خاص مسألة عرض الموضوعات قبل إقرارها من قبل المجلس على "العلماء" ليقولوا رأيهم فيها، وهو ما اعترضت عليه لأنه يتعارض مع وظيفة المجلس التشريعية وحتى لا يضع أحد نفسه فوق إرادة المجلس، وما يخص القضايا الشرعية فهناك لجنة تقنين احكام الشريعة الاسلامية. ويبدو أن هذا الموقف لم يرق للبعض، وكانت الخطبة التي صبت في مجرى الخطة التي قصد بها ملاحقة القادمين من الجنوب، ووضعهم في وضع الاتهام بالالحاد والتي سهلت فيما بعد عملية الاغتيالات وقصف المنازل بالقذائف الصاروخية.

-تقدم أكثر من خمسين عضو من أعضاء المجلس جلهم من أعضاء كتلة المؤتمر الشعبي العام في المجلس بطلب الى رئاسة لعرض ومناقشة مشروع قانون التعليم الذي كان قد أعدته لجان الوحدة، وحاولت إقناعهم بتأجيل الموضوع لمعرفتي بحساسية كثير من قضايا الخلاف والتي ستؤدي الى تعقيدات الوضع العام ما لم يكن هناك اتفاق سياسي بشأنها. لكنهم اصروا على طرح الموضوع على المجلس الذي وافق على العرض والمناقشة بالأغلبية. ثم وجد البعض في ذلك موضوعاً لمواصلة التحريض والتكفير وقُصف مسكني في شارع نواكشوط في صنعاء بقذيفة صاروخية أدت إلى تدمير الطابق الأعلى منه، وبعدها بشهرين تم القاء قنبلة يدوية امام المسكن ادت الى مقتل أحد جنود الحراسة.

ملاحظة:(لم تتوقف التلفيقات عند هذه المحطة القديمة، بل استمرت في ظروف أخرى حينما أخذ البعض يروج لكذبة تافهة وحقيرة أخرى، وبنفس الروح المتهالكة على البغضاء والذم، وهي أن الدكتور ياسين الامين العام الحزب الاشتراكي قال إن دخول الحوثيين صنعاء هي "عملية قيصرية".. صناعة الكذب لتبرير حملات التشويه والتكفير ظلت رائجة في سوق السياسة المشحون بأيديولوجية الكراهية والموت ).

وكانت صنعاء قد شهدت تفجيرات واسعة استهدفت كثير من القياديين القادمين من الجنوب أو المحسوبين على الحزب الاشتراكي.

لقد ولدت هذه الأعمال مزيداً من الاحباط العام، واتسعت معها الثغرات على جدار الوحدة.

في هذه الأجواء طرحت فكرة دمج الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي، وكان واضحاً أن فكرة الدمج كانت هي المحاولة الأخيرة لقتل مشروع بناء دولة الوحدة على أسس ديمقراطية، أي أن المرتكز الأساسي لقيام الوحدة، وهو الديمقراطية، سيتم نسفه بهذه الخطوة التي كادت أن تحدث شرخاً في الحزب الاشتراكي، وأدت إلى جدل واسع انتهى برفض الفكرة من قبل أغلبية اللجنة المركزية والمكتب السياسي، وهو ما يؤكد أن الأزمة التي نشأت بين طرفي الوحدة كانت تدور حول مسألتين جوهريتين:

1-شراكة السلطتين، أم 2-شراكتين الدولتين.

لقد كان رفض الحزب الاشتراكي لعملية الدمج منسجماً مع موقفه الرافض لفكرة شراكة السلطتين على حساب الشراكة الحقيقية المتمثلة في أن يكون الجنوب شريكاً كاملاً بسكانه ومؤسساته وجغرافيته، ولو أنه قبل بالشراكة نيابة عن الجنوب لجاز اتهامه بالتخلي عن الجنوب مثلما حاولت الحملات السياسية والاعلامية يومذاك أن تكرسه في وعي الجنوبيين الذين أخذ الإحباط يتسرب إليهم، مما جعل نشر هذه الروايات على نطاق واسع يؤثر في الوعي على نحو ملموس.

إن موقف الحزب هذا هو أهم معيار في فهم رؤية الحزب للوحدة، ويمكن بواسطته أن نعرف ما إذا كان الحزب قد هرب إلى الوحدة كما يروجون، أو أن الوحدة بالنسبة للحزب كانت مشروعاً استراتيجياً في صلب نضاله الوطني.

لقد تم تقويض هذا المشروع التاريخي، الذي كان حلماً للحركة الوطنية اليمنية، ناضلت من أجله وقدمت التضحيات الجسيمة لتحقيقة، بتوظيف العوامل التالية:

1-إن الارادة السياسية لقيادة نظام صنعاء اتجهت نحو استبدال الوحدة السلمية ومعادلها الموضوعي "الديمقراطية"، ب"وحدة إلحاقية"، حتى لو تطلب الأمر تحقيقها بالدم ( وهو ما تحقق فيما بعد)، جعلها تماطل وتراوغ في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من قوانين وقرارات متعلقة ببناء مؤسسات دولة الوحدة حتى تتمكن من تطبيق خيارها الالحاقي الذي أضمرته منذ اليوم الأول لإعلان الوحدة.

وبتوافق تام مع هذا التوجه عملت على محاصرة شريك الوحدة وإضعافه وكسره باستخدام كل الوسائل بما في ذلك التفجيرات والاغتيالات وحملات التكفير، وغير ذلك من حملات التشهير والتشويه والتحريض بأن القيادة الجنوبية قبضت ثمن الوحدة، وكان رد الذين يقومون بعملية التشهير تلك عند سؤالهم عن نوع الثمن الذي استلمته القيادة الجنوبية هو أنهم حصلوا على الفلل والسيارات، وكأنهم في الجنوب كانوا حفاة عراة ثم جاءوا إلى صنعاء يقاسمونهم الثراء ويطاولونهم في البنيان، بينما لم ينتبه هؤلاء المحرضون الذين انتشروا في كل مكان يحرضون ويشهرون بقيادة الجنوب بأنهم كانوا ينام فوق خازوق ضخم أرادت الوحدة ان تنتزعهم من عليه فإذا بهم قد استمرأوا الخازوق الذي لم يُفْشل الوحدة فقط وإنما دمر معها اليمن.

2- تمت محاصرة قيادة الجنوب في صنعاء بالعامل الأمني، ووضعوها أمام خيارين: إما القبول بالحصار وتجميد نشاطهم السياسي والاداري ومعهما التلاشي التدريجي، أو الرفض والمواجهة مع ما يرتبه ذلك من تسريع لاشعال الحرب التي أعدتها قيادة صنعاء كمشروع لتحقيق خيار وحدة الالحاق.

مثال على الحصار: قامت بعض القبائل في الغولة وخولان بدعوة نائب الرئيس يومذاك ومعه بعض قيادات الجنوب للاحتفاء بهم، فضجت قيادة صنعاء، وكان رد فعلها أن أخذت التفجيرات والاغتيالات تعم منازل القيادات الجنوبية، والبدء بمحاصرتهم في صنعاء وتحذيرهم من مغادرتها بحجة أن الوضع الامني منفلت.

3-تراجع الاحساس بالوحدة كمشروع استراتيجي للوطن، وإعادة صياغتها في الوعي من خلال وقائع الحياة على أنها مجرد مشروع للتغلب والسيطرة. لم يترك هذا المشروع أي خيار سوى رفضه ومقاومته.

4-لم يشرّع للشراكة الوطنية على النحو الذي يجعل التمثيل في هيئات ومؤسسات الدولة المختلفة مُعَبّراً عنه بمعايير أخرى غير معيار السكان، الذي أخذ به قانون الانتخابات، والذي كان يجب أن يكون موضوع اتفاق ارادتين سياسيتين.

بموجب ذلك أخذ تمثيل الجنوب في مؤسسات الدولة يتقلص على نحو بدا وكأنه يُختزل بصورة أصغر من مكانته كطرف ثان في الوحدة.

لقد أدى هذا التراجع المفاجئ في التمثيل في مؤسسات "دولة الوحدة" إلى طرح سؤال حول مستقبل الشراكة التي تمسك بها سكان الجنوب لتأمين حقوقهم السياسية والاقتصادية والحقوقية.

هذه المشكلات التي أسفرت عنها تطبيقات السنوات الانتقالية (1990-1993) يراها البعض سبباً في بلورة " القضية" الجنوبية على هذا النحو الذي بدت معه كمعركة لبناء اليمن على أسس جديدة تضمن استقراره وتطوره. لقد تجلت القضية الجنوبية في معركة البناء تلك في أكثر مضامينها ارتباطاً باستقرار اليمن.

والحقيقة أن الجانب الأكبر من هذه المشكلات كانت قد صنعت على نحو مقصود لتتعاكس مع مضامين الوحدة التي استهدفت في الأساس بناء دولة يكون الجنوب، لا الحزب الاشتراكي، طرفاً معادلاً فيها، وهو ما قاومته، كما أشرنا سابقاً، نخبة الحكم والقوى المتنفذة في الشمال، واتجهت بالبلاد نحو أزمة حادة، بادر الحزب فيها إلى تقديم مقترح الحل المتضمن ثمانية عشر نقطة كانت أساساً للحوار الذي خاضته القوى السياسية لبحث الأزمة والتوصل إلى ما عرف بوثيقة العهد والاتفاق.

 

المرحلة الثالثة:

وهي ما بعد حرب 1994، فقد كشفت الحرب، وما أعقبها من سياسات وممارسات لسلطة ما بعد الحرب أن المشاكل التي واجهتها الوحدة حتى ليلة الحرب لم تكن عشوائية بقدر ما كانت منهجاً مدروساً بعناية، رتّب الوصول بالحياة السياسية إلى مأزق أفضي بها إلى الحرب بهدف شطب الجنوب من معادلة الدولة.

وهو الأمر الذي أكسب الطابع السياسي للأزمة بعداً بنيوياً لم يستطع معه تحالف الحرب الحاكم، بعد ذلك، أن يستوعب أن الانقلاب على الوحدة السلمية بالحرب قد فتح الباب لانهيارات قيمية في الحياة السياسية عموماً من شأنها أن تفرض بعد ذلك معايير مختلفة في الحكم، مما يعني أن استقرار البلاد سيكون ضحية لها.

وكان أول ما أقدمت عليه هذه السلطة هو شطب المواد الدستورية والقانونية التي عبرت في الأساس عن طبيعة نظام الحكم في دولة الوحدة واستبدلتها بمواد أعادت إنتاج نظام ما قبل الوحدة.

وبهذا الصدد يمكننا ملاحظة ما يلي:

1-قامت الوحدة سلمياً وعلى قاعدة الديمقراطية، وتركتها الحرب مكشوفة على ما رتبته خيارات القوة من نتائج كانت كارثية على البلد.

2-الجنوب الذي جرت الحرب على أرضه، أفرغت الحرب منه شحنات الوحدة التي عُبِّئت بها القضية الجنوبية منذ بواكير النضال الوطني من أجل الاستقلال، وجرت محاولات استزراع وحدة القوة والدم، وبث قيمها التي أفرغت القضية الجنوبية من هذه العبوة لتُملأ بعبوات ناسفة للأحلام التي بشر بها المشروع الوطني وبمعطيات تم استدعاؤها من التاريخ السياسي للجنوب بهدف إثبات "الخطأ" الذي وقع فيه هذا المشروع " القومي".

وكان تحويل الجنوب إلى مجرد ملحق من قبل سلطة حرب 94، ونهبه على نطاق واسع وإعادة دمجه في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدولة الجمهورية العربية اليمنية، محط استدلال مادي من قبل البعض لتخطئة هذا المشروع الوطني الذي أخذ مناصروه يُسَفَُّهون ويتهمون بخيانة الجنوب لدرجة أنْ قام بعض المتطرفين والمهرجين في نفس الوقت بالتشكيك في انتمائهم للجنوب، من منطلق أن الوحدة إنما هي مشروع شمالي. لم يفرق هؤلاء بين الوحدة كمشروع وطني ناضل من أجله الوطنيون جنوباً وشمالاً، وبين التجربة التي انتهت إلى حرب أفرزت تلك الكارثة.

3-تعاملت سلطة ما بعد الحرب مع الجنوب كملحق وليس كطرف، وأبقت الحالة الانقسامية في الوعي الاجتماعي والوطني قائمة، فالاسلوب الذي اتبعته مع الجنوب اقتصر على إبقائه حاضراً في المشهد من خلال تعيين جنوبيين في بعض المواقع الرسمية كرست حضوره الشكلي، ولكنه غائب عن الشراكة. وهذه الحالة ظلت تنتج فجوة خطيرة في الوعي إزاء وضع الجنوب في الجمهورية اليمنية.

4-عملت تلك السلطة على الزج بالجنوب في أشلاء الصورة الممزقة للجمهورية اليمنية وذلك بتكريس "إلحاقية" الجنوب في الكيانية العامة لدولة غائبة من خلال التمثيل الشكلي في السلطة وعلى قاعدة سياسية منتقاة، وذلك على النحو الذي يبقيه، كما قلنا، حاضراً في الصورة فقط بدون شراكة حقيقية.

5-تم في سياق تمثيل الجنوب، على هذا النحو الكيفي والشكلي، تشكيل توليفة من مخلفات الصراعات السياسية السابقة، وبالتالي لم يكن معبراً سوى عن حاجة سلطة الحرب ؛ وهو التمثيل الذي كانت صنعاء تريده من الحزب الاشتراكي ورفضه، مما أدى إلى نشوء تلك الأزمة التي لم تنته بالحرب، بل أخذت تتصاعد في صيغ أكثر تعقيداً، وكان من مظاهرها استبدال شراكة الجنوب بشراكة نخب سياسية واجتماعية جنوبية، وهو ما قدم الدليل على أن الأزمة التي سبقت حرب 1994 تتلخص في رفض قادة صنعاء على إقامة نظام شراكة حقيقي يكون فيه الجنوب طرفاً مكافئاً في بنية دولة الجمهورية اليمنية.

6-إن الشمال نفسه لم يكن شريكاً على النحو الذي يجري فيه الحديث عن شراكة الجنوب المخطوفة، فشراكته هو أيضاً قد خطفتها نخب سياسية وعسكرية وقبلية متنفذة، وهو ما عبر عنه الحزب الاشتراكي في إصراره على أن بناء دولة الوحدة هي طريق الشعب اليمني بأكمله للخلاص من الاستبداد والتخلف.

لكن نظام الجمهورية العربية اليمنية أصر بواسطة الحرب على الحافظ على كيانيته، ورفض التنازل عن جزء منها لدولة الوحدة، وبدا كما لو أنه هو دولة الوحدة التي اكتفت بالتوسع في الأرض، ولذلك فقد حرم الجنوب والشمال معاً من هذا المكسب التاريخي. وبينما عاقبت سلطة ما بعد الحرب الجنوب كله، فإنها واصلت اضطهادها وملاحقتها لأعضاء ومناضلي الحزب الاشتراكي اليمني المنتمين الى الشمال. ومنذ ذلك التاريخ تعرض الآلاف من هؤلاء المناضلين للتسريح من الخدمة والمطاردة والتصفية وحرم الآلاف من رواتبهم ومعاشاتهم في أسوأ عقاب يتعرض له الانسان.

لا بد من الاعتراف هنا بأن قيادة الحزب فرطت في المكاسب التي حصل عليها كثير من مناضلي الحزب في الشمال بقيام الوحدة. لقد تم، وعلى نحو مفاجئ وغير مبرر اتفاق بين الرئيس ونائبه على شطب آلاف الاسماء ممن تم ترتيب أوضاعهم في المؤسسات الحكومية الامنية والعسكرية وغيرها قبل الوحدة، وهو الأمر الذي أدى إلى تداعيات ألحقت أضراراً جسيمة بمشروع الوحدة.. كان ذلك أسوأ قرار يتخذ بحق أولئك المناضلين الذين قضوا حياتهم في خنادق الدفاع عن الثورة ومقاومة الاستبداد السياسي والظلم، بعضهم لا يزال يلاحق وراء راتبه حتى اليوم، وبعضهم غادر الحياة وفي نفسه غصة من " الوحدة".

7-إن الاجراءات التعسفية التي اتخذت بعد الحرب أدت إلى انتكاسة في الوعي الوحدوي في مجتمع كانت "الوحدة" رأسماله الحقيقي، فقد تم تسريح ما يقرب من أكثر من مائتين ألف انسان، من وظائفهم، وخصخصت مصانعهم ومؤسساتهم في أسوأ عملية عقاب جماعي، ناهيك عمن استبيحت مزارعهم وتعاونياتهم وممتلكاتهم ووجدوا انفسهم مهددين في حياتهم بلا وظائف ولا عمل ولا مستقبل.

8-لم تكن السلطة الجديدة سوى عقوبات وتصفيات وتسريح من العمل، ونهب أراضي وممتلكات، وفساد، وخطاب سياسي دوري يذكر الجنوبيين بالهزيمة. تمت تصفية وتفكيك المصانع والمعامل، والمتاجرة بأراضيها ونهب مكائنها، وتم خصخصة المؤسسات العامة وتسريح عمالها، وجسد ذلك السلوك تلك السياسة التي لم تكن ترى الجنوب غير أرض وجغرافيا بلا سكان وبلا تاريخ، وهي السياسة التي دفعت بالقضية إلى مسارات مختلفة، وانعشت وعي الناس بحقيقة أن الوحدة التي حلموا بها قد انقلبت عليهم، وأقامت حاجزاً بين أحلامهم والواقع الذي رمتهم فيه الحرب، ثم دفع اليمن كله ثمنها في نهاية المطاف.

9- تم تصفية المكاسب الاجتماعية للناس في صورة مساكن وتعاونيات ومزارع دولة وأطلقت أيدي العابثين لتصفية خصومتهم مع هذه المكاسب وغيرها من الحقوق الاجتماعية المكتسبة بموجب القانون كحقوق المرأة بإلغاء قانون الأسرة وما حصلت عليه من مكاسب، حيث تم قمع الثقافة السياسية والاجتماعية التي كانت قد تشكلت بمضامين قيم الدولة الحديثة، ومنها المواطنة، وحق العمل، واحترام حقوق المرأة. وهنا تجسد موضوع الإلحاق، الذي كان الهاجس الأكبر لمتنفذي صنعاء وهم يقاومون بناء دولة الوحدة، في أكثر تجلياته وضوحاً.

10-أدت هذه السياسة إلى تعقيد الوضع في الجنوب لدرجة لم يعد معها ممكناً تسويق ذلك المفهوم القسري والمشوش للوحدة، وأخذت القضية الجنوبية تتبلور في وعي المجتمع بمفاهيم سياسية مشتقة من وثيقة العهد والاتفاق التي كانت قد ركزت على "إصلاح مسار الوحدة"، وهي الوثيقة التي تنصلت منها سلطة ما بعد الحرب، وأطلقت عليها وثيقة الخيانة.

لم يكن إعادة رفع شعار " إصلاح مسار الوحدة " بعد الوحدة سوى محاولة للتمسك بوثيقة العهد والانفاق، والعمل بمضامينها التي هدفت إلى معالجة الأزمة وتجنب الحرب، لكن، أمَا وقد شبت الحرب وانتصر فيها الرافضون لاصلاح مسار الوحدة، كما ورد في الوثيقة، فكيف سيستجيبون الآن وقد "عمدوا الوحدة بالدم"، على حد قولهم، بعد أن رفضوها باعلان الحرب.

11-لقد ظلت هذه السلطة ترفض كل المبادرات التي أطلقت من قبل الحزب الاشتراكي وبعض القوى السياسية الأخرى لتصفية آثار الحرب، والتوقف عن الإلحاق القسري للجنوب بأدوات الحرب والقوة، وتصفية شخصية الجنوب التاريخية التي تم التحذير من أنه فيما لو تم الاصرار على الاستمرار فيها فإنها ستشكل انتكاسة لن تتوقف بالبلاد عند حدود الأزمة القديمة التي انتهت بالحرب، ولكنها ستمتد إلى ما هو أبعد من ذلك.. وهذا ما يحدث اليوم.

12-أدى هذا الوضع إلى تململ اجتماعي في الجنوب، لم تتوفر له في المرحلة الأولى شروط التحول إلى الفعل السياسي. كانت حقوق الناس المنهوبة، مع ما رافق ذلك من فساد وعبث، تحاول أن تعبر عن نفسها داخل مساحات التململ الاجتماعي الذي راح ينضج ويطرح أسئلة تتعلق بمستقبلهم في ظل هذه "الوحدة" التي أخذت سلطتها تقصيهم وتهمشهم يوماً عن يوم، وتكتفي بتمثيل رمزي كيفي من الجنوبيين يكون أكثر بروزاً في الصورة التلفزيونية منه في الواقع.

يتبع..

الحلقتان الأولى والثانية على نشوان نيوز من خلال الرابط: القضية الجنوبية وعلاقتها باستقرار اليمن في ذكرى الاستقلال (1+2)

زر الذهاب إلى الأعلى