عن ثورة الحسين: أريد حقّي!
مروان الغفوري يكتب عن ثورة الحسين: أريد حقّي!
كان لعلي بن أبي طالب 14 ابناً ذكراً و17 ابنة. زوّج كل بناته، عدا ثلاث منهن، لأبناء أخيه عقيل وعمّه العبّاس. كان يرى، كما تشير علامات تاريخية كثيرة، قداسة خاصة في نساء بني هاشم، ولا بد من إبقاء تلك الجِينة داخل الدائرة المُختارة والنأي بها عن دنس الإنسان العادي. من أبنائه الأربعة عشرة برز الحسن والحُسين، وهما ابنا فاطمة، وتراجع الآخرون من أولاد النساء الأخريات إلى الظل. رافق الرجلان أباهما في معاركه التي خاضها في سبيل التاج، وبعد مقتله اتبعا سبيله. نصّب الحسن نفسه خليفة ودعا للنفير العام ضد الجيش الجرّار القادم من الشام. وحين أدرك حقيقة أن دعاته ومناصريه لم يجمعوا له أكثر من ستة آلاف مقاتل استسلم لحاكم الشام، وسلّم ما في يديه من البلدات وعاد إلى المدينة. بينما هو يقترب من التوقيع على وثيقة الاستسلام نهره شقيقه الحُسين، وكان أقل منه إدراكاً للمخاطر، فرد عليه الحسن غاضباً: والله لقد هممتُ أن أسجنك في بيت وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك [1] .
الشأن الذي كان الحسن يريد أن يفرغ منه سريعاً هو توقيع وثيقة الاستسلام، إذ كان جيش معاوية قد عسكر بالقرب من الكوفة، عاصمة الطالبيين، وكان يُسمع له هدير في حاضرة علي. لم يحتمل المؤرخون تلك الحقيقة فعملوا على منح الإمام المهزوم، الحسن، لباس الحكمة والنبالة كونه حقن دماء المسلمين بقراره ذاك، وقيل اتخذ طريقاً كان بمقدوره أن يذهب في سواه. لنستمع إلى الحسن وهو يعترف لمستشاريه وأهل بيته عن السبب الذي دفعه إلى الاستسلام: ليس لديه ما يكفي من الرجال ليخوض الحرب. وحين عابه رجال الكوفة، وثمة روايات تقول إنهم اعتدوا عليه بالضرب وطعنوه، كان يرد عليهم قائلاً إنه إنما فعل ذلك – أي استسلم لمعاوية - لأنه لم يجد في الكوفة رجالاً [2].
لا مكان للحكمة في هذا السياق، وبدلاً عنها تتأهل الحقيقة لتكون في الواجهة. استسلم الحسن ليس وحسب لأن الناس خذلوه كما فعلوا مع والده، بل لأنه نفسه وقع ضحية لأوهامه، ظانّاً أن الناس ترى له القداسة التي يراها هو لذاته. تلك كانت معضلة أبيه الذي احتفظ له التاريخ بعشرات من الخطابات والمكاتبات يذم فيها شعبه ويكيل له السباب، غارقاً في دهشته من مواطنيه الذين يتلكأون في النضال من أجل زوج فاطمة. استطاع ابن أبي الحديد، المؤرخ المعتزلي المرموق، في شرحه لنهج البلاغة أن يقرّب الصورة على نحو مثير. أعني علاقة علي بشعبه، الشك والقطيعة بين الحاكم والمحكوم. أو ما ستسميه سهير القلماوي في بحثها حول أدب الخوارج بأول عصيان مدني نفذته الجماهير العربية ضد الحاكم.
بعد عودة الرجلين، الحسن والحسين، إلى المدينة اتخذا قراراً بإصلاح العلاقة مع معاوية. ذكر البلاذري في أنساب الأشراف والعاملي في وسائل الشيعة أن معاوية كان يعطي الحُسين ألف ألف درهم في العام، أي مليون درهم. فضلاً عن عروض وهدايا من كل ضرب، بتعبير البلاذري. يندرج تحت "من كل ضرب" الجواري والجاه والتسامح. لم يتخل الحُسين عن حلمه بالرئاسة، حتى إن مؤرخاً كبيراً كابن كثير يضع عنواناً لخروج الحُسين من مكة إلى الكوفة على هذا النحو: قصة الحسين بن علي بن أبي طالب وخروجه في طلب الإمارة.
ابن كثير، كما هم سائر المؤرخين، شديدو التشيّع لآل علي بن أبي طالب، ولم يكونوا يرون مشكلة في ادعاء آل البيت للحق المطلق في حكم الناس، وطلبهم للإمارة. صادق الحُسين حاكمَه معاوية، واعتاد على عطاياه وهداياه عشرين عاماً بين 40-60 ه. في الفترة تلك عاش الحُسين متنقلا بين مكة والمدينة، وكان يفد مع أخيه الحسن على معاوية إلى الشام ويجري بينهما سجال حميد، كمثل ما سيذكره ابن كثير في البداية والنهاية. ففي واحدة من المرّات وهبهما معاوية مائة ألف درهم وغمزهما قائلاً "خذاها مني وأنا ابن هند". فيرد عليه الحُسين قائلاً "والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك رجلاً أفضل منّا"[3].
أفضل رجال العالم، كما يعتقد الحسين عن نفسه، غادر المدينة إلى مكة سنة ستين للهجرة ما إن وصله خبر موت معاوية. من هناك قصد العراق لاسترداد حقّه في المُلك. أرسل أوّل الأمر مسلم بن عقيل، ابن عمّه، لاستطلاع رأي الناس ودعوتهم إلى البيعة. لنستمع إلى ابن كثير في البداية والنهاية وهو ينقل لنا مشهد وصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة:
"فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين وحلفوا له لينصرنّه بأنفسهم وأموالهم". لم يشك ابن كثير لحظة واحدة في أن الأمر متعلق برغبة شديدة في الإمارة، أو ما يسميه الحُسين بالحق. نجحت مهمّة ابن عقيل أول الأمر وانتهى به الحال إلى صدام عسكري دموي مع ابن زياد، حاكم الكوفة. وحين أُتي به أسيراً سأله ابن زياد "كأنك تظنّ أن لكم في الأمر شيئا؟" فيرد عليه مسلم بن عقيل: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين [4].
نحواً من هذا النقاش سيجري في الوقت نفسه في مكان بعيد عن الكوفة، في مكّة. فبعد مغادرة الحسين لمكّة يعاتب عبدُ الله بن الزبير ابنَ عبّاس قائلاً: والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم، ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس. فيرد عليه ابن عبّاس: "إنما يرى من كان منه في شك، ونحن من ذلك على يقين. أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر؟" يأتيه رد ابن الزبير: بشرفي. يسأله ابن عبّاس، مستغرباً: بماذا شرفت؟ إن كان لك شرف فإنما هو بنا، ونحن أشرف منك [5].
وبما أننا قد أتينا على ذكر ابن الزبير، الذي سيقود ثورة انتحارية هو الآخر، فإننا نجد في خطابه السياسي لغة أخرى أقل حتميّة، وذات طبيعة قانونية مقارنة بلغة الحسين. فهو يخاطب جماعته مشيراً إلى بني سفيان بحسبانهم "من في عنقهم حقوق الناس". كان يحيل ثورته إلى الحقوق وإلى الناس، إلى ما هو عادل وبشري، الأمر الذي جعل جيشه يتعاظم حتى استطاع حسم المعركة مع الأمويين في أراضي الحجاز حتى حدود العراق. بقي ابن الزبير مهيمناً على كل تلك الجغرافيا لما يداني عقد من الزمن، أي ضعفي فترة عليّ في الحكم. لم يحط نفسه بمناقب ومروّيات، لم يجند كتائب الوضاعين، ولم يقارن أمّه بأمهات الآخرين. تحدث إلى الناس عن ما يحتاجونه وما يقلقهم، ثم قُتل في آخر الأمر على نحو مأساوي، ولم يترك خلف ظهره من عتبة مقدسة ينوح عندها الناس.
يقف الحسين في موضع بعيد كلّياً عن تلك المسألة، أعني حقوق الناس، ولا ترد عنده إلا مغمورة بالحديث عن حقّه، وعن استثنائيته هو وأسرته. إذ يقف أمام طلائع جيش ابن زياد، ويخاطبهم "إن هؤلاء قوماً لزموا طاعة الشيطان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأنا أحق من غيري، وقد أتتني كتبكم، فإن تتموا عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم" [6]. لا يوجد في الخطاب السياسي للحسين ما يدل على أن الرجل يرى الحكم ملكاً لكل الناس، أو أنه مساو للبشر، يتشارك معهم الدرجة نفسها من الحق والواجب. ثمة مهمتان لا ثالث لهما، كما تدلّنا خطاباته الثورية: مهمّته في أن يصير حاكماً، ومهمّة العامة في أن يجعلوا ذلك الأمر ممكنا. ففي خطابه إلى أهل الكوفة غداة وصلته أولى رسائل الاستطلاع من ابن عمه يقول:
"أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم نصرنا والطلب بحقنا، فأثابكم الله على ذلك أعظم الأجر"[7] .
وفي العراق سيقف الحسينُ وجهاً لوجه أمام الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان، وسينهره الحسين: "يا ظالماً لنفسه، عاصياً لربه، تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقي ما جهلته أنت وعمّك". دائماً ما يقرن الحسين بين رضا الله عن الناس ورضاه هو عنهم، وأن الأمرين شأن واحد.
كان الحسين، في كل خطابه السياسي المكتوب والملفوظ، متوثقاً من أمرين اثنين: حقه المطلق في حكم الناس، وجنة الخلود لمن يساند ذلك الاختيار من عوام الناس. وحين يجبـِر جنودُ ابن زياد عبد الله بن يقطر، أخ الحسين من الرضاعة، ليذم الأخير أمام الناس فإنه يقول لهم:
"إني رسول ابن بنت رسول الله إليكم لتنصروه على ابن سمية وابن مرجانة".
كان الحسن، الأخ الأكبر، قد لجأ إلى الخطاب نفسه محاولاً حشد الناس لمواجهة معاوية في العام 40 ه، أعني التحشيد باستخدام دالّة ابن فاطمة وابن مرجانة. ومرجانة في وعي أبناء علي لم تكن أماً لأحدٍ بعينه، بل هي كل أمّ يدّعي أبناؤها أن لهم حقّاً وشرفاً لا يقل عن حق أبناء علي[8] .
مضى الحسين في طريقه، وكلما التقى رجلاً أو معشراً قال لهم إنه ماض إلى استرداد حقّه، والحق هُنا تقدير إلهي كما يرى. وما إن يتوغل في أرض العراق حتى تصله خيل الحر بن يزيد التميمي، من رجال يزيد، وتكون مهمته مراقبة موكب الحسين عن كثب. ينتهز الحسين فرصة اقتراب الجنود منه فيبلغهم سببَ مجيئه ودعوته للثورة "إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن ذلك أرضى لله، وإن أنتم جهلتم حقنا انصرفتُ عنكم" [9].
كان يعي ما يقوله حين ينسب السياسة إلى العترة قائلاً "حقنا" هكذا بالجمع كي يصبح حقّاً مفتوحاً على مرّ الأزمان لا يسقط بموت قدامى الأئمة، آباء العترة المؤسسين. دائماً هُناك حق، أي سُلطة، ودائماً ما يكون هناك "نا" أي عترة. وارتباط العترة بالسلطة هو "ما يرضي الله"، بحسب كلمات الحسين.
ثمّة أمر خطير يتجاهله المؤرخون، وهو رحلة مسلم بن عقيل من مكة إلى العراق. تذكر مصادر عديدة أن ابن عقيل ومن معه اتخذوا دليلين عارفين بالصحراء، غير أن ذينك الدليلين فقدا حياتيهما واحداً تلو الآخر من العطش. وهنا نسأل: كيف يموت رجلان متمرسان على الصحراء والعطش وينجو ابن عقيل بن أبي طالب ومن معه، وهم من سكّان الحواضر؟ أغلب الظن أن ابن عقيل احتفظ بما لديه من الماء ومنعه عن الدليلين، وتركهما يموتان أمام عينيه. وربما تشاجروا على القليل من الماء وانتهى الأمر بالدليلين صرعى بيد سيوف آل البيت، وهذا مجرد حدس تاريخي استرجاعي. مثل تلك القضايا، على أهميتها البالغة وما تحمله من إشارات ثرية، يتجاوزها المؤرخون.
لا يوجد في سيرة الحسين ما يشير إلى أنه كان يفهم حقوق الناس، أو يدرك شيئاً عن رغبتهم في الحرية والكرامة، وهي المعاني الأساسية لأي ثورة بصرف النظر عن زمنها ومكانها. إن خياله السياسي يصدر عن عجزه في فهم الإسلام، فهو يخلط بين النبوة والسلطة على نحو مدمر، ولا يظنّ وحسب أن النبوة تصيرُ إلى سُلطة تجري في الأبناء، بل يذهب أبعد من ذلك. فالنبوة نفسها غير منتهية، وقد وصلته بطريقة ما. وتلك ظاهرة تكاد تكون تاريخية، فالفلاسفة والمصلحون يعترفون بأنّ أهاليهم لم يبذلوا جهداً لفهم ما أرادوا قوله.
يمكن لأي باحث في التاريخ أن يرى كيف يتقمص الحسين دور النبي، يمنح الغفران للأفراد والجماعات، يعد الناس بالجنة أو النار، ويبدو حاسماً وقاطعاً في كل أمر يراه. كان آخر ما سمعه مثقفو المدينة ومكة منه، أعني المحدثين والفقهاء، قوله إنه ماض إلى العراق لإنفاذ أمر تلقّاه من الله. تلك اللغة لا تصدر عادة إلا عن نبي مرسل، أو رجلٍ تلبّسه وهمُ النبوّة [10]، وهو ما نظنه.
***
مصادر المقالة:
1- ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الثامن، ص161
2- يراجع: مناقب الأشراف للبلاذري، البداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ دمشق لابن عساكر.
3- ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الثامن. صفحة 161
4- أحمد بن أعثم الكوفي، كتاب الفتوح، الجزء الخامس، ص: 56.
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، الجزء 20، ص:134
6- ابن جرير الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الرابع، ص: 304. وهو عند البلاذري في أنساب الأشراف، الفتوح لابن أعثم، الكامل لابن الأثير، وسواهم. من المناسب أن نشير إلى أن ثيمة "الحق" والتي ستعني حقّ آل البيت الحصري في تولّي أمور الناس برز في لغة الحُسين وخطابه بعد موت معاوية، وحين قرّر الحُسين الهجرة إلى العراق.
7- يراجع: بحار الأنوار للمجلسي، الجزء 44. وتاريخ الطبري، الجزء الرابع.
8- تراث آل البيت عامرٌ بمرويات ونصوص تعايُر الخصوم بأمّهاتهم، وتبدو ثيمة مركزيّة في خطاب آل البيت، بما في ذلك آثارهم الشعرية
9- الشيخ المفيد، الإرشاد، الجزء 2، ص: 79. كما هو عند ابن الأثير في الكامل، والبلاذري في الأنساب
10- ابتدأ احتكار آل البيت للنبي والنبوّة لحظة موت النبي، فقد حالوا دون أن يشاركهم أحد غسله، ثم حالوا دون أن يشارك أيّ من أصحابه، عدا بني هاشم، في دفنه. ثمّة رواية يذكرها ابن خلدون في تاريخه عن نزول المغيرة بن شعبة، راوية الحديث المشهور، إلى القبر. غير أن عليّاً حين نقل له ما قاله المغيرة علّق قائلاً "يكذب المغيرة بن شعبة".
* صفحة الكاتب
اقرأ أيضاً على نشوان نيوز: هل علي خليفة من السماء؟