[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

عن البخاري

مروان الغفوري يكتب عن البخاري


تكمن أهمية "صحيح البخاري" في النصوص التي لم يروها أكثر مما هي فيما رواه. دراستي لتاريخ الحضارة الإسلامية أوصلتني إلى احترام عميق لتلك الشخصية النادرة (محمد بن إسماعيل البخاري، ت. 256 هجرية).

اشتغل نصف قرن على النص النبوي (الحديث)، ووجد أن ما جمعه قد تجاوز النصف مليون حديث (حوالي 600 ألف). كان بمقدور هذه البحيرة من النصوص، فيما لو تركت سائبة، أن تخلق عشرات النسخ من الإسلام، كل نسخة تملك ادعاءها الخاص ورؤيتها الخاصة للعالم، باعتبار الدين في نهاية الأمر رؤية للعالم Weltanschauung.

بموازاة اشتغاله على المتون قام البخاري بدراسة الرواة (رجال الحديث)، تتبعهم إلى سنواتهم الأولى (وهم لا يزالون مرداناً)، كما هي تقنيات مدرسة الحديث بشكل عام.

ثم استقر به بحثه العلمي الصارم إلى اختزال كل تلك البحيرة في: حوالي 7400 حديث، وزهاء 1500 من الرجال.

بهذا استطاع أن يسيطر على رجال روايته، تتبعهم، سافر إلى الحواضر الكبيرة، التقاهم أو التقى شيوخهم وتلامذتهم، ثم استقر في ضميره أن يقف عند حدود ال 1500 رجل/امرأة شملهم في كتابه "التاريخ الكبير". أما النصوص التي اعتمدها فبلغت زهاء 7400 نص بين دفتي كتاب الجامع الصحيح. إصرار الرجل على تجاهل أمجاد بني هاشم ودعاويهم، مثل خرافة حصار شعب أبي طالب وسواها من الخرافات، لم يكن عملاً يسيراً، كان سباحة ضد التيّار.

تفوق البخاري في صرامته العلمية على كل مجايليه، رفض أن ينقل عن أي شخص لم يسمع مباشرة ممّن روى عنه (اشترط مسلم المجايلة بدلاً عن الاتصال المباشر بين الراوي والمروي عنه)، وامتلك شجاعة استثنائية في تجاهل أخبار نقلها العشرات سواه، محدثين وكتّاب سير. تكاد لا تجد سوى أثر ضئيل لروايات أئمة آل البيت، ما يؤكد ما قلناه مراراً من أن السلالة لم تشتغل في الفقه والآداب بل في السياسة، وأنها وقعت ضحية سوء فهمها للإسلام.

صار البخاري، بسبب صرامته العلمية المتينة، إلى شخصية مبغضة لدى بهاليل آل البيت في كل زمان ومكان. آخر البهاليل وصولاً هم النسخة الحسينية من اليسار الماركسي على النحو الذي رأيناه في العراق ولبنان وسوريا.

ذلك أن البخاري تجاهل كل الخرافات المركزية لآل البيت، بما فيها القصص المؤسسة للحق الإلهي: نوم علي في فراش النبي، حصار بني هاشم في شعب أبي طالب، مقتل عمرو بن عبد ود، رفع علي لحصن خيبر، يا علي لا يبغضك إلا منافق، حديث الكساء، إلى آخر أكاذيب آل البيت التي بلغت الآفاق حتى صارت جزء أصيلاً من بنية الدين ومتنه.

على سبيل المثال: قلّب البخاري كل ما روي عن علي، وانتهى به الأمر إلى اختيار 29 حديثاً وحسب، جزء كبير منها حول هوامش الحياة.

جريدة علمية صارمة كان صحيح البخاري، وبحسب تسهيلات ووسائل ذلك الزمان فما أنجزه كان معجزاً بحق، وما استطاع سائر المحدثين منازعته سوى في حوالي مائة حديث، أو تزيد قليلاً، وأغلبه نزاع حول الإسناد.

وهو بحاجة الآن إلى إعادة فحص على مستوى معقولية المتن (على مستوى الدراية)، فهناك نسبة قد تصل إلى 10% من النصوص تخلق مشاكل وإشكالات، وهذا موضوع آخر.

أما الأكثر إعجازا وإبداعاً في عمل البخاري فهو قدرته على الرفض، أن يقول لا، أن يضع قصصاً شهيرة في مرتبة المهمل(مثل تلك المتعلقة بإنجازات السلالة الهاشمية وامتيازاتها ذات الطبيعة السياسية) رغم حضور تلك القصص عند مجايليه من المحدثين وكتاب السير.

من المثير بحق أن تصير المتانة العلمية للبخاري إلى أضحوكة، وتغدو رحلة الحسين لاسترداد حقه الإلهي (السلطة الموعودة من الله) إلى ثورة إنسانية عظيمة عند نفس الفئة من المثقفين.

لم يجد البخاري في كل حياة الحسين من علوم تستحق أن تروى سوى تسعة أحاديث بعضها مكرّر. استطاعت السلالة أن تخترق التاريخ والمجتمعات والمشاعر على مرّ الأيام، ولولا أن القرآن أهمل أخبارها كليّاً، ثم جاء كتاب البخاري "العلمي" وتجاهل أكثر من 90% من مجد السلالة المزعوم، لولا هذان الإهمالان لوجدنا أنفسنا أمام تحديات أخلاقية عويصة.

إذ إن تاريخ السلالة الهاشمية، قصصها ومناقبها وحروبها، يصادم على نحو عميق فهمنا للإسلام بوصفه نظاماً للحرية والعدالة والتحرير، نظاماً يمنح الشرف والامتياز على أساس أخلاقي ومعرفي عادل. السلالية نسخة مشوهة من الإسلام تتجاوز في ضلالها ولاعدالتها نظام "الشرك" الذي جاء النبي محمد لتغييره وتبديله.

تنبه البخاري، مع قليلين، إلى خطورة دعاوى المجد والقربى التي ترددها السلالة عن نفسها وأبطالها، مانحة ذواتها كرامات وأفضليات لا تعللها سوى البيولوجيا والعرق، ما يجعلها تصادم النظام المرجعي العام، الأخلاقي والقيمي، الذي حدده القرآن. صحيح أن البخاري، سعياً وراء العرف السائد آنذاك، قد أفرد صفحات للحديث عن مناقب بعض رجال آل البيت، وسواهم. ولكنها مناقب لا تمس المتن، خالية من القصص الكبيرة التأسيسية التي تتخذها السلالة ذريعة لشن الحروب على المجتمعات بغية إخضاعها والسيطرة عليها سياسيّاً ومعرفيّاً ووجدانيّاً ..

اقرأ أيضاً على نشوان نيوز: محدثات الإمامة وأصل الحكاية

زر الذهاب إلى الأعلى