الحج في اليمن القديم: طقوس وشعائر وأحكام ومواقيت - دراسة
الحج في اليمن القديم: طقوس وشعائر وأحكام ومواقيت الحج عند قدماء اليمنيين - دراسة د. ثابت الأحمدي عن دار أروقة للدراسات والنشر
ورد الحج بثلاثة ألفاظ متقاربة في نصوص المسند اليمنية، الأول: " هـ و ف ر"، والثاني: " ح ض ر" والثالث: " ح ج".
وتذكرُ المصادرُ التاريخيّة أن الحجَّ في اليمن القديم كان يُقام موسميًّا إلى أماكن متعددة، وليس إلى مكانٍ واحد فقط، وإن كان معبد أوام في مارب أشهر معابد الحج اليمني قديمًا، كما ذكرنا آنفا. وهذا المعبد - بحسب الدكتور يوسف محمد عبدالله -: معبد القمر البيضاوي "محرم المقه ثهوان بعل أوام" كان من أعظم المعابد الرئيسيّة في اليمن القديم التي كان يحج الناس إليها، ولا أدلَّ على ذلك من كثرة النُّقوش النذرية وقرابين التماثيل التي عُثر عليها في مدخل المعبد خلال تنقيب البعثة الأمريكية في مطلع الخمسينيات. وكان لتلك الزيارات الموسميّة إلى الأماكن المقدسة شعائر كثيرة لا تُعرفُ تفاصيلُها؛ ولكنّ الأدلة المتوفرة تشيرُ إلى أنها كانت شعائرَ يكتنفُها نظامٌ دقيقٌ متعارفٌ عليه. ا. هـ.
انظر: أوراق في تاريخ اليمن وآثاره بحوث ومقالات، د. يوسف محمد عبدالله، دار الفكر المعاصر، ط:2، 1990م، ص: 50.
وقد صُمّمَ المعبدُ بفنائه الواسع، وجدرانه العريضة لاحتواء جمهور الحجاج الكبير، المتوافدين من أصقاع بلاد سبأ الواسعة.
ومن هذا الأماكن محفد "ريام" من رأس جبل ذبيان، كما ذكر الهمداني، وهو المعبد المعروف في النُّقوش بمعبد "تألب ريام"، ويقع اليوم في أرحب شمال شرق صنعاء.
الحج عند السبئيين
كان للإله السبئي "المقه" موسم حج وزيارات خاصّة به في شهر "ذي أبهي"، كما أشارت إلى ذلك العديد من النُّقوش اليمنية، ومن أهما النقش " Ja 651" والذي يشيرُ أيضًا إلى إقامة الاحتفالات والشَّعائر، وينوه إلى استمرار هذه الشَّعائر إلى اليوم التاسع من الشهر "ذي أبها"، فقد تحّدثَ النقشُ عينُه عن سلامةِ الجماعةِ التي أرسلهم سيدهم في مهمّة وهي مراقبة وخدمة الحُجّاج، والإشراف على أعمال بمدينة مارب أثناء انعقاد الحج السنوي الذي يُقامُ في شهر "أبهي" من التقويم السبئي الذي يصادفُ موسم الأمطار؛ حيث قاموا بأعمال إنقاذ، فأعادوا بناء أسوار ومحافد مارب، لحماية المدينة من اندفاع السيل.
انظر: دراسات في التاريخ الحضاري لليمن القديم، أ. د. أسمهان سعيد الجرو، دار الكتاب الحديث، 2003م، ص: 172. وانظر أيضًا الفن المعماري والفكر الديني، 94.
الحج عند المعينيين
كان الحجُّ عند المعينيين يُقامُ في مدينة "يثل"، وهناك معبد الإِلهَة "نكرح" الذي تم الكشف عنه بداية التسعينيات في هذه المدينة "يثل"، وهي براقش حاليا في محافظة الجوف، العاصمة الدينيّة لمملكة معين، والتي طفق الناسُ يزورونها ويحجون إليها؛ إذ يذكر المستشرق البلجيكي "كونزاك ريكمانز" أنها كانت مركزًا للحج. ويشير نقشٌ سبئيٌّ إلى حج جماعة من قبيلة "أمير" إلى الإله "ذو سموي" في يثل: ( و ح ج و/ ذ س م و ي/ ب ي ث ل)، أي: وحجوا إلى ذي سماوي في يثل. ولا تزال آثارُ هذه المدينة قائمة إلى اليوم. وقد تسنى لي زيارتها في منتصف العام 2011م، ورأيتها أطلالا دارسة، تعاني الإهمال، وبعضها قد غطتها الرمال، كما لاحظت بعض معالم التجريف العشوائي من قبل المواطنين في بعض الأماكن منها التي يعتقدون أن فيها كنوزًا ذهبيّة وآثارا أخرى ثمينة..!
الحج عند القتبانيين
كان الحجُّ عند القتبانيين إلى مدينة "تمنع"، العاصمة السياسيّة، وكانوا يحجُّون للإله "أنبي"، الذي وردَ اسمُه متبوعًا بلفظة "حج" في نقش (أ ن ب ي/ ب ع ل ي/ ح ج ن) أي: "أنبي رب الحج".
انظر: الإله عم وآلهة قتبان 700 ق. م، 170م "أطروحة دكتوراه"، جامعة طنطا، 2012م، جمال محمد ناصر عوض، 322.
وقد أشار الباحث جمال محمد ناصر عوض الحسني إلى نقش ملكي CIAS 47. 10/ r3/c82 في منطقة عسيلان، على بعد 2 كيلو متر من مدينة تمنع، والمؤرخ إلى أواخر القرن الثاني ق. م، مكون من عشرة أسطر، تشير الثلاثة الأسطر الأخيرة منه إلى الإله "أنبي"، إله الحج. نفسه.
مضيفًا: والجدير ذكره أن هناك بعض النُّقوش القتبانية التي تشيرُ إلى أنّ بعضَ قبائل قتبان كانت تؤدي طقس الحج الخاص بها في مناطقها، كما يوضح ذلك النقش: MQ-DHU-WAYN 13 الذي يوجدُ في أراضي مضحي، ونصه:
1- أ ب ي د ع
2- م ع د/ ل ع م
3- ذ و ص ر م
يسجل صاحب النقش أب يدع (م ع د/ ل ع م/ ذ ص ر م)، ويفسر عربش الاسم (م ع د) أنه ميعاد أو موعد، وأن ميعاد الإله عم ذو صرم تعني الحج للإله عم ذو صرم. وكان الحج يُؤدى في معبده "صرم".
الإله عم وآلهة قتبان، سابق، 325.
ويستخلصُ الباحث المذكورُ طبيعة الحج عند القتبانيين بالقول: إنّ طقسَ الحج في مملكةِ قتبان كان يُؤدَّى لإلههم الرئيس "عم"، وتُقام فيه شعائرُ الذبح المقدس الخاصّة بالولائم الدينيّة التي تُقدّم للحجيج الذين يتوافدون من مختلف المناطق القتبانية، كما تبين أنّ بعض القبائل القتبانية كانت تؤدي فريضة الحج الخاص بها لآلهتها المحلية التي عُبدت في مناطقها.
نفسه 326
الحج عند الحضارمة
عرف الحضارمة شعيرةَ الحج من وقت مبكر، إلى جانب الشَّعائر الأخرى، وكانوا يحجون سَنويا إلى معبد "حي أليم في شبوة، حيث يؤدون شعيرة الحج للإله "سين" أيامًا معدودة في السّنة؛ وكان سدنةُ المعبد يقيمون المآدب والولائم لضيوف الحج المتوافدين عليه من مختلف الأماكن. وتكونُ نفقةُ هذه الضيافة من عائدات العشور وأنصاف العشور التي يدفعها التجار لهذا المعبد، حين تمرُّ القوافلُ التجارية قريبًا منه، وأيضًا من القرابين والنذور التي ينذرها الناس ويتقربون بها للإله.
وأولُ النُّقوشِ الخاصّة بشعيرة الحج في حضرموت، والتي توفرت حتى الآن كانت في القرن الرابع أو الثالث الميلادي، وتحديدًا في عهد الملك شمر يهرعش، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات؛ حيث يشير في النقش "إرياني" إلى الحج الذي كان يُقام للإله "سين" في شبوة، ونصُّه: (هـ ج ر ن/ ش ب). (و ت/ ل ق ر ب/ ل ح ض ر/ س ي ن). وكلمة حضر هنا تعني العيد الحج، كما أشرنا سابقا.
وهو يشيرُ إلى أنَّ الملك شمّر يهرعش، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات قد أوفد "مُقتويًا"/ لقب عسكري، للذهاب إلى مدينة شبوة، وتقديم القرابين إلى الإله "سين" في موسم الحج الذي كان يُقام في معبده "أليم"، وذلك بعد سقوط العاصمة الحضرميّة بيد الملك نفسه، كما جاء في النقش Ja 662، وهذا دليلٌ على المكانةِ الهامّة التي احتلها الإله "سين" في مملكة حضرموت، وأيضًا أهميّة أداء الحج في مدينة شبوة.
الإله سين في ديانة حضرموت القديمة دراسة من خلال النُّقوش والآثار، جمال محمد ناصر عوض الحسني، رسالة ماجستير، جامعة عدن، 2006م، 136.
ويذكرُ المستشرق اسم إلهٍ آخر في حضرموت وهو "ذريح"، معبود كندة في حصن النجير، يردد الحجاج إليه تلبية خاصّة به، وهي:
"لبيك الله لبيك..
لبيك كلنا كُنود
وكلنا لنعمة جحود
فاكفنا كل حية رصود".
وهناك تلبياتٌ أخرى لبعض القبائل، حسبما تشيرُ إلى ذلك النُّقوش.
انظر: تاريخ حضرموت الاجتماعي والسياسي قبيل الإسلام وبعده، د. سرجيس فرانتسوزوف، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء، ط:1، 2004م، 83. وانظر أيضا: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، ط:2، 1993م، 375/6.
الحلقة الثانية: أقسام الحج عند قدماء اليمنيين
الأول: الحج الجماعي
والمعنيون بالحج الجماعي - حسبما تشيرُ النُّقوشُ إلى ذلك - هم الأحرارُ من الرجال والنساء، وإن كان الرجال هم المعنيون به أكثر من النساء، نظرًا لما يحتوي عليه من مشاق وأتعاب، لا تقوى عليها النساء عادة، وتشير النقوش: CIH 514 547, Ja 651,669, YM375=CIAS225 بأنّ الحج الجماعي في جنوب الجزيرة العربيّة كان يتم خلال شهر "أبهي".
الثاني: الحج الفردي
ذكره نقش: CIAS 39، ويتم فرديا، ولعله يشبه "العمرة" في الشَّعائر الدينيّة التي أقرها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وكان يتم هذا النوع من الحج في شهر "ذو هوبس" إلى معبد أوام. وهو حجٌ ليس مخصوصًا بزمنٍ معين، ولا ضمن جماعةٍ معينة.
ولعلّ هذا النوع من الحج هو الحج الذي أشارت إليه بعضُ نصوصِ المسند بأنه حج فرد أو أفراد أو عائلة، لشكر الإله عند حصولهم على نعمٍ منه، أو عند تحقيق المعبود لهم ما طلبوه منه، فيؤدون الحج، كنوع من النذر.
انظر: التشريعات في جنوب غرب الجزيرة العربيّة حتى نهاية دولة حِمْير، مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 2000م، 179.
حكم الحج
الحج فريضة واجبة في التشريعات اليمنيّة القديمة، في زمنٍ محددٍ، ومكانٍ محددٍ على كل الناس، عدا من استثنتهم التعليماتُ، كما سنرى.
يذكرُ النقش Ja 669 أنّ الحج إلى معبد المقه بمارب كان إجباريًا على كل الأفراد من رجال ونساء وأبناء، فصاحب هذا النقش يأمر أزواجه وبنيه بالقيام بالحج إلى المقه، عرفانًا وشكرًا للإله، وثمة نقشٌ آخر يخبرُ عن مشاركة المرأة في الحج أيضًا: CIA 39. 11/ 03 no6، ويشير نقش CIH82إلى أنّ المعنيين بالحج هم حملة السّلاح فقط دون سواهم، ومن عداهم من القاصرين والأتباع لا يلزمهم الحج.
انظر: الحج في الفكر الديني، سابق، 200. وانظر أيضا: التشريعات في جنوب غرب الجزيرة العربية، سابق، 179.
مدة الحج
إنّ فترة أيام الحج في اليمن قديمًا كانت تتراوح ما بين ثلاثةِ أيامٍ إلى تسعة أيام، كما يوضح ذلك النقش: Ja 651، في شهر "ذي أبهي"، وتتميز بعضُ أيامه بتسمياتٍ خاصة، مستوحاة من طبيعة الشَّعائرِ الدينيّة كيوم الضّأن، أو يوم "ذبحتم"، وهو يوم النحر. كما هو الشأن في شعيرة الحج المحمديّة بعد ذلك.
ويذهبُ الباحث الدكتور سلطان المعاني، بناء على ما توصل إليه من أنّ فترة الحج اليمني القديم "ثلاثة أيام على الأقل". وهو ما يعني أن ثمة حدًّا أعلى، وحدًّا أدنى لأيام الحج، كما هو المعروف في الحج إلى مكة المكرمة في التعاليم التي أتى بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وأن ثمة أركانا للحج، يجب القيام بها، ولا يكتمل الحج إلا بها، كما أن هناك سُننًا يجوز للحاج أن يتجاوزها.
انظر: الهوية الحضارية في النُّقوش العربيّة القديمة، سلطان المعاني، 329.
وهناك نقوشٌ أخرى تشيرُ إلى أن الحج في شهر "ذي محجتن"، وفسرها البعض بأنها شهر ذي الحجة المعروف عند أهل مكة، إلا أن بعض الباحثين قد شككوا في تخريجهم بأنه شهر ذي الحجة المعروف عند أهل مكة وعندنا اليوم.
أوقات الحج
لا نكادُ نعثرُ في المصادر التي بين أيدينا في الوقت الحالي على زمنٍ موحّد وجامع لشعيرة الحج؛ بل إنّ ثمة أزمنة تبدو متعددة ومختلفة من مملكةٍ إلى أخرى.
فعلى سبيل المثال تقررُ بعض النُّقوش أنّ موسم الحج السنوي إلى معبد المقه في مارب كان في شهر "أبهي". ويُقال: إنّ أول أيام الحج تبدأ في يوم الثاني والعشرين أو الثالث والعشرين من شهر "أبهي"، ويذهب البعض أن شهر "أبهي" يقابل شهر سبتمبر في التقويم الميلادي.
انظر: الحج في الفكر الديني، سابق، 196.
وأشارت نقوشٌ أخرى أيضًا إلى اسم شهر آخر، هو (ذ ح ج ت ن)، أي ذو الحجة، إلا أنه غير شهر ذي الحجة المعروف عند أهل مكة حسبما يرى البعض. كما أن ثمة نقشا آخر هو شهر "ذو هوبس"، ويتحدث عن كفارة قدمتها سيدة، لعدم وفائها بوعد الحج للإله المقه في شهر ذو هوبس، بعد شفاء ابنتها من المرض الذي أصابها. نفسه، 197.
وتشيرُ النُّقوش إلى نوعين من الحج: حج جماعي للرجال والنساء، وإن كان الرجالُ فيه أكثر، ويتم في شهر "أبهي" وأيضا حج فردي، في شهر ذو هوبس، ولعله ما يشبه "العُمرة" التي تتم اليوم إلى الكعبة المشرفة بمكة المكرمة.
ومن خلالِ نقش Ja 669 نعرف أنّ الحج لمعبد المقه بمارب كان إجباريًا على كل الأفراد من رجال ونساء وأبناء، فصاحب نقش Ja 669يأمر أزواجه وبنيه بالقيام بالحج إلى المقه عرفانا وشكرا للإله، ونقش آخر يخبر عن مشاركة المرأة في الحج أيضًا CIA 39. 11/ 03 no6 ويبدو أن هذين النقشين الوحيدان اللذان يَخُصَّان المرأة ويأمرانها بالحج، ويُعزى ذلك إلى مشقةِ السفر إلى الأماكن المقصودة بالحج، وكذلك إلى الصُّعوبات التي يواجهُها الحاج أثناء تأدية مناسك الحج، مما يتطلب قوة ينفرد بها الرجال دون النساء. نفسه، 199.
الحلقة الثالثة: الطهارة
يتضحُ لنا من خلالِ العديد من النُّقوش المسنديّة أنّ الطهارة كانت شرطا من شروط ممارسة أي طقس ديني، أو حتى مجرد الاقتراب من المعبد، ناهيك عن دخوله، ومَن دخلَ المعبد غير طاهر لزمته الكفارة، كما تؤكد ذلك النقوش. وهي شعيرة أبقى عليها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وذكرتها تعاليم الفقه الإسلامي بعد ذلك. وفي القرآن الكريم قوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) البقرة: 125.
وباستقراء النُّقوش المسنديّة التي تناولت الكفارة والتوبة نجد أن أغلبها كان مرتبطا بالإخلال بشرط الطهارة في ممارسة الطقوس الدينيّة أو دخول المعابد. وهو ما يؤكد على حرمة هذه الشعيرة، وعلى عظمة الشعور بالذنب بالنسبة لمن أخلّ بها من اليمنيين قديما. وكانت ترد غالبا بلفظ "استعذر" أي استغفر وطلب الصفح، ولا تزال لهذه اللفظة استخداماتٌ إلى اليوم في بعض مناطق اليمن.
فإذا دخل إنسانٌ معبدًا وهو نجسٌ عُدّ آثمًا، وقد ورد أنّ رجلا اتصل بامرأةٍ، ثم دخل المعبد بملابسه التي كان يلبسها حين اتصل بها فُعدّ آثمًا، ودفع فدية عن إثمه، إرضاءً للآلهة، وورد أنّ رجلا دخل معبد الإله رب السماء "ذي سموي" بمعطفٍ نجس، فدفع فدية عن ذلك، جزاء ما ارتكبه من إثم..
انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 407/6.
ورجلٌ آخر أيضًا كما في النقش: (al-silwi 1)؛ حيث يذكر أنّ صاحب النقش قدم كفارة للمعبد بعد أن أعلن توبته؛ لأنه مرّ بالمعبد وهو مُحتلم. وهو ما يعني أنَّ الغسلَ كان من مُوجباتِ الاحتلام في التشريع اليمني القديم، وأنه ينجس الملابس والبدن، وقد أقرته تشريعاتُ الفقه الإسلاميّة لاحقا.
انظر: الطهارة في المعتقدات الدينيّة في جنوب الجزيرة العربيّة قبل الإسلام في ضوء نقوش المسند، باسم محمد خطاب، نسخة إلكترونية، "بي دي اف"، على الرابط: https://search.mandumah.com/Record/1117385 ص: 71.
وعثر المنقبون على أحواضٍ داخل المعابد في العربيّة الغربية، يظهر أنها كانت للوضوء، لتطهير الجسم قبل الدخول إلى المسجد.
انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، سابق، 407/6.
واشترطت التعاليم الدينيّة في اليمن القديم تطهير الثوب والجسد، كما اشترطت على من أكلَ الثوم أو البصل ألا يقرب المعبد، ويُستدلُّ على ذلك من النقش: Ja 720 من أنّ شخصين، هما: "أجرم" و "شرحم" قد قدّما تمثالا من فضة؛ لأنهما ارتكبا معصية في معبد الإله المقه، تمثل هذا الذنب في أكلهما لنباتات كريهة الرائحة كالبصل.
انظر: الطهارة في المعتقدات الدينيّة في جنوب الجزيرة العربيّة قبل الإسلام في ضوء نقوش المسند، سابق.
واعتبرت التعاليمُ الدينيّة في اليمن القديم أيضًا أن سَيَلان الدم على الجسد مُنقضٌ للطهارة، حتى ولو كان من الجرح، بل إنه ينقضُ ما سال عليه، كالثياب، أو ملامسة جسد شخص آخر، كما في النقش: Haram 13=CIH 548. وهو ما قررته أيضًا تعاليم الفقه الإسلامي.
ليس ذلك فحسب؛ بل لقد ذكر بلينوس أنّ الطهارة كانت مطلوبة لعمّال جمع اللبان أثناء جَنْيه؛ لأنّ اللبانَ من مستلزمات بيوت الآلهة.
انظر: بلينوس والجزيرة العربية، إشراف وتحرير: د. عبدالله بن عبدالرحمن العبدالجبار، ترجمة: أ. د. علي عبدالجيد، دارة الملك عبدالعزيز، 2017م، 150.
التطيُّب
لأنَّ اليمنَ بلاد الطيوب والعطور والبخور أساسًا من قديم الزمن، فقد أكثر اليمنيون من التعاطي معهما، سواء للمعابد، أم للحُجّاج أنفسهم، أثناء أداء شعيرة الحج. ولهذا تفننوا في صناعة المباخر بأنواعها وأشكالها، سواء ما كان منها خاصًا بالبيوت والاستخدامات العائلية، أم ما كان خاصًّا بالمعابد الدينية.
وتعتبرُ المباخرُ من أهمّ أثاثِ المعبد في اليمن القديم، ويعدُّ وجودها في تلك المعابد أمرًا ضروريًا؛ لأن عملية إحراق البخور فيها تعدُّ من الطقوس الدينيّة الهامة.. حيث يبدأ المتعبد بإحراق بخور قدومه للمعبد، في المباخر التي وُضعت في قدس الأقداس "المحراب"، أو في أروقة المعبد، أو في الفناء المكشوف منه. ويتم بعد ذلك تبخير القُربان أو النذر المقدم، وخاصّة متى كان من نوع القرابين أو النذور المذبوحة؛ لأنّ عمليّة حرق البخورِ في الديانةِ اليمنيّةِ القديمةِ طقسٌ شعائريٌّ، مطلوب القيام به في كل المعابد اليمنيّة القديمة.
انظر: القرابين والنذور في الديانة اليمنيّة القديمة، هزاع محمد عبدالله سيف الحمادي، أطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة، 2006م، 447، وأنظر أيضا: الفن المعماري والفكر الديني 302.
وإلى جانبِ البخور فثمة أيضًا "الرّند". وقد ورد في المعجم السبئي بأن "الرّند" نوع من الطّيب، وقد ورد ذكره في النُّقوش السبئية، كما في النقش RES 3853 حيث يذكر أن "الرند" استخدم كبخور في معابدِ اليمن.
انظر: تجارة البخور في جنوب شبه الجزيرة العربيّة في الفترة من القرن العاشر حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد، "رسالة ماجستير"، أسامة محمود عبدالمولى، جامعة الزقازيق، مصر، 2003م. 30.
الإحرام
كان الحج في الجاهلية يعرف الإحرام، كما كانت تعرفه الشُّعوب السّامية الأخرى في حجها، وهو حالة تنسُّكٍ قريبة من الحِداد، انتظارًا لتجلي المعبود وعفوه عن عباده.
انظر: د. حسن ظاظا، الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، دراسات تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الثاني، "مجموعة مؤلفين"، جامعة الملك سعود، ط:1، 1984م، 179.
تقديم العشور
كان الحجاج يقدمون عُشر محاصيلهم الزراعية، وكذلك يفعل التجار إلى المعابد، والتي بدورها تقومُ بصرفها في ضيافة الحجيج، وتحمل نفقات هذه المعابد على مرّ العام. وكانت العشور في التجارة والزراعة قوانين سبئية، أقرتها تعاليم الشريعة المحمدية بعد ذلك.
وقد تأثرت حضارة شمال الجزيرة العربيّة بالقوانين اليمنيّة في هذا المجال؛ حيث وجد نقشٌ نبطي في معبد العُزّى على جدار المعبد، مؤرخ بعام 27- 28م، من عهد الحارث الرابع، يشيرُ إلى العشور الخاصّة بالمعبد.
انظر: الحج في الفكر الديني، 201.
الحلق والتقصير
ارتبطت الشَّعائرُ الدينيّة عادة بالغسل وتقصير الشعر أو حلقه، وكذا بالطيب والبخور، ويُعتبر قص الحاج لشعره أو حلقه أحد الشَّعائر الدينيّة المرتبطة بفريضة الحج، وقد وردت أوامر الإله "تألب" لأتباعه بذلك، كما في النقش: RES 4176، وتأثرت حضارة شمال الجزيرة العربيّة بتعاليم الحج اليمني، حيث يشيرُ نقشٌ نبطيٌّ إلى أنّ المتعبدين كانوا "حليقي الشعر": (حرم كحلقت حرما دي محرم لذوشرا) أي: "أن هذا القبر حرام كحرمة محلقي معبد ذي الشّرا". كما أشارت النُّقوش الصّفوية إلى وجوب الغسل قبل الحج، كما أشار نقش آخر إلى التطيُّب أيضا، عندما حج "قصعان" إلى الإله "بعل سمين".
نفسه، 202.
وفي القرآن الكريم: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح: 27
الطّوَاف والسّعي
كانت شعيرتا الطواف والسّعي من الطقوس المقدسة بين المعابد الدينيّة، يؤديها الحجاج في حجهم قديمًا، وبطريقة تختلفُ - جزئيًا - عن الطريقةِ السائدةِ اليوم في الطواف والسعي حول الكعبة في مكة المكرمة، ولها أماكنها الخاصّة المقدسة بها، كما تشيرُ النُّقوش القديمة إلى ذلك، وتبدو أنها من العادات الدينيّة في كل الأديان، بما في ذلك الأديان الأرضيّة، على خلاف في التشابه بينها جميعًا.
تذكرُ الباحثة في التاريخ القديم الدكتورة فتحية حسين عقاب، نسبة إلى الدكتور محمد مرقطن، المتخصص في لغات وحضارات الشرق القديم ما نصه: يُعتبر سير الحجاج من مكانٍ إلى آخر بين الأماكنِ المقدسة شعيرة من شعائرِ الحج على مرّ العصور في معظم الحضاراتِ القديمة، وكذلك في الجزيرة العربيّة، وهو ما يشبه السّعي بين الصّفا والمروة في مكة، والذي يُعتبر شعيرة من شعائر الحج في الإسلام؛ أما قبل الإسلام فنجد عدة طرق في العربيّة الجنوبيّة "اليمن القديم" تربط بين معابد داخل المدن وخارجها، يمكن اعتبارها طرق مواكب دينيّة، مثل الطريق الذي بين معبد أوام ومعبد برآن، وكذلك طريق يبلغ طوله 6 كم في منطقة اللوذ في الجوف، ويبدأ عند سفح التل، ويتجه صعودًا للوصول للمعبد في القمة.
انظر: الحج في الفكر الديني، 206.
ولا شكّ أنّ حضارةَ شمال الجزيرة العربيّة قد تأثرت بهذه التعاليم آنذاك، فوجدنا تعاليم مشابهة عند الأنباط لما عند عرب الجنوب، فقد تم ربط أماكن مقدسة ببعضها البعض بين البتراء ومنطقة الدير.
الرمي
لم أعثر من بين النُّقوش التي اطلعتُ عليها على نصٍّ يشيرُ إلى الرمي، "رمي الجمرات" في الحج اليمني قبل الإسلام، غير أن الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام يقول: رمي الجمرات بمنًى من مناسك الحج وشعائره، وهو من شعائر الحج كذلك المعروفة في المحجّات الأخرى من جزيرة العرب، كما كان معروفا عند غير العرب أيضا، وقد أشير إليه في التوراة. هذه إشارة المؤرخ المذكور، دون ذكر لتفاصيل الرمي أو تحديد يومه.
انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، 385.
ذبح الأضاحي
وردت في النُّقوش لفظة "ذبح"، وتعني: الذبيحة، و "ذبحم"، أي: ذبحوا، و "أذبح" والمقصود بها ذبائح، وتعد البقر والثيران والأغنام والمعز من أكثر الحيوانات شيوعًا في الذبح عند سائر الشُّعوب السّامية. تُقدم تلك الذبائح في مناسباتٍ مختلفة، كبناء منشآتٍ خاصة، أو شكر وحمد للآلهة على أمنيةٍ أو رغبةٍ تحققت، وقد تُقدم تلك القرابين جماعيّة في مناسباتٍ عامة كالحج، أو الاحتفالات الدينيّة، أو الفرديّة؛ فهناك نقشٌ Ja 949 يتحدثُ عن ملك حضرموت "يدع إل بين ربشمس"، يذكرُ القرابين التي قدمها للإله "سين" في أحد الاحتفالاتِ الدينية، فقد ذبح 35 بقرة، و 82 وعْلًا بريا، و 25 غزالا، وثمانية من الفهود.
انظر: دراسات في التاريخ الحضاري القديم، 171.
ومن الشَّعائر الدينيّة التي كان يمارسُها الحجيجُ أثناءَ تأدية فريضة الحج شعيرةُ الأضاحي، مصحوبة بالولائم لعامة الناس. وقد خُصِّصَتْ مذابحُ خاصّة في المعابد للنحر في يوم محددٍ من أيام الحج، كما سنرى.
ويشيرُ أحدُ النُّقوش إلى أمر الإله تألب - عن طريق الوحي - ذبح سبعمئة من الماشية في يومٍ واحدٍ، ويكون هذا الذبح بالوادي، كما يؤكد النقشُ على تقديم أضحيةٍ سليمة في الحج.
وكانت الثيران، ثم البقر، ثم الغنم، ثم الماعز هي الأضاحي التي يتقرب بها الناس للإله، يوم "الذبح". ويجبُ أن تكون الأضحية سليمة، وخالية من العيوب والأمراض، كما يوضح ذلك النقش: RES 4176/3- 4.
انظر: الحج في الفكر الديني 201.
والهَديُ ذبيحة تُقدم للمعبود نذرًا أو عند الحج، أصلها من الكلمة السامية "هـ و د" بمعنى الشكر والاعتراف بالفضل، ومن هذا المعنى جاء اسم النبي "هود" أي: شاكر، أو شكر.
ويشيرُ الباحث جمال محمد ناصر عوض الحسني إلى أنّ النقشَ الملكي CIAS 47. 10/ r3/c82 يُسجل القيام بالذبح المقدس للإله "عم ريعن" في معبده "قني هورن". هذا بالإضافة إلى ما جاء في النُّقوش الملكية الخاصّة بمكربي قتبان، والتي تتضمنُ صيغة واحدة تكررت فيها منذ القرن الرابع ق. م، وحتى عهد آخر مكربي قتبان، المُؤرَّخ بين نهاية القرن الأول ق. م، وبداية القرن الأول الميلادي، والتي تدل على أنها سجلت في مناسبة دينية مهمة، تخصُّ قتبان وقبائل أولاد عم، ومن المحتمل أن تكون تلك المناسبة هي طقس الحج الذي يمكن أن يجتمعوا فيه جميعًا؛ حيثُ يُلاحظ أن المكرب يذكر جميع الوظائف الدينيّة المعروفة في ديانة قتبان، وبتوجيه من الإلهين "أنبي" و "حوكم"، يأمر الكاهن العام أو الكبير بالقيام بالذبح المقدس، ولا يُستبعدُ أن ذلك الذبح كان من أجل إقامة الولائم أو المآدب الدينيّة للحجيج الذين توافدوا إلى مدينة "تمنع"، لتأدية طقس الحج للإله عم، إلههم الرئيس.
ويبدو أنّ ذلك الذبح كان يتم في شهر "ذي ذبحتم"؛ حيث جاء في النقش: MuB 522/5-7 الذي عُثر عليه في تمنع، ويؤرخ إلى عهد الملك المكرب يدع أب ذبيان بن شهر في القرن الرابع ق.م: ( و ر خ س/ ذ ذ ب ح ت م/ خ ر ف/ ذ ذ ر ح ن/ ق د م ن). أي في شهر ذي ذبحتم، من سنة ذي ذرحان الأولى. وتسمية أحد الشهور "ذي ذبحتم" توحي بأنّ الذبح المقدس كان يتم في ذلك الشهر؛ حيث عرف في ممالك اليمن القديم أنّ طقس الحج كان يتضمن إقامة الولائم أو المآدب الدينيّة للحجيج.
انظر: الإله عم وآلهة قتبان، جمال محمد ناصر عوض، 324.
كما أنّ ثمة إشارة أخرى في نقش آخر ليوم "النحر" اسمه "يوم الضّأن"، والنقشُ ينصُّ على تحريم إدخال الماشية إلى حصن ذي مخرم" إلا في يوم الضّأن الذي يأتي مرة كل عام.
انظر: التشريعات في جنوب غرب الجزيرة العربية، 172.
الحلقة الرابعة: الاعتراف بالذنب وإعلان التوبة
جُبل الإنسانُ - بما يحملُ من قِيمٍ أخلاقيّةٍ تعود في جذرها إلى نزعته الإنسانية - على حب الخير، ومقت الشر، كفطرة إنسانية أصيلة في النفس، غير أنه قد يعترضُه عارضٌ في بعض الأحيان، فيسيطر فيه جانبُ الشر على جانبِ الخير، في تغلب شهوةٍ، أو حب سيطرة وانتقام، إلى آخر هذه النزعات الشريرة في النفس الإنسانية أحيانا. ومع أنه قد يتلذذُ بهذا الفعل غير الإيجابي، أو التصرف "الشرير" الذي يؤدي إلى الإضرار بالغير؛ لكنه ما يلبثُ بعد حينٍ أن يراجعَ نفسه، عقب حالة داخلية يمر بها، تُعرف بمرحلة "سَأم ما بعد اللذة"؛ إذ يتغلبُ عليه الجانبُ الإيجابي على السلبي، والخير على الشر، ومن ثم تكون "المراجعة" الذاتية، ثم الشعور بالندم، جراء هذا التجاوز، ومن ثم يبدأ في البحث عن محو تلك الخطيئة، أو ما يراه كذلك، فيسارع - من ثَمَّ - إلى التوبة والتكفير؛ إمّا ماديًا بالنذور والهبات والصّدقات ورد المظالم، وإمّا معنويًا بالاستغفار وطلب الصفح والغُفران من السماء. وهي ظاهرةٌ عامّة لدى كل الأديان، السّماويّة والأرضيّة على حدٍ سواء.
وتأتي المواسمُ الدينيّة فرصة لهذا الإعلان والمبادرة، والحجُّ على رأسها.
لقد أعلنَ اليمنيُّ القديم ندمه وتوبته في موسمِ الحج، كتطهيرٍ للنفس من آثامها، في شجاعةٍ أخلاقيّةٍ عالية، تعكس حسه المدني، ورقيّه الحضاري، وفطرته السّليمة.
من هذه الاعترافات، نقش: CIH 547؛ حيثُ يذكر أنّ أهل أمير "قبيلة أمير" وأهل عثتر يعترفون ويكفّرون عن خطيئتهم للإله "حلفان"؛ لأنهم لم يؤدوا الصّيد المقدس في موعده المحدد، وألا يكرروا مثل ذلك مرة أخرى، وليتقبل الإله "حلفان" توبتهم. وأيضا النقش CIH 523؛ حيث يعترف "حرم بن ثوبان" للإله ذي سموي باقترافه عددًا من الخطايا، تُعد في نظر القانون القُدسي من الآثامِ التي يستحق مرتكبوها العقوبة الشديدة، فالمتقدم بالنقش يتضرع ويتوسل للإله، طالبًا المغفرة والتوبة لما ارتكبه من خطايا، تتمثل في:
1- قارَبَ امرأة في فترة التحريم.
2- دخل على نفاسٍ، وهي غير طاهر، وكسوته غير طاهرة.
3- لمسَ أنثى حائضًا، ولم يغتسل، وكانت كسوته متسخة.
نفسه، 176. والنص من نصوص الباحث إبراهيم الصلوي.
وكان قبول الاعتراف والتوبة يتطلب من المخطئ دفع كفارةٍ أو غرامةٍ، وهي مبلغ من المال، يعتمد قدره على جسامة الذنب..
التوسلات والأدعية والنذور
كان الحُجّاجُ وزوارُ المعابد في الحج وغير الحج يمارسون شعيرة التوسُّلِ والدعاء إلى الإله بغفران الذنب، وطلب الذرية الصّالحة من الذكور الأصحّاء، لمن حُرم نعمة الأبناء الذكور، وكذلك التوسل للإله، بطلب الحماية من الكوارث والأمراض، وكسب رضا الحكام.. إلى جانب منح الخصب الإنساني والزراعي والنمو والشفاء، وإنزال المطر، ودرء الأرواح الشّريرة والعين الحاسدة.. إلخ.
انظر: الفن المعماري والفكر الديني، 97.
وقد كان اليمنيُّ القديمُ يتوجه لآلهته بتضرعاته وتوسُّلاته، ويعتبرُ ذلك بمثابةِ تَقدمةٍ، يتقربُ بها للإله المعبود، ويأملُ من الإله الموجهة له أن يحققَ له ما طلبه من خلالها..
انظر: القرابين والنذور في الديانة اليمنيّة القديمة، سابق، 534.
وكان السُّكانُ في ذلك العصر يقدمون النذورَ إلى معابدِ الآلهة، طلبًا للشفاء من مرض، أو عودة بالسّلامة من سَفر أو حرب، وطلبًا لمواليد ذكور، أو موسمٍ زراعيٍ خصب.
الولائم
كانت الوليمة أحد الطقوس الدينيّة في شعيرةِ الحج عند اليمنيين القدماء؛ حيث كان مكاربة حضرموت يقيمون الولائم الدينيّة ويشرفون عليها. كما كان يفعلُ أيضًا مكاربة سبأ.
واحتوت بعضُ المعابد الحضرميّة الضّخمة على مبانٍ كانت متماثلة ومتشابهة، كان من ضمنها قاعات للطعام، ففي مدينة "ريبون" اشتملت بعضُ معابدها على قاعاتٍ للطعام، منها معبد ميفعان الذي يتكون من عدة مبان، وجد المبنى رقم 2 الذي يقع شمال المبنى الرئيس للمعبد، وإلى الغرب من المصطبة.. وتبلغ مساحته 8,5 في 15 كان يمثل قاعة الطعام في المعبد؛ حيث عُثر فيه على بقايا أدواتِ الطبخ ومائدة، وعلى عدد كبير من بقايا عظام الحيوانات، وأيضا وجد في معبد رحبان، المبنى رقم 7 إلى الجنوب من المبنى الرئيس للمعبد.. وأبعادها 7 في 9 م، ومن خلال تخطيط المبنى يُحتمل أنه استُعمل لإقامة الولائم الدينية، وفي معبد "كفس/ نعمان" احتلت قاعة الطعام المبنى رقم 1، الجزء الشمالي لمبنى المعبد الرئيس.. وتبلغ مقاساتها 13 في 15م، وهي تحتوي على عدةِ غرف، كما وُجد فيها بقايا 25 عمودًا، كما عُثر على قاعاتٍ للطعام في عدة معابدَ أخرى، ومنها معبد الإله سين في ريبون..
وقد اشتملت هذه المعابدُ على غُرف، أو قاعاتٍ للطعام، اكتُشفت في وسطها دعاماتٌ ومقاعد حجرية "مصاطب" ومائدة للولائم، وتقوم المائدة على دعامات، كما عُثر على مائدة للقرابين وأدوات مطبخ، وأيضا على عظام حيوانات متنوعة على سطح أرضيات تلك القاعات.
انظر: الإله سين في ديانة حضرموت، 77.
وما تجدرُ الإشارة إليه هنا هو أنّ الولائم لم تكن تقتصر على موسم الحج فقط؛ بل كانت مستمرة للزائرين على امتداد العام؛ إلا أنها في موسم الحج أكثر، نظرًا لأعداد الحجيج المتوافدة في هذه الشعيرة المقدسة.
ويبدو أنّ سرَّ تميُّزِ الحضارمة إلى اليوم بفنونِ الطبخ والولائم الجمعيّة وعشقها وإجادتها راجعٌ إلى ذلك الرصيد المتراكم من إرث الآباء والأجداد، المتشكل عبر هذا الزمن الطويل منذ آلاف السنين. ففنُونُ الطبخ الحضرمي مضربُ المثل ليس في اليمن فقط؛ بل على المستوى العالمي، إلى حد أنّ بعض مالكي المطاعم في بعض عواصم الدول الكبرى اليوم أصبحوا يسمون مطاعمهم بأسماء حضرمية، لكسب ثقة المترددين عليها..! وتكتسب المطاعم الحضرمية اليوم ثقة المواطن الخليجي والعربي بدرجة رئيسية.
المطبخُ الحضرمي - من ثمّ - عريقٌ وأصيل، وله تاريخٌ ضاربٌ في جذوره إلى آلافِ السنين، ارتبط في نشأته الأولى بالسّماء، فباركته السّماء إلى اليوم.
صلاة الاستسقاء
أشارت نصوصُ المسند إلى نوعٍ مُعينٍ من الصّلاة لدى اليمنيين القدماء، وهي صَلاة الاستسقاء التي مارسها عربُ الجنوبِ قديما، للتقرب من الآلهة، من أجل نزولِ الأمطارِ عندما تُصاب المنطقة بجفافٍ يهددُ حياةَ السكان، فيقدمون الهدايا للآلهة، ويخرجون بالأضاحي إلى العَراء لذبحها، ويردد السُّكان الأدعية والأناشيد الجماعية. وتذكرُ بعضُ الإشاراتِ أنها قد تُؤدّى أثناء الحج.
انظر: دراسات في التاريخ الحضاري القديم، 174.
وهناك نقشٌ، عبارة عن دعاء عُثر عليه بوادي قانية "محافظة البيضاء" وهو موطنُ قبيلة آل معاهر "أقيال ردمان خولان". في ذلك الموقع شُوهدت صخرتان، نُقشت عليهما كتاباتٌ ومخربشاتٌ بخط المسند، ورسومٌ حيوانيّة وآدميّة كصور الوعل، وصور شخص يحمل رُمحًا.
واللافتُ للنظر أنه في خاتمة كل سطرٍ يوجد حرفان مكرران "الحاء والكاف"، وبعد فك رموزها وُجد أنها قصيدة مكونة من 27 سطرًا، والقصيدة في مضمونها عبارة عن نشيدٍ يتقرب فيه المواطنون إلى آلهة الشمس، آلهة المطر لديهم، كما يحتوي النص على الابتهال والاستسقاء، وكأنه أنشودة للمطر.
انظر: أثر الحضارة اليمنيّة في تطور القيم الجمالية في المعابد اليمنيّة القديمة، منال سعد سالم محمد، رسالة ماجستير، جامعة عدن، 2001م، 64. وانظر أيضا: انظر: دراسات في التاريخ الحضاري القديم، 174.
وقد أقرّ الإسلامُ هذه الصّلاة، وتوارثها اليمنيون إلى اليوم، كما توارثها كلُّ المسلمين؛ حيث يؤدون صَلاة الاستسقاء، مصحوبة ببعض الأدعية والتوسل لله - عز وجل - بالسُّقيا والغيث.
ويشيرُ النقش Ja 653 إلى صُورةٍ من صُور التعبُّد الديني، في عهد الملك شمر يهرعش، ممثلة في صلاة الاستسقاء، وهو كما يلي:
1- ش ع ب ن/ س ب أ/ ك هـ ل ن/ ه ق ن ي و "إ ل م ق هـ".
2- أ ث هـ و ن ب ع ل أ و م/ ص ل م ن هـ ن/ ذ ذ "ب ن".
أتباع قبيلة سبأ كهلان قدموا للإله "المقه" ثهوان بعل أوام تمثالين من البرونز. وذلك شُكرًا بما منحهم في طلبٍ وتوكلٍ طلبوه من سيدهم المقه بعل أوام، قبل سقوط أمطار سنة ودد إل بن حزفر الثالثة، وتفاءلوا من المقه، ليمنحهم سقيا وفيرًا لمأرب وأوديتها ومراعيها، بيوم الرابع من شهر "ذو مليت" من هذا العام، وفي اليوم الذي طلبوا من المقه، فمنحهم مطرًا وسقاية الذي أرضى أتباعه، حتى العشر الأواخر من شهر "ذو مليت"..
انظر: الأوضاع السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية في عهد الملك شمر يهرعش، خلدون هزاع عبده نعمان، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، د. ط، 166. وأيضا: ص: 168.
وأهم نقش يحدثنا عن صَلاة الاستسقاء هو Ja 375، حيث يقدم لنا هذا النقشُ وصفًا ينبضُ بالحياة للكيفيّة التي يتم فيها ممارسة الطقوس الخاصّة بالاستسقاء، فيحدثنا النقش عما أصابَ بلادَ سبأ من قحطٍ شديد بسبب الجفاف ونُدرةِ الأمطار الذي استمر عامًا ونصف العام، مما دفع قبيلة سبأ وبنات مارب للسير إلى معبد الإله المقه "معبد أوام"، في موكبٍ دينيٍ، حيث أطالوا دعواتهم وتضرعاتهم، وأكثروا من تقديم القرابين، ومن الطواف إلى أن تمت الاستجابة لدعواتهم في اليوم نفسه، فهطلت الأمطار بغزارة، وملأت مياهُها حقولَ الزرع، وروّت كلَّ الوديان والحقول.
انظر: دراسات في التاريخ الحضاري القديم، 175.
وهناك نقش: Ja 658/1-12يتحدثُ عن صلاة الاستسقاء، قامت بها قبيلة سبأ كهلان للإله المقه، لغرض أن يمنحَها المطرَ بعد جفاف، ويعطيهم الإله إشارة بتحقيق ما طلبوه منه، وبعد ذلك حقق لهم الإله مرادهم، بأن أنزل عليهم المطر، وكان نزول المطر في اليوم الرابع.
وثمة قصيدتان بخط المسند، وهما عبارة عن دعاء استسقاء، إحدى تلك الأناشيد يتوجه فيها صاحبُها بالدعاء إلى الإله "كهل"، وهو الإله الرئيس لقبيلة "كندة"، طالبًا المطر بعد اشتدادِ أزمة القحط؛ حيث شحّت الأمطار، وجفت الآبار والوديان. نفسه، 175.
الحلقة الخامسة: محظورات الحج
للحج عند اليمنيين القدماء آدابُه الخاصّة به، كشعيرةٍ مقدسة، يجب ألا يتخللها ما يستوجبُ غضب المعبود. ويبدو أنّ ثمة قوانين صارمة قد وُضعت بحق من يخلُّ بآدابِ الشّعيرة المقدسة.
يذكر أحد النُّقوش مثلا أنه إذا حدث أن جَرَحَ أحدهم آخرَ خلال زيارة معبد "حلفان" فينبغي أن يدفعَ أرشًا بعد القسامة "اليمين"؛ فإذ سال الدم على الملبس في جرح في اليد فعليه أن يدفع مبلغًا مُعيّنًا لسدنةِ المعبد، ومبلغًا آخر للكهان، وإذا لم يسل الدم فعليه أن يدفعَ مبلغًا أقل من ذلك. انظر: أوراق في تاريخ اليمن وآثاره بحوث ومقالات، سابق، 50
وذكرت الباحثة الدكتور أسمهان الجرو قائمة بمحظوراتِ الحج، وهي:
1- يحظر الإله تألب على الحجاج في منطقته دفع الرسوم الضريبيّة.
2- يحظر رعي الماشية عمدًا في يوم "ت ر ع ت".
3- يحظر صيد الوعول الحوامل والمرضعات.
4- يحظر سَوق الناقة بطريقة تسبب لها الأذى في فترة الإحرام.
5- يحظر على "سمعي" عمل كمائن صيد في فترة الحج.
6- يحظر الجماع أثناء الحج، وهناك عدة نقوش تزكي هذا الحظر؛ إذ يعدُّ الجماع في الحج خطيئة يستوجب عليها التكفير والاعتراف العلني بالذنب.
7- يحظر على سكان "ر هـ ب ت" من التباهي بالآباء في يوم "ت ر ع ت".
8- يحظر النزاع أثناء الحج. انظر: دراسات في التاريخ الحضاري لليمن القديم، سابق، 173.
9- حظر قيام المرأة بشعائر الحج وهي حائض، كما في النقش: CIH 533/3-5. انظر: الحج في الفكر الديني، 208.
ونتوقفُ هنا عند فلسفة هذه النواهي والأوامر التي أقرتها شعيرةُ الحج اليمني قبل الإسلام بأبعادها الروحية والحضارية، والتي وافقتها تعاليم الشريعة المحمديّة بعدها بمئاتِ السنين، سواء كانت الموافقة كليّة أم جزئيّة.
ففي أيامِ الحج إلى مكة المكرمة في تشريعاتِ الفقه الإسلامي يُحظر الصّيد، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) المائدة:95. وهي إشارةٌ إلى أهميّة الحفاظ على التنوع البيئي الحيواني الذي تنظمه القوانينُ المعاصرة في مختلفِ دول العالم المتحضرة، وحفاظا عليها من الانقراض؛ لأن الصّيدَ لو لم يُحرّم لانقرضت هذه الحيوانات في موسم أو موسمين فقط، ولأصبحت جميعًا في خبر كان، خاصّة مع كثرة أعداد الحجيج. ومثل هذا تحريم قطع الأشجار والنباتات وما في حُكمهما.
كما يُحرمُ أيضًا الرفث "الجماع" أثناء تأدية فريضة الحج، ويُحرم أيضًا الجدل "النزاع" أو أية أعمالٍ مخلةٍ بالآداب، وصفت بالفسق: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)؛ حفاظا على الذوق العام، وتأكيدًا أكثر على أهميّة الجانب الروحي الذي يسمو على الجانب المادي في حياة الإنسان. ومَن أخلّ بواجبٍ من واجباتِ الحج لزمته الفدية، أو العقوبة المحددة.
وقد ورد حظر تحريم الجماع في النقش:RES 4176/ 7 ؛ حيثُ يستمر هذا الحظر حتى يفيضَ الحجاجُ من مكانين، هما: "ث م ث" و "أ ت م ن". إنّ الإفاضة والوقوف في هذين المكانين كانا من أعمال الحج في العربيّة الجنوبية. نفسه، 207.
ويحكي النقش: CIH 533 أنَّ رجلا قدم كفارة، وأعلن التوبة؛ لأنه جَامَعَ امرأته في اليومِ الثالثِ من الحج. انظر: التشريعات في جنوب وغرب الجزيرة العربية، سابق، 180. وانظر أيضا: الهوية الحضارية في النُّقوش العربيّة القديمة، سابق، 329.
وإلى جانبِ هذا النقشِ في هذا الموضوع، فثمة نقوشٌ أخرى تشيرُ إلى توبةِ أصحابها العلنيّة من خطاياهم التي اقترفوها.
يشيرُ البندُ الرّابع "يُحظر سَوق الناقة بطريقة تُسبّبُ لها الأذى في فترة الإحرام" إلى مسألةٍ مهمةٍ في "حقوق الحيوان" وهي من السلوكيّات الحضاريّة التي لم يعرفها الغرب إلا في القرن العشرين، فيما هي في اليمن منذ ما قبل الميلاد. وقد تعامل اليمنيُّ مع الحيواناتِ الأليفةِ والداجنةِ قريبًا من تعامله مع بني البشر، فأسكنها داره، وسمّاها كما يسمّي أبناءه، ورعاها بعنايةٍ خاصّة.
ويشيرُ البند السّابع في قائمةِ المحظوراتِ إلى مسألةٍ مهمة، هي جوهرُ ولبُّ التشريعات السَّماويّة، وهي مسألة المساواة بين الخلق؛ إذ يعدُّ التفاخرُ بالأنسابِ والأحسابِ عملٌ طفوليٌّ جاهليٌّ، لا يمتُّ للإنسانيّة بصلة؛ لهذا دعت التعاليمُ الدينيّة - في كل الشّرائع - إلى ترك هذا الداء.
وقد خُصّصت قائمة بالأعمالِ المحظورة التي كانت تُنقشُ على ألواحٍ حجريّةٍ طويلة، وتوضعُ في أماكنَ مختلفةٍ من المعبد، وفي مداخل الطرق التي تؤدي إليها. كما نُقشت تعاليم أخرى تحضُّ الحجاج على الآداب العامة، وحفظ السكينة والوقار، والتزام الآداب أثناء ممارسة شعيرة الحج، وتعاليم أخرى أيضا.
وبالجملة فإن هذه التعاليم بقدر ما هي تعاليم دينيّة، هي أيضًا تشريعاتٌ مدنيّة حضارية، تعكس - فيما تعكسُ - رقيَّ المجتمع التشريعي نفسه، وخاصة في ذلك الزمن القديم الذي لم تكن قد شاعت فيه مثل هذه المفاهيم، وللقارئ أن يتخيلَ أن يتم تدوين نقش خاص بحادثة يسيرة في الحج، تتمثل في إصابةِ أحدِ الحجاج بجرح في أحد المعابد، كما في النقش CIH82، ويبدو أنّ ذلك بسببِ ازدحام موكب الحجيج. انظر: الحج في الفكر الديني، سابق، 120.