تقارير ووثائق

صنعاء الجوف العبر: السفر براً عبر طريق الخوف

عن رحلة مضنية تسلط الضوء على المخاطر التي يقع فيها المسافرون في صنعاء الجوف العبر: السفر براً عبر طريق الخوف - محمد يحيى جهلان


مؤخراً، خضتُ تجربة سفر بريّة هي الأطول في حياتي، امتدّت من صنعاء حتى العاصمة العمانية "مسقط" والعودة، اجتزت خلالها مسافة تصل إلى 5200 كيلومتر، 2600 كيلومتر ذهابًا ومثلها إيابًا. تفصيلها كالتالي:

- 1400 كيلومتر من صنعاء إلى المنفذ الحدودي اليمني "شحن".

- 1200 كيلومتر من المنفذ الحدودي العماني (المزيونة) حتى مسقط.

السفر برا

عدا عن عوامل وأمور كثيرة جعلتني أعشق السفر البريّ منذ الصغر، والتي يطول شرحها في هذا المقام، إلا أن أبرز ما يزيد من ذلك العشق لدي هو أن السفر برا يمكنك من رؤية الحقيقة بتجرد، ويصف الواقع كما هو دون زيادة أو نقصان، كما أنه يمنحك بسهولة وعمق فرصة الانطلاق في عملية التأمل ومراجعة الذات في نواحي عديدة ومسارات مختلفة.

وعلى الرغم من رحلات السفر البريّة العديدة التي قمت بها خلال السنوات الأخيرة بسبب عملي، والتي تقريبًا شملت زيارة الغالبية العظمى من المحافظات اليمنية، بما في ذلك طرق صعبة واضطرارية بسبب الحرب، أو طويلة وممتعة كتلك الرحلة التي اجتزنا فيها ما يزيد عن 1200 كيلومتر من عدن وصولاً لحضرموت حتى المهرة ومحمية حوف عبر الطريق الساحلي الممتد على طول الطريق، إلا أن هذه الرحلة تعتبر مختلفة ليس فقط كونها الأطول، بل كونها تحمل في طياتها الكثير من الانطباعات والتجارب الأولى التي مررت بها.

ربما هنا سأحاول أن أدون بعضًا من انطباعاتي للرحلة، مبتدئًا بهذه الحلقة الأولى ولو أنها قد تبدو بعيدة عن التسلسل الزمني والمكاني لرحلتي، كوني سأكرسها للحديث عن "صحراء الجوف" وهو مروري الأول عبر هذا الطريق، متطلعًا إلى أن تليها حلقات تشرح ولو بعضًا من تفاصيل السفر حلوها ومرها، في ظل أوضاع الحرب التي يعيشها اليمنيون منذ أكثر من 8 أعوام، وما أنتجته من كوارث ومأساوي وآلام حقيقية للغالبية العظمى من أبناء اليمن، والمقارنة الواضحة بينها وبين طرق طويلة في دولة أخرى، كالطريق إلى مسقط مثلا.

صحراء الخوف

حسب رواية سائق السيارة، كانت المسافة بين صنعاء ومنفذ شحن قبل الحرب لا تتجاوز 8 ساعات ذهاباً عبر الطريق الرسمي المسفلت، الآن أصبحت تصل إلى 24 ساعة متواصلة شاملة وقت التوقف لتناول الوجبات والتفتيش والإجابة على الأسئلة "السخيفة" للنقاط الأمنية المنتشرة على مدى الطريق من صنعاء حتى مدينة شحن.

نتيجة انقطاع الطرق الرسمية جراء الحرب، يصبح الوصول من صنعاء إلى منفذ شحن وما قبله من محافظات ومناطق، كمأرب، أو منفذ العبر البري المؤدي للسعودية، أو سيئون أو المهرة وغيرها من المناطق، يحتم أو بالأحرى يرغم المسافر سواء كان رجلاً أو امرأة، طفلاً أو كهلاً، مريضاً أو متعافياً، أن يعبر صحراء الجوف برملها المتطاير، وطرقها الوعرة، وشمسها الحارقة.

السفر عبر صحراء الجوف
السفر عبر صحراء الجوف (محمد جهلان)

تنقسم طرق الصحراء إلى طريقين رئيسيين وطرق فرعية عدة، الطريق الرئيس الأول يبدأ من منطقة (الحزم) عاصمة محافظة الجوف، وينتهي بالمسافرين حتى مشارف مركز محافظة مأرب، والقسم الآخر يبدأ من منطقة (اليتمة) التابعة لمحافظة الجوف، وينتهي حتى منطقة وطريق العبر التي يقع فيها المنفذ الحدودي البري الوحيد بين اليمن والسعودية، والذي يمر عبره كافة المغتربون اليمنيين.

"هنا سأتحدث عن القسم الثاني طريق الصحراء (اليتمة - العبر)".

* أحداث مأساوية

السفر براً عبر صحراء الجوف
السفر براً عبر صحراء الجوف (محمد يجيى جهلان)

ست ساعات متوسط الوقت الذي يقضيه المسافرون لقطع تلك الصحراء الخالية من أي شيء سوى سراب قد تراه بين حين وآخر على أمل أن ينتهي بك هذا الكابوس الذي تعيشه وأنت في كامل يقظتك، ينقص ذلك الوقت لجزء صغير من الساعة إذا كانت الأمور على ما يرام، وقد يزيد كثيراً لساعات إذا واجه المسافرون أحداثاً تعرقل مسارهم وما أكثرها. أبرز تلك الأحداث المأساوية هو انعلقت السيارة في الرمال في المرتفعات أو المنخفضات التي تجدها غالبًا على مسار الطريق. يحدث ذلك رغم أن الغالبية العظمى من السيارات التي تمر هذا الطريق مرتفعة وذات دفع رباعي "دبل"، مما يدفع المسافرين رجالًا ونساءً في مثل هذه الحالة، للانتظار حتى تأتي سيارات أو شاحنات قد تساعد في سحب سيارتهم العالقة، وهو أمر صعب بكل المقاييس ويتطلب الكثير من الوقت والجهد، أو النزول والمساهمة في حفر الرمل وتخفيض ضغط الإطارات أكثر مما خفضت، والمساهمة في دفع السيارة بأنفسهم.

لعل من يتخيل مشهدًا كهذا، لن يدرك حجم المأساة والمعاناة التي يتعرض لها المسافرون كمن يعيشون تلك التجربة، خصوصا كبار السن والنساء والأطفال والمرضى.

"كثيرة هي المشاهد التي رأيتها لركاب باص سفر كبير الحجم ذاهبون للعمرة أو الحج، حين ينزلون لمساعدتهم على تجاوز الرمال ودفعه بعد أن علق فيها، أو الانتظار حتى يأتي "شيول" لاخراجه."

"شاهدتُ بنفسي ركابَ سيارة عالقة في الرمال من نوع "هايلكس غمارتين"، محملةً بالعديد من حقائب السفر، يدفعون السيارة لإخراجها. كما رأيتُ سيارةً من نوع "راف فور" لم تستطع اجتياز الرمال إلا بصعوبة بالغة، محدثةً أضرارًا واضحة وكبيرة على السيارة.

هناك أحداثٌ أخرى قد يكون مستوى كارثيتها أقوى من تلك. على سبيل المثال، تعرّض المسافرون لقطع طريق في خلاء تلك الصحراء، وفي السابق شهد هذا الطريق العديد من الحوادث، بل وصل إلى القتل والنهب للمسافرين، خاصة لسيارات المغتربين القادمة من السعودية. ورغم أن نسبة تلك الحوادث قد انخفضت مؤخرًا، نتيجة اتخاذ بعض التدابير مثل تشكيل مجموعات من ثلاث أو أربع سيارات معًا، وهو ما حدث في رحلتنا، فإن بعض تلك الحوادث لا تزال موجودة.

تعرّض السيارة لحادث أو عطل مفاجئ آخر قد يؤدي إلى كارثة وتجربة مريرة للمسافرين، حتى لو كانوا قد احتياطوا قبل ذلك نوعًا ما واشتروا الكثير من الماء وبعض المعلبات السائلة والبسكويت قبل الدخول إلى الصحراء.

ونظرًا لامتداد وطول الخط الصحراوي، وعلى الرغم من تمكن السائقين وبراعتهم في القيادة، إلا أن التعرض لوقوع حوادث سير أمر وارد الحدوث، نظرًا لأن سرعة السيارة في أوقات مختلفة قد تتجاوز 120 كيلومترًا، وهي سرعة كافية لوقوع حادث في حال اصطدامها بكتلة رملية أو تعرُّج قد لا يظهر واضحًا. كما يمكن أن يكون هناك خطر من التصادم مع سيارة قادمة من الاتجاه الآخر أثناء الصعود في مرتفعات رملية، حيث قد لا يرى السائق السيارات القادمة.

شاهدتُ حادثًا مأساويًا لسيارتين ملقتين على جانب الطريق، نتيجة اصطدامهما في مواجهة بينهما.

وحشيةُ تجار الحرب

خوض هذه التجربة المريرة وتوقّع الأحداث المؤلمة قد تجعلك حذرًا وقلقًا طوال الوقت، وغير مستعد للاستمتاع بأي منظر جميل قد يصادفك في تلك الصحراء، مثل الهدوء التام عدا صوت الرياح الخافت، وجمال الرمال أو الكثبان الرملية المتحركة أو التعرجات الرملية.

حتى لحظات الفرح والسعادة التي تشعر بها عند خروجك من الصحراء بسلام، لا تكون كافية للتغلب على الألم النفسي والمعنوي الذي ينتج عن المشاهد المأساوية التي رأيتها، خاصة معاناة المسافرين من النساء وكبار السن. ولا يمكنها تخفيف الاحتقار والتعجب الذي ينشأ في داخلك نحو تجار الحرب الذين صنعوا هذه المأساة بقطع الطرقات واستهتارهم ولا مبالاتهم المتوحشة.

لعل من أبسط ما يمكن قوله في هذا الموقف، أن يكون لدى أي إنسان، ولو بقدر ضئيل من الضمير والإنسانية، القدرة على وضع حل لمثل هذه المعاناة والمأساة. بعيدًا عن الحديث عن أي وازع ديني

أو وطني أو أخلاقي، يبقى التساؤل البسيط الذي قد يبدو ساذجًا لدى البعض: كيف يمكن لأي إنسان، حتى إذا كان يمتلك قدرًا صغيرًا من الضمير والإنسانية، أن يتسامح مع استمرار هذه المعاناة والمأساة؟ ولماذا لا يضع حلا عاجلا لها؟ إلى حلقة قادمة..."

زر الذهاب إلى الأعلى