آراء

هوس الترند.. فقاعة تنمو كفطر سام

جمال حسن يكتب: هوس الترند.. فقاعة تنمو كفطر سام

أفضل من عالج ضحالة العصر في صناعة نجومه، وإثارة الاهتمامات بقضايا تافهة، هو المخرج الأمريكي وودي آلن في فيلمه "حب في روما". فجأة يصنع الإعلام من مواطن ايطالي بسيط نجما إعلاميا، تقرر جميع وسائل الاعلام ان تسلط كاميراتها حوله.

هكذا تنتقل حياة المواطن العادي من الهامش إلى سلطة التأثير، ماذا فعل، أين ذهب؟ من واعد؟

في البداية تبدو ملامحه المذهولة أمام جشع عالم الإعلام، الجميع يتحدث عنه. بدأ يشعر بغصة الكاميرات، تصيبه تلك اللوثة، فضول استطلاع الجمهور، وهي مسألة اذا غابت تختلقها الكاميرات، منصات التأثير، هذا المحرك الضخم الذي يحدد الاهتمامات.

لكن المواطن العادي تم استنفاده، بعد فترة حافلة بشلال الاهتمامات، يلفظه حوت يونس من الغرق في محيط الضوء، لتلقيه في بر الهامش من جديد، موطنه الاعتيادي. وهذا الأخير، وجد نفسه مجددا يعود من دائرة إلى الاهتمام إلى حياته السابقة. لكن تلك الحياة غدت أطلال مندثرة بعد خرابها. أعادت وسائل الاعلام اختلاقه في شخص آخر عادي. وتلك دائرة المؤثرين التي تشكلها الفقاعة، لكن ما ان تتلاشى تغدو فطرا ساما تسمم حياة صاحبها.

وقتها لم تكن قد ظهرت وسائل التواصل الاجتماعية والسوشيال ميديا، كان بحر التفاهة مقننا أيضا، وأقل انفلاتا. بينما اليوم، غدا كل مؤثر يمتلك منصته الخاصة وجمهوره. ويمتلك فرص متكررة لاغتصاب الفضاء العام، بهستيريته المنمقة، بتآلفه مع التفاهة كمزية للبقاء متسلقا على ظهر الاهتمامات التافهة، طالما أصبحت شأنا يتحدث به الجميع.

وهذا على استعداد ان يقول كل الأشياء الغبية، ويتطفل مثل العوالق والماصات على كل الضحايا الممكنة، مفتريا حول أعراضهم، وحول خصوصيات لا نستطيع التوثق من مصداقيتها. فقط انه قال، وهناك ضحية تحدثت عنه، وهناك شائعات تم ترديدها محملة بمخلفات السياسة، ومشحونة بحاجة العوام لبصق النخب بفضائحها. والناس بطبعهم ميالون لتصديق كل ما له صلة بالفضائح.

وفي الواقع، كان البعض مندهشا لما قيل من أحداث. واتذكر تلك الواقعة التي ترددت قبل سنوات والمنحولة من رواية يوسا "حفلة التيس". اتذكر أيضا طريقة السياسيين في وصم خصومهم، وهم ميالون لتصديق كل ما يفضح مساوئهم. حتى لو كانت مخترعة، اغتصاب الزعيم لإبنة صديقه في المسبح، ويالها من قصة مفعمة باثارة خيالات عن فضائح تطفح بالخزي. مع ان الواقع أكثر إبهارا من الخيالات المصطنعة. لكن المضحك، أن هذا هذا الاختراع فيه الكثير من الثغرات، حتى أن كاتب روايات حاذق، وهو أكثر حرية في اختلاق الأحداث لن يقنعه سردها في مسبح قصر رئاسي. يوسا نفسه لم ينزلق لهذا الإسفاف السردي، وفي واقع مسرحه الدومينيك، حيث تعرف اليوم بملاذ المتع والملذات على شواطئ الكاريبي.

لكني أيضا أتأفف من ان يتحول الترند مسرحا للتلميح لأعراض الآخرين، وتحويل مقولات متداولة بعلاتها، إلى وقائع يفترض انها موثوقة. وهي قصة ضحية تسممت بهوس الترند، ومازالت تعيش ذهول القادم من كهوف الهامش، متولعا بجعل نفسه موضوعا يشغل الآخرين وتأويلاتهم. لكن هذا الهوس بعد ان استنفد حضوره في محاججات لدحض الدين، وقبلها بقضايا سياسية مشبوهة، يعود في قناع جديد، وبوصفه مخزنا لحكايات فاضحة، تمس النخب.

يقول مونتسيكيو أن فاسدي الأخلاق في أثناء ثراءهم، تزداد أخلاقهم حطا عند الفقر.

وهذا قانون ينطبق على مرض الترند، فحين تسوء أخلاق المرء وسط غمامة الأضواء، تزيد حطا كلما عمل المرء على ترقيعها من الزوال. وربما تقاطعت بثمن مسبوق الدفع.

وأحيانا يبدو المذنب مثيرا للشفقة في مقصلة العقاب. هذا ان كان الكلام عقابا، لكنه يسقط في فخ الانشغال بالترهات. ففي عالمنا كل شيء يصبح قربانا للترند، بصرف النظر عن قيمته.

زر الذهاب إلى الأعلى