لا دخان بدون نار!

أنور عبدالجليل يكتب: لا دخان بدون نار!

ما ننتقده في طرح الدكتور الدغشي ليس فقط محتواه، بل المنهج القشوري الذي يُميز هذا الطرح الأكاديمي الهشّ كما وصفه المفكر أنيس ياسين بدقة، فهو فعلاً طرح قشوري، وتحليل قشوري، وأكاديمية قشورية، هذه القشورية هي ما صنعت واقعنا هذا.
الدكتور الدغشي يستمر في هذا النهج؛ ببدلته الأنيقة، ونبرة صوته الواثقة، التي تُوحي بأنه لم يأتِ بشيء من عنده، بل كل ما يقوله منقول من "كتب ومراجع"، وكأن مجرد النقل يكفي لإسكات كل تساؤل ونقد.

الغريب أن الدغشي يتجاهل منتقديه كونهم ليسوا أكاديميين مثل أكاديميته ولم يستندوا على مراجع مثل مراجعَه، وكأن الحقيقة رهينة بالنسخ، لا بالفهم والتحليل.
لكن بعيدًا عن الأسلوب، دعونا نلتقط فكرة هامشية وردت في بداية حديثه، تعامل معها كأنها من المسلّمات، وهي – في الواقع – كاشفة بعمق للاختلاف بيننا وبينه.

قال الدكتور الدغشي إن المذهب الزيدي لم يدخل اليمن أبدًا، وإن وُجد من اعتنقه في وقتٍ ما، فقد اندثر أثره تمامًا.
هذا التصريح لا يُقال في معرض المعلومة التاريخية فقط، بل يُستخدم كقاعدة لإلغاء أي صلة بين الزيدية في اليمن وبين زيد بن علي نفسه، عبر تصويره كرجل وسطي ترضّى عن الصحابة، بينما تحوّلت الزيدية إلى جارودية "متطرفة"  انحرفت عن خطه الامر الذي يعطي طوق النجاه لهذا المذهب كلما ثار علية الناس!

لكن السؤال البديهي هنا:
من غير المنطقي أن يكون زيد مجرّد اسم اختير اعتباطًا ليُبنى عليه مذهب كامل، ويُؤسس على اسمه حكم سياسي عمل قرونا على تخريب اليمن في دورات عنف لا متناهية 
فلا يوجد دخان بلا نار، ولا يمكن أن تتحول شخصية إلى مرجعية مذهبية تاريخية من دون أن تحمل مشروعًا سياسيًا وفكريًا قابلاً للبناء والاستثمار.

لنعد إذًا إلى زيد، لا كما يرويه الدغشي وفهارس المراجع، بل كما يظهر في فعله وموقفه.

كان زيد بن علي، ابن زين العابدين، أخو محمد الباقر، وعم جعفر الصادق، جزءًا من نواة البيت العلوي الذي حمل نظرية "الوصية والنصّ" التي تطوّرت لاحقًا إلى نظرية الإمامة الإمامية. لكنه حين تيقّن أن وصية أبيه لن تصله، وأن أخاه سيورّثها إلى ابنه جعفر، فهم أنه خارج اللعبة الوراثية المغلقة، وأن عليه أن يتصرف إن أراد موقعًا.

وهنا جاء تحوّله الكبير: رفض فكرة أن الإمامة بالنصّ، وطرح بدلًا منها تصورًا جديدًا للإمامة يقوم على الشروط لا التعيين، ويتيح لأي علوي عالم شجاع أن يثور، فيكون هو الإمام إن نجح. هذا ليس تجديدًا دينيًا بقدر ما هو إعادة توزيع للفرص داخل السلالة الحاكمة.

لم ينكر زيد أفضلية علي وأبنائه، بل أكدها، لكنه فتح الإمامة وجعلها "مشاعًا محدودًا" داخل البطنين، لا لعموم الأمة.
ورغم أنه لم يطعن في أبي بكر وعمر، إلا أن هذا الاعتدال لم يكن بدافع التوحيد بين المسلمين، بل كجزء من تكتيك ذكي لخلق قاعدة شعبية أوسع خارج الإطار الشيعي التقليدي.

وبهذا، يمكن القول إن زيد لم يُجدد التشيّع، بل تلاعب به لصالح موقعه الشخصي. لم ينقلب على مبدأ الوصية لأنه يرفضه من حيث الأصل، بل لأنه حُرم منه.
فهو لم يُقدّم بديلًا إنسانيًا عادلاً، بل قدم نموذجًا جديدًا للطبقية الوراثية، مضيفًا عامل المخاطرة هذه المرة، ليفتح لنفسه بابًا للسلطة.

وإن كانت الزيدية اليمنية قد تطوّرت لاحقًا إلى ما يُعرف بالجارودية، فليس هذا انحرافًا عن زيد، بل تطوّر منطقي لفكرته الأصلية، حين غلّب شرط "الخروج بالسيف" على "النص والعصمة"، ووسّع فكرة الإمامة لتتسع لأكثر من خط إمامي واحد، دون أن تغادر جدران البيت العلوي.

وإذا كنا نرفض اليوم الاستبداد السياسي القائم على الدم والسلالة، فلا يمكن أن نغضّ الطرف عن زيد الذي أسّس هذا النموذج وأعطاه شرعية دينية وحركية.
إننا يا سادة نقف أمام مؤسس العدمية الحقيقي، والشخص الأخطر في منظومة التشيع.
دعوني أذكركم كم كانت الإثني عشرية وديعة قبل الخميني، وكم كان تأثير نظرية الولاية الفقيه ووجب المبادرة والدعوة إلى الولاية الفقيه مؤثرًا داخل هذا المذهب، ومحولة له إلى دوامة ركام جلبت لإيران والمنطقة كلها ويلات الهلاك، تمامًا كما جلب زيد وزيديتُه الدمار والخراب لليمن.

من هنا أقفز إلى ما ذكره الدغشي كمدح في حسين الحوثي أنه كان معاديًا ورافضًا للمذهب الإثنا عشري، بل وساخرًا منه، وأقول إن موقف حسين الحوثي لم يكن سابقًا ولا بطوليًا، بل هو موقف معروف في الزيدية، كون المذهب الزيدي يرى أن الإثنا عشرية تجعل من التشيع خاملاً وديعًا ينقم الواقع ولكن لا يغيره، لكن الزيدية تحيي في نفس الهاشمي أسوأ ما قد يُحيى في نفس الإنسان من العدمية والحرب اللامتناهية والخراب المستطير.

فيا ليت شعري، هل يفهم الدغشي ما أقول؟

انور عبدالجليل