نصف قرن على اغتيال محمد أحمد نعمان
لطفي نعمان يكتب عن نصف قرن على اغتيال النعمان في اليمن الابن: محمد أحمد نعمان ولا إبانة
على العكس من القاتل، أو القتلة، لا بد لكل قتيل، ككل القتلى، أن يكون معلوما.. كي يكونوا عبرة.
مر نصف قرن. 28 يونيو 1974م - 2024م، والعِبرة بقيت أن هذا القتيل.. الشهيد الأستاذ محمد أحمد نعمان عاش كائنًا أكبر من طاقة استيعاب قتلته.. وما كانوا ليتجاوزوا حضوره الطاغي وما توهموه من خطورته إلا بخمس رصاصات تخترق قلبه.
تعبر الرصاصات الخمس عن هوية قتلته وفرقوا دمه بينهم. أكانوا عسكريين أو مدنيين أم قبليين أو حزبيين أو أجيرين.. يمنيين وغير يمنيين.
"من اغتال النعمان؟". سُئل ذات يوم أحد قادة اليمن الجنوبي السابقين من أحد الدبلوماسيين العرب؛ "التطرف والمزايدة" هكذا أجاب. وهكذا، مع كل ما سيأتي، قد يتضح من هم، وما وراء قتل النعمان الابن.
غير سؤال: من قتل النعمان، يقفز سؤال آخر: لماذا قتل النعمان.
ألأنه كان عقلا وسط ركاب المجانين.
وشعاع فكر لقافلة من المظلمين.
واقعيًا يصطدم بالمزايدين.
وطنيًا يجابه الطائفيين والمناطقيين.
جمهوريا يحاور الإماميين.
مدنيًا يحاضر العسكريين.
معتدلًا يواجه متطرفين.
"إذا سمع الناس ألفاظه .. خلقن له في القلوب الحسد
فقلت وقد فرس الناطقين: كذا يفعل الأسد بن الأسد"
لكن، من خمسين سنة، هل هدأت أو تهدأ "غوبة: زوبعة" التساؤلات عمن وراء اغتيال الشهيد الأستاذ محمد أحمد نعمان.. إنما من يكترث وقد سقطت رؤوس كثيرة من قبل ومن بعد. مَن بحقيقة الحادث وخلفياته سيهتم..
عقب استشهاد القاضي محمد محمود الزبيري، كشف محمد نعمان حقيقةً أهم:
".. قُتِل الزبيري حقاً، كما قتل المسيح، وغاندي، وكينيدي.
ولتكن الرصاصات آتية من أي مصدر.. فذاك لا يهم..
المهم هو اتضاح الصورة أمامنا قيمة الروح الإنسانية في بلادنا.. اليمن".
مقتل نعمان الابن ومقتل من قتلوا بعده وقبله جميعا استمرار لمسلسل نزيف دم بعد دم يمني سال هدرا.. ودعا كل "الأطراف المعنية في اليمن: ليقف النزيف في اليمن" حتى غدا هو القربان لوقف النزيف والمدنية والعقلانية. وأكد قيمة الروح الإنسانية في اليمن.
ترى أي قضية تبناها النعمان الابن وخاض تفاصيلها حتى أودت بحياته في بيروت -بعد أسبوعين من حركة التصحيح في صنعاء ١٣ يونيو ٧٤م- على مرأى ومسمع من زوجته عزيزة وابنته أم هانئ، وصديقه اللبناني شاكر ناصيف الذي اضطر بعد اصابته في الحادث للهجرة إلى كندا.
كم قضية تناولها الأستاذ بن الأستاذ وأثارها عاصفةً خارج جداول الاجتماعات والمؤتمرات حتى فرضت إدراجها وسط محافل يمنية محلية واقليمية ودولية.
كثيرة تلك القضايا فمنها الحدود، وجبهة ظفار، والوحدة، ومنها السلام في اليمن، ثم في الشرق الأوسط، فيقترح على قادة سوريا يومئذ أن يسارعوا إلى حجز مقعدهم في مفاوضات السلام، وأن يطرح على وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر حق الفلسطينيين في تمثيل فلسطين في المفاوضات، وأن يتبنى طرح مقترحات مصالحة وطنية أضرت بالمصالح الشخصية. وبينها نظام الدولة. وتنظيم إدارتها. وهندسة مستقبلها.
تقدميته. وجمهوريته.. ووطنيته ووحدويته ومبادراته لم تكن شافعة له أو نافعة حيث حل وارتحل. فسوء الحظ مولع بالعباقرة كما قال عنه متأسياً القاضي عبدالرحمن الإرياني في رسالة الى السفير حسين المسوري.
كُتِب عليه أن يمضي حياته باحثاً عن مستقبل اليمن، من قبل بلوغه سن العشرين حتى انقضت حياته في الحادية والأربعين.
"عاش بحاثا عن الصعب يفرش الزهر ليخفي الحفرا" كما رثاه الفضول.
يستيقظ من يوم لآخر ومن لحظة لأخرى يطرح مشروعا تلو آخر وفكرة تلو أخرى ويتنقل من أفق لآخر. فتقرأه من بعد دعوته الأولى للجمهورية اليمنية يقترح إعادة صياغة مقدمة ابن خلدون، ويُعد بيبلوغرافيا اليمن، ويهتم بوضع خارطة اليمن، ويشجع تنظيم وتوحيد العمل التعاوني، ويواكب نشوء التجربة الديمقراطية بمراقبة الانتخابات البرلمانية الأولى ويطرح استبيان مناقشة مشروع الدستور، ويشرع قرارات وقوانين ونظم الفصل بين السلطات، ويسعى في تصحيح وضع الدبلوماسية اليمنية شمالا، حتى إبداء استعداده تنسيق وتوسيع آفاق العلاقات الخارجية لليمن الجنوبي نحو أوروبا الغربية.. وينصح بتخفيف حدة التطرف هناك.. ويجترح فكرة إصلاحات سياسية لبعض دول الجزيرة العربية تمهيدا لتأسيس نظام اتحادي بجمع دول الجزيرة كافة.. زخم تلك المشاريع جعلت واحدا من أصدقائه د.يوسف إيبش الأكاديمي والمؤرخ السوري يقول: "إن إعادة تلوين البحر الأحمر أحد أصغر مشاريع محمد نعمان".
أمام إلحاح السؤال: من قتل النعمان. جاء الجواب يوما من "الأستاذ الأكبر" النعمان الأب: أحمد محمد نعمان صادرا عن قلب طهور، بعدما حبس الدمع كليثٍ هصور، إثر مصرع نجله.. ظل يجيب السائلين متساميا، متسامحا تجاه من فَجعوا قلبه بفلذة كبده: "سامح الله من قتله".
على الأب والابن رحمة الله.. وبيده حُكمه على كل القتلة.