منوعات

لماذا الأغاني الفرنسية ليست جذابة

لماذا الأغاني الفرنسية ليست جذابة؟ رغم وجود ألحان جميلة - جمال حسين يجيب


لماذا لا تشدني الأغاني الفرنسية، رغم وجود ألحان فرنسية جميلة؟ إشكالية الغناء الفرنسي أمر مرتبط بعقلية فرنسية تقدس المنطق. وهذا سياق ينعكس في لغتهم، من ناحيتين. الأول؛ ما تتمتع به من دقة مقارنة باللغات الأخرى. وهذا ما جعلها لغة المواثيق والعقود، أي أنها لغة قانون أكثر قابلية لتحديد المعاني، مقارنة باللغات الأخرى، وعدم تحميلها معاني يمكن تفسيرها بطرق متعددة.

وهذا الجانب لا يتدخل بموضوع الغناء، لكنه يعكس الذهن المنطقي. وربما أميل لرأي كان صديقي نبيل قاسم تحدث به، وهو يجيد الفرنسية، بأن تلك الدقة في اللغة أثرت سلباً على الشعر الرومانسي الفرنسي، لافتاً إلى أن الشعر الرومانسي الإنجليزي أو الألماني أفضل من نظيره الفرنسي. مع ذيوع صيت شعراء فرنسا الرومانتيكيين مثل فيكتور هيجو ولامارتين، بخلاف الأدباء اللامعين مثل شاتوبريان.

ولا يمكنني أن أبني حكمي الخاص في هذه الناحية، رغم أني أشعر بحذلقة في التعبير الرومانسي في لوحات ديلاكروا، وكانت محملة بمنطق استشراقي سحري، مازلت أشعر بجانب مفتعل فيه، رغم معارضة أحدهم لوجهة نظري. هذا السياق نجده في الرسم يتسم بتوهج لدى بوسان، خصوصاً بتصوير الطبيعة، كونه ينتسب لحقبة الباروك التي يكون فيها الزخرف دون إفراط. أيضاً الاتجاه الانطباعي برعوا فيه لأنه يتسم بمسحة علمية، من حيث خلق الأثر الانطباعي.

إذن دعونا في الجانب الثاني من اللغة، وهو الذي يحد دون انطلاق اللحن والغناء، وهي مسألة تتعلق بمنطق فرنسي لكن بطريقة نبرهم للصوت، لغة تتسم بهذا الطابع الموزون في النبر، أيضاً ينم عن دقة وضرورة، وهذه القداسة لا تسمح للغناء بتجاوز قيود النبر.

ربما لم أكن متيقظاً لهذا الجانب، لولا قراءتي مؤخراً. لكن منذ بضعة سنوات وأنا أكتب عن الأوبرا، وخلال مراجعتي لأوبرات لولي، وهو أعظم موسيقي باروكي فرنسي، ورغم جذوره الإيطالية، فإنه أفضل من مثل الموسيقى الفرنسية في بلاط لويس الرابع عشر. كنت أحس الأوبرا الفرنسية، لا تتسم بجموح تعبيري، مقيدة، ومنمقة، ربما كانت موسيقى لولي تجسد ذائقة البلاط، بسياقها الزركشي، وهي الذائقة التي أفضت إلى الروكوكو. مع أن الروكوكو بلغت ذروة جمالها الموسيقي في بلاط فيينا، وتحديداً مع موسيقى هايدن.

لم أستوعب أن هذا القيد كامن في طبيعة النبر اللغوي، مع أني كنت أدرك جيداً طبيعة الذهن الفرنسي المأخوذ بالمنطق. وهذا لا يعيبهم، بل على العكس، جعلهم بارعين في ابتداع الأفكار وابتكارها. فاعتقدت أنه منطق يفرض نفسه على طبيعة البناء الموسيقي، أو الألحان.

لكن النبر الموزون، يحول دون ان يمنح الغناء طلاقة وجموح. وحتى اكون أكثر دقة، هذا الحديث ربما يرتبط بدرجة أساسية بالغناء الاوبرالي، بحيث يعيق التعبير الدرامي. فنجد لغة خشنة لكنها غير مقيدة بنبر محدد وموزون بدقة، مثل الألمانية أكثر جموحا في التعبير.

لكن النبر الموزون، يحول دون أن يمنح الغناء طلاقة وجموح. وحتى أكون أكثر دقة، هذا الحديث ربما يرتبط بدرجة أساسية بالغناء الأوبرالي، بحيث يعيق التعبير الدرامي. فنجد لغة خشنة لكنها غير مقيدة بنبر محدد وموزون بدقة، مثل الألمانية، أكثر جموحًا في التعبير. مع هذا، الإنجليزية لا تصلح للأوبرا بسبب النطق المقطعي للكلمات. لكنها ليست مقيدة بمنطق محدد للنبر.

لذا، قابلة لأن تبدو على سجيتها في الغناء غير الأوبرالي. لا يعني أن الفرنسية ليست جميلة، أو أن هذا يجعل من الموسيقى الفرنسية غير جيدة. على العكس، هناك أصوات عذبة وألحان جميلة. لكن حتى قبل أن أعي هذا القيد، لم أكن أشعر بانجذاب للغناء الفرنسي. مع هذا أبهرني المنطق الفرنسي في الرواية، وكثير من الكتابات الرائعة، بخلاف روسو الذي وجدته حاملًا للأنوار في كف واعظ. فالدقة التعبيرية التي يتمتع بها الفرنسيون، قلما نجدها لدى غيرهم.

مسألة وجدتها لدى مونتسكيو، وهذا يجعل من الكتاب الذين يتمتعون بخيال خصب، مبهرين في ذلك. رواية "علاقات خطرة" على جمالها، تتحول بيان اجتماعي حول خفايا أخلاق الطبقة الأرستقراطية في القرن الثامن عشر.

زر الذهاب إلى الأعلى